دعاء البطراوي - شبشب مقلوب .. قصة قصيرة

"البقاء لله.. شِد حيلك"

قالها الطبيب بلهجة آلية و انصرف! تركني مأخوذا من هولِ الصدمة ، أطوي جراحي بين ضلوعي، تستأذنني دمعاتي في الهطول، و أنا أكبح زمامَها بكل ما أوتيت من قوة.

لم تكن أشد أزماتِ جدتي الصحية، فاعتقدت أنها ستمر بسلام كسابقاتها، وحدها كانت تعلم أنها الأخيرة لذا قبضت على يدي بقوة و قالت كأنها تودعني:

_ابقى اترحم عليا يا ولد..

طبطبتُ على كفِها المرتجف ، قلتُ لها مطمئنا:

_هتعدي زي اللي قبلها ...

تمتمت حينها في قلق :

_بس أنا عيني الشمال بترف ..

لم أجادلها تلك المرة ، أشفقتُ عليها من محاضرةٍ طويلة تسمعُها دائما مني كلما اصطدمتُ بأفكارها القديمة، واكتفيتُ بقبلة سريعة على جبينها ، ثم الدعاء لها بطول العمر .

"عاوزين توقيعك عشان تستلم الجثة "

الجثة! أوجعتني الكلمة، تجرعت مرارتي بحلقي، وبذلتُ جهودا جبارة كي أتمالك نفسي، وبدأتُ أوقع باسمي هنا وهناك في أوراقٍ لا أعرف ماذا بها! فلم يكن الذهنُ صافيا كي أتمعن وأدقق، ولو كانت أوراقٌ لبيع ممتلكاتي الزهيدة لوضعت توقيعي عليها دون أن أدري.

توقف القلمُ بين اصابعي حين تنبهت لتاريخ اليوم، اكتشفت أننا في اليوم الثالث عشر من الشهر، ابتسامة بائسة علت شفتاي، ما كانت جدتي لتسمح أبدا أن يُكتب ذلك الرقم في أوراقٍ تخصها! سامحيني جدتي.

الجنازة تسير وأنا في مقدمتِها أسير كتمثالٍ متحرك وكأن الزمن قد توقف بي! لم أكن مستوعبا أنني سأتركُها في حفرةٍ مظلمة بجوار أمي التي سبقتها إلى هناك قبل ثلاثين عاما، شعرتُ بمدى وحدتي ويُتمي رغم أن أبي كان بجواري، يربتُ على ظهري من حينٍ لآخر بيده الباردة التي تركتني لدى جدتي وأنا لا زلتُ "حتة لحمة حمرة " تساءلتُ في نفسي هل ندمت جدتي حين تشبثت برعايتي ورفضت باستماتة أن تربيني زوجةُ أبي؟ فأنا اعترف أنني لم أكن طفلا مريحا البتة! فقد كانت لعبتي المفضلة هي كيف استفز جدتي و أُخرِجها عن شعورها، وكان أكثر ما يثير حِنقُها أنني لا أؤمن أبدا بمعتقداتها الأثيرة فقد اعتبرتُها خرافاتٍ ضاحكة ، لذلك كانت صيحاتُها تتعالى حين تراني أبدأ بالكنس ليلا متظاهرا أني أساعدها ، فتعنفني قائلة :

_بلاش تكنس بالليل.. ستطرد الملايكة يا ولد...

يجن جنونها حين تجدني أفتح المقص وأغلقه بحركاتٍ متتالية، فتتعصب:

_ يا ولد هتجيب لنا النحس في البيت...

ضبطتني ذات يوم متلبسا بارتداء الحذاء بالمعكوس، فضربت صدرها و صاحت:

_هو احنا ناقصين فقر يا ولد..

وكانت الطامة الكبرى حين وجدتني أقلب شبشبي متعمدا، يومها شدت أذني و نهرتني:

_الشبشب المقلوب بيجيب الهم ...



أسفل شرفتِها مباشرة كانت الكراسي مصفوفة بعناية تستقبل المُعزين، تمر وجوهَهم أمامي كأنها بلا ملامح، تنطق ألسنتُهم نفس العبارات التقليدية في مثل تلك الظروف كأنها جُمل صماء ليس لها معنى، وأنا أفكر كيف ستقضي جدتي ليلتَها! وهل ستؤنسها عظامُ أمي و جدي؟!



"خد.. كلم عمتك.. عاوزة تعزيك"

قالها أبي وهو يعطيني هاتفه، لم تستمر المكالمة سوى دقيقتين لا غير! مكالمة قصيرة باهتة كعلاقتي بعمتي التي لا أذكر وجهها!

كانت جدتي مقتنعة تماما أن عمتي هي السبب في موت أمي لأنها دخلت عليها وهي حائض! عجزتُ وقتها أن استنتج العلاقة بين موت أمي وحيض عمتي!

فتأففت جدتي وأوضحت :

_ ما ينفعش واحدة عندها ظروف زيها تدخل على واحدة نَفَسَة ... تكبسها ع طول..

يومها جاهدت كثيرا كي أكتم ضحكتي، أخبرتها أن أمي كانت مريضة بالقلب كما عرفت لذا لم تحتمل، فنهرتني في غيظ:

_ انت ما تعرفش حاجة... عمتك كانت خلفتها كلها بنات وكانت غيرانة من أمك عشان جابت الولد.



حين بدأ المعزوُن في التناقص.. سألني أبي إن كنت أريد شيئا قبل أن يذهب، أردتُ أن أخبره أنني احتجته كثيرا من قبل ولم أجده، احتجت ذراعيه القويتين كي أحتمي داخلهما من قسوة الظروف التي عصفت بي طفلا وشابا، كدتُ أصرخ بوجهه أنني كنت يتيما وهو حيٌ يُرزق، كان غضبي عارما، فتكبدتُ مشقةً هائلة قبل أن أخبره بنبرة فاترة:

_ شكرا .. مش عاوز حاجة..

حين دخلتُ المنزل.. شعرت بتقزمي رغم طولي الفارع، رأيتُ كل شئ و قد استفحل فجأة بشكلٍ مخيف! فركضتُ نحو حجرتها ودمعاتي تسبقني، أرجوها متوسلا أن تعود، جذبتُ عباءَتها البيتية أتنفسُ رائحتَها العالقة بها، أناديها ملتاعا لعل روحها تأتيني لتعانقني و تهدئ من روعي!

تنبهت لشبشبِها المركون جانبا، كان مقلوبا على غير العادة! انحنيتُ لألتقطه وقد ازدادت وطأة دموعي على وجنتاي، دفنت شبشبَها بين أحضاني متأوها من فرطِ الحزن، ثم وضعته في مكانه معدولا، منحتني ابتسامةَ رضا من خلال صورتِها المعلقة، وكأنها تقول لي أخيرا فعلتها يا ولد!

د. دعاء البطراوي
  • Like
التفاعلات: نبيلة غنيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى