شحتة سليم - المنظر الأخير.. قصة قصيرة

تقابلنا.. اختلفت الملامح، عيناها الجميلتان كانت فيهما نظرة حزن. تقابلنا. بنظراتها كانت تبحث عني، تراجع ملامحي، تقاطيع وجهي، تحد النظر وتبتسم، شعرت بأنها مليئة بالكلام والحياة فتموت في الصمت.
قالت: لقد تغيرت، ظننت بأني سأجدُك كما أنتَ. كنتُ أنا الآخر أبحث عنها و لم أرِدْ أن تلحظ هذا، وعندما سألتني: وأنا .. هل تغيرتُ؟ قلت: لازلت كما أنت .. قمرا. ابتسمت بخجل. ثم قالت: لكنك تغيرت، اختلفت ملامحك. وعندما سألتها عن الذي تغير فيَّ بالضبط، قالت: لا أدري، ثم أكملت معللة: نحن لم نتقابل سوى مرتين، ثم ابتعدنا أكثر من عامين.
كانت الدنيا في منظرها الأول شديدة البرد ، رياح ، تراب ، ثم قليل من المطر . قالت بأنها تشعر بالبرد ، قلت بأني أريد أن أشرب شيئا ساخنا ، ثم قلت : نأكل أولا ثم نشرب الساخن، رفضت هي فكرة الأكل ، بحثنا عن مكان دافئ ، واختبأنا .
دخلنا ، في المقهى جلسنا ، اختارت هي أنسب مكان في أبعد الأركان ، اخترت مشروبي الساخن ، واختارت هي مشروبا باردا ، بالرغم من أنها تشكو شدة البرد ، تلاقت عينانا ، داعبتها بكلمة غزل فلمعت عيناها كجوهرتين ، تذكرنا معا الكلمات الأولى . وطريقة التعارف التي تمت بيننا في اللقاء الأول ، متى وأين ، ثم أخذنا نردد العبارات التي أهديتها في تلك المرة البعيدة . قلت بأن أمان الدنيا كنت أعيشه في تلك اللحظات ، أمان الغار والدير والكهف . قلت بأني أريد أن أسكن عينيها ، واستدركتُ ، الأفضل أن تسكن هي عيني ، ستكونين أنت ملء الدنيا ، ستكونين أنت لي الحياة..
سألتْ كيف اتصلت بي صديقتها ، وكيف أعطتني رقم هاتفها ، أخبرتها . أريد أن أسمع صوتها ، قلت : تحدثي ، احكي لي ماذا فعلت طوال هذه الفترة ، بدأت تحكي : أكملت الدراسات العليا ، عامان ، وأنا الآن أجهز للماجستير ، وأخرجت شهاداتها ، أخذت أتأمل بإعجاب شديد صورها الشخصية المثبتة على الأوراق الرسمية ، ثم سألتها عن واحدة ، صورة ، ابتسمتْ ، وأخذتْ تلملم الأوراق مرة أخرى ، توقفتْ فجأة عن الكلام ثم سألتْ : هل توقفت فعلا عن الدراسة ؟! قلت : نعم .. عدم الاستقرار في مكان لا يحقق حلما ، ولا يصنع مستقبلا ، عملي في القاهرة وبيتي في الزقازيق ، لا أستطيع الحياة في زحام القاهرة ، ولا يوجد لي عمل في الزقازيق . قالت : لماذا لا تسافر ؟ قلت بأن البنيان هنا أفضل من البنيان في الخارج وأعود مرة أخرى لا شيء ، حتى ولو كنت أملك مالا كثيرا . قالت : إنك غريب .. قلت : وأنت . قالت : لا ، مثلي يوجد الكثيرات . قلت بأني أعيش في هذه الدنيا منذ زمن بعيد ، قابلت الكثيرات لم تأخذني واحدة مثلما أخذتيني أنت ... ماذا بعد ؟
أكملت : خطبت ولم أكمل معه ، كان مدخنا ، وعندما طلبت منه الامتناع عن التدخين ، بعد مناقشات عدة، استجاب ، ثم بعد ذلك اكتشفت بأنه يكذب علي ، لم استرح معه ، وعندما سألتها ألم يقدم هو شيئا يشفع له ، قالت : لم يفعل شيئا ، كان يأتي للزيارة في أوقات غير مناسبة ، وكنت أنا مشغولة بالدراسة والامتحانات، ولم يراع هو ذلك ..
تمنيت أن تعود بي حياتي للوراء وأبدأها من جديد على يديها ، أولد وأنمو وأزحف على يديها ، وعلى يديها أتعلم المشي وأتعلم الحب ، لكن للأسف كان الوقت متأخرا جدا للتمنيات، حتى المرة الأولى منذ أكثر من عامين كان الوقت متأخرا ..
في صباح أحد الأيام .. كنت ارتدي ملابسي ، لاحظت شيئا غريبا في جانب عنقي .. لم أكن أشعر بتعب ، لكن المنظر مقلق . ذهبت للدكتور، طلب إجراء جراحة فورية ، كانت الغدة الدرقية ، أو بالأدق الفص الشمال من الغدة الدرقية ، ثم جراحة تجميلية أخرى في مكان الجراحة الأولى .. حتى الآن .. أنا الآن أتناول دواء بصورة دورية ..
كنت أسمع ، من داخلي كنت أتقطع ، كنت أتخيل .. تعبت . حزنت ، أخذتني في ناحية أخرى من عالمي ، وأردت أنا أن آخذها وأهرب بها بعيدا بعيدا ، أبعد بها عن كل هذه الهموم والأوجاع ، أردت أن يتحول الحديث ، سماع صوتها يغريني . حرَّكت حاجبها حركة جميلة أشبه برقصة هندية .. ابتسمتُ .. وطلبت منها أن تكررها ، فاستجابت مبتسمة .
من الخارج ، وعبر زجاج المقهى ، كان منظر جديد للدنيا ، بدأت الشمس تظهر ، توقف قليل المطر ، تقريبا الأتربة ، قلت : تغيرت الدنيا ، وأنا معك رأيت لها أشكالا جميعها مختلفة ، تكلمي .. صوتك بالنسبة لي حياة ، عيونك حياة ، ضحكاتك حياة ، رقصة حاجبك الفرحان حياة . قالت : مللت الحياة ، حتى أنت ، ليس لي الحق في الجلوس معك ، لست ملكي ، قلت : ليس شرطا لكي تستمتعي بالدنيا امتلاكها.. استمتعي بالحياة .. ابتسمت بألم وقالت : أريد الخروج ، السفر ، تمنيت السفر للسعودية ، وأبقى هناك طوال شهر رمضان ، رفضت أمي ، قالت بعد الزواج . أحلم بالسفر إلى دبي ، جميلة دبي ، لبنان .. قاطعتها : جميلة لبنان لكنها مقلقة ، قالت : ٍهذا صحيح ، أسافر دبي ، وأنت أيضا تسافر ، وأتصل بك هناك ، لن يكون لي غيرك هناك ، وأنت أيضا ، ونكون معا ... فجأة توقفت عن الكلام وقالت : وأنت ؟! حدثني عنك ، ماذا فعلت ؟ قلت : لاشيء ، توقفت أحلامي ، فقط تزوجت .
كانت الدنيا تغير ألوانها ، بدأت الشمس تغيم ، وبدأ الليل يتسرب إلينا ، ظلمته ، وبرودته ، قلت : لقد بدأ منظر جديد للدنيا ، قالت : لقد تأخرنا . غادرنا المقهى الدافئ ، فاجأَنا الشارع البارد ، استقلينا ( التاكسي ) ، تمنيت أن يكون طريقنا بلا نهاية .. سريعا وصلنا ، ودعتها ، افترقنا ، سارت هي ، وبقيت أنا ، كان المنظر الأخير للدنيا ، كنت وحيدا ، وكان المطر شديدا .

شحتة سليم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى