"مفهوم الواقع التصويري في فن الرسم" تأليف الفيلسوف الفرنسي: جاك رانسيير .. ترجمة وتقديم المبدع الجزائري: كمال بومنير

خليقٌ بنا بادئ الأمر –ونحن نتحدث عن فن الرسم- أن نشير إلى أنّ هناك من جهة، الممارسات الفنية، ومن جهة أخرى، التأويلات المتعلقة بهذه الممارسات؛ وبعبارة أخرى بإمكاننا القول إنّ هناك ما يُسمى ﺒ"الواقع التصويري" Fait pictural ومجموع الخطابات التي أنتجها الفلاسفة والكتّاب أو الفنّانون أنفسهم حول هذا الواقع منذ اللحظة التي اعتبر فيها الفيلسوفان الألمانيان هيغل Hegel
وشيلنغ Schelling فن الرسم شكلا من أشكال تجلي مفهوم الفن المماثل لتجلي أو تمظهر الروح أو المطلق. وعلى الرغم من ذلك، فإنه سرعان ما يختفي ويتبدد التعارض بينهما ( أي الواقع التصويري والخطابات)، وذلك حينما نطرح السؤال التالي:
فيما يتمثل على وجه التحديد هذا "الواقع التصويري" الذي يتعارض مع الخطابات المتممة له؟
بمقدورنا القول إنّ الإجابة السائدة، فيما يخص هذه النقطة بالذات، تظهر في صيغة تحصيل حاصل؛ وتوضيح ذلك أنّ الواقع التصويري لا يستعمل إلا الوسائل الخاصة بفن الرسم أي المواد الملوّنة وسطح مستوٍ ذي بُعدين. واللافتُ للنظر أنّ هذه الإجابة البسيطة -والحقُ يقال- قد أتت أُكلها، وهذا منذ موريس دوني Maurice Denis وصولا إلى كليمان غرينبرغ Clément Greenberg.
ولكن ومع ذلك، ثمة غموضٌ ما زال يكتنف هذه المسألة على ما يبدو؛ فمعلومٌ أنّ الكل يُقِرُّ بأنّ ما يميّز أي نشاط من هذه النشاطات هو أنه يتم من خلال استعمال الوسائل الخاصة بذلك، غير أنّ الوسيلة الخاصة بهذا النشاط متعلقةٌ، في الوقت نفسه، بتحقيق الغاية التي يجب أن يحققها هذا النشاط نفسه. وليس بغير ذي أهميةٍ أن نلاحظ أننا لا نحدّد، في واقع الأمر، الغاية التي تميّز عمل البنّاء بالمادة والأدوات التي يستعملها في عملية البناء.
وهنا يمكن للمرء أن يتساءل:
ما هي الغاية الخاصة التي نسعى لتحققيها عندما نضع المواد الملوّنة على السطح المستوي؟
في الواقع، علينا أن نقّر بأنّ الإجابة على هذا السؤال بالذات هي مجرد تحصيل حاصل لما سبق ذكره. ولعلّنا نذكّر عند هذه النقطة بأنّ فن الرسم قائمٌ على وضع مواد ملوّنة على السطح المستوي بدل ملأها بالصور الممثَّلة للأشياء الخارجية الموجودة في فضاء ثلاثي الأبعاد. وهذا ما أشار إليه كليمان غرينبرغ بقوله: "لقد تخلى الانطباعيون عن الطبقات التحتية والطلاء الملمّع ليذكرونا باستمرار أنّ الألوان المستعملة متأتية من أوعية وأنابيب دهان حقيقية". وحتى إذا كان مقصد الانطباعيين هو ذلك بالفعل، فهو أمرٌ مشكوكٌ فيه إلى حد كبير. لأجل ذلك، نرى ضروريا الإشارة إلى أنّ هناك عدة طرق لمعرفة كيفية استعمال أنابيب الدهان الحقيقية. وتبعا لذلك، يمكن، على سبيل المثال، الإشارة إلى ذلك على اللوحة أو بجانبها. ويمكن أيضا استبدال اللوحة بخزانة زجاجية صغيرة تحتوي هذه الأنابيب، أو وضع أوعية الدهان الحمضية في قاعة فارغة أو تنظيم ما يُسمى بالعرض "الحدثي" Happening. علينا أن نقّر إذن بأنّ كل هذه الطرق قد تم التأكد منها من الناحية التجريبية، وبذلك فهي تذكرنا دوما بأنّ الفنّان يستعمل مادة "حقيقية". غير أنّ ذلك يتم في، واقع الأمر، على حساب السطح المستوي التي كان من المفروض أن تتم فيه عملية الرسم. وعلاوة على ذلك، هذا ما كان يجب أن يتم من خلال الفصل بين المصطلحين اللذين عن طريقهما يثبت الرسم الوحدة الجوهرية بين المادة التلوينية والسطح ذي البُعدين.


........................................
(*) Jacques Rancière, "Le destin des images", Paris, éditions La fabrique, 2003, p 81.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

▪جاك رانسيير Jacques Rancière فيلسوف فرنسي معاصر، وُلد في مدينة الجزائر عام 1940. كان متأثرا إلى حد كبير بأعمال أستاذه لويس ألتوسر Louis Althusser لكنه سرعان ما انتقده وأعاد النظر في كثير من طروحاته الفكرية والفلسفية. وفي نهاية السبعينيات انصبت اهتماماته على دراسة المسائل ذات الطابع السياسي والاجتماعي كالسلطة السياسية وتحرّر الطبقة العاملة والتنظيمات السياسية والاجتماعية، الخ، من منظور ما بعد ماركسي.
▪من أهم مؤلفاته: "درسُ ألتوسر" 1975،
"ليلة البروليتاريين" 1981،
"المعلم الجاهل" 1987،
"الكلمة الخرساء. محاولة في تناقضات الأدب"1998، "لحم الكلمات" 1998،
"الاشتراك في المحسوس"2000،
"اللاوعي الجمالي" 2001،
"مصير الصور" 2003،
"عسر في الجمالية"2004،
"فضاء الكلمات" 2005،
"كراهية الديمقراطية" 2005،
"المتفرج المتحرّر" 2008،
"لحظات سياسية" 2009،
"الخيط الضائع"2014.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى