مصطفى سليمان - الشمعة الأخيرة

يتجدد الحزن في قلبي. لو أستطيع التحرك من فراشي وأُخرِج الشمعة الأخيرة من درج مكتبي؟ ليتني أذهب بها حيث أريد. لم أتوقع صفعة المرض، التي ألزمتني الفراش تماماً. أغمض عيني لأسافر إلى هناك. في شقتي القديمة، جاءتْ بلونها الخمري وشعرها الأسود ووجهها المستدير وعينيها الواسعتين وفمها الصغير وقدها الفارع، تخطو صوبي، يسبقها عطرها - الذي يسكن صدري إلى الآن - تقدم هدية عيد ميلادي ملفوفة بورق ملون، أفتح اللفافة. سبع شمعات. كدتُ أسألها. تضع إصبعها على فمي، وبيدها الأخرى تضغط زر المسجل. أنفاسها تقطر على وجهي: «اجلس».

تخرج من جيب فستانها شرائط ملونة. تقيدني في المقعد. ترص الشموع على شكل دائرة. تشعلُها. تطفئ المصابيح الكهربائية. تتراقص وهي تنزع قطعة من ثيابها وتلقيها عليَّ قائلة: «أغمض عينيك واسبح في عشقي». أرغب في اختلاس النظر، تلف شريطاً على عيني هامسة: «حتى لا يُبعث الشيطان في رأسك». فراشات ملونة تحرقني وهي تتراقص على الموسيقى، تخترق ظلمتي، لا أدري كم من الوقت مضى وأنا بين الساخن والبارد، تفك الرباط عن عيني. أنفاسها حَمامات ترفرف حولي، تسكن أينما شاءت، الشموع انصهرت حتى المنتصف، شيء ما يدفعني للنيل منها، أحاول فك قيودي، تنهار قوتي على ضحكاتها، ترتدي ثيابها بسرعة وخفة: «إن استطعتَ فأنا لك». أتخلص من قيودي. أراني واقفاً في منتصف الصالة برفقة ذهولي والشمعات.

أفيق على أنامل امرأة - تدعى زوجتي - أفتح فمي لأبلع قرص الدواء، أرتشف قليلاً من الماء، أغمض عيني من جديد.

بثياب سوداء وصوت رمادي قالت أختُها: «بعد حديثها معك نامت وجاء صباح بارد مثل جسدها». تلوَّن كل شيء أمامي بسواد الليل، أطوف شوارع مطموسة الملامح لا أعرف إلى أين؟ أو متى سأتوقف؟ يهرسني التعب لأسقط على الأرض، يحملني أولاد الحلال إلى البيت، تطلق أمي صرخة الوجع الخاطف.

الصباحات رمادية اللون صيفاً وشتاءً، قالوا لأمي: «زوجيه»، فسعتْ في الأمر ورضختُ له، لأفيق على جسدٍ يتمدد بجواري. ساخن، طازج، شهي. شيء ما ضائع، أبحث عنه بين أترابها. بين أنفاسها. بين سكوتها وكلامها. بين حجرات الشقة. حين فتحتُ درجَ المكتب، نفذَ إليَّ عبيرُ الشموع المنصهرة. «بابا... بابا». يدُ ولدي تهزني برفق، أفتح عيني، يتراجع الصغير خطوتين، ابتسم بشفتين مرتعشتين. بتردد يتقدم ليقبل يدي الممدودة ثم يتراجع بزي الحضانة خطوات حتى يرتطم بالمقعد الملاصق للجدار المقابل. في مكان لقائنا الأول - بيت صديقي المُسِن - بعد رحيلها بعام - على ضوء الشمعة الأولى ننسج بساطاً من الحكايات حتى انصهرت الشمعة. انتفض على يد زوجتي كأنني أراها للمرة الأولى. بيضاء، صبوحة الوجه، الدموع تنحدر عليه، أدير وجهي صوب عبير الذكريات.

تركتُ زوجتي تحتفل بمولودنا لأحمل الشمعة إلى ميدانٍ التقينا فيه، غير مبالٍ باندهاش المارة الملتفين حولي، أحدق في ضوئها المتراقص منتظراً ذوبانها، تشدني يد الشرطة، مع الصبح أخرج من المخفر برفقة صديقي المسن. تناقصت الشموع عاماً وراء عام، لم يبقَ إلا الأخيرة، لو كان صغيري كبيراً لأمرته أن يحملها لتذوب في مثواها. ساعتها سأشدد عليه ألا ينسى مكاننا السابع. لو أستطيع الكلام لاتصلتُ بصديقي المسن. لو. تقبض أصابع الألم على صدري بقسوةٍ، السواد سائل ثقيل ينسكب على كل شيء. شفتان تقبلان جبيني، جفناي ثقيلان، أبصر صغيري، يمسح على رأسي، عيناه ممتلئتان بالدموع. بصوت مخنوق، «بحبك يا بابا».

يضع رأسه على صدري، له العبير الخاص نفسه. لو احتضنه؟ لو طاوعني لساني لقلتُ: «أنا أيضاً أحبك». شيء ما يسحبني تدريجياً. طائرٌ أبيض يحلق وسط الظلام ليخبرني أن صغيري يضيء الشمعة الأخيرة بجوار فراشي، فأبتلع دموع الأسف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى