مقتطف محمد جميز - رواية : " ما كذب الفؤاد ما رأى".. الفصل الثالث

السيدة " فاطمة الدسوقي"

سلام من الله يهديء روع قلبك، ورحمة من الرحمان تحرس "مصطفى" أينما ذهب.

أعتقد الآن أنك تلتهمين بأعينك الأسطورية حروف ما كتبت، وهذا عين ما أردت، الحيرة ابتدأت معي منذ بداية الخطاب، عزف منفرد لسنوات حياتي المريضة، بوح أخير لكتمان مزقني أربعين سنة، أحببتك يا "فاطمة" وعجزت أن أُسمي حبك في أول الخطاب، هل أناديك حبيبتي أو غاليتي أو شقيقتي أو صديقتي؛ الحقيقة أنك فوق كل هذا وذاك.

كنت في العاشرة من عمري ورأيت، ومشاهد الرؤيا تحتل أرشيف الصور وتطرد كل ضحكات الطفولة، أبي كان موظفًا في الوحدة المحلية؛ ليس مدرسًا كما أوهمتك، كل صباح يكدح في عمله، ليلًا يعمل في مكتب هندسي، البيت استراحة لبدنه، تشعر أنه مغلوب على أمره، ويوم الجمعة يأتي بالجنة إلى منزلنا، حيث الألعاب والحلوى والفساتين ويقبلني على جبيني قبلة باهتة ويمضي مرة أخرى، وأنشغل بجنته، وفؤادي يفرغ تدريجيًا من فيضانه، فؤادي يمرض، وتسري إشارات الموت منذ وقت مبكر، فيما بعد عرفت أنه كان موظفًا فاسدًا، وقد حكم عليه بالحبس في قضية رشوة ومات في السجن.

اسمي "سعاد علاء عيسى"، أبي أقام سدًا على فؤادي ووهب فيضان قلبه لآخرين، أمي سيدة جميلة، في جسدها يسكن الجليد وتتأجج النيران، استبد العبث بأبي للحد الذي جعله يجامل بزوجته؛ وهي لم تمانع، بل اتفقت واحتسبت الأمر صفقة، والصفقة أنجبت مشروعًا، في حجرتي أستذكر دروسي، أبي يعرق في عمله، مدير أبي في حجرة النوم مع أمي يناقشان مشكلة الإنجاب في مصر، لا يوجد سبب لوجودي هنا، تركت جنتهم وهربت.

لم يهتم لرحيلي أحد، عرفت من الصحف فيما بعد أن حريقًا ضخمًا التهم الشقة بمن فيها، لا آبه لفراقهما، جئت إلى الدنيا يتيمة، قد ارتكبا في حقي جريمة العقوق، التحقت بخدمة المنازل، أتقاضى مرتبًا جيدًا، البالغون في البيت أحيانًا يقبلون جسدي بما يسمح به الوقت، في بداية الأمر كنت أغضب، واعتدت الأمر بعد ذلك، وتلذذت برؤيتهم كالكلاب حول جسدي، ينهشونه بأعينهم وبأظافرهم، فقط كما أريد، وأصبحت أنا الحاكم الخفي في كل المنازل، أنا "سعاد" وكفى.

انتقلت إلى الخدمة في القصور، ومنها إلى الخليج، وهناك قابلت زوجي، يعمل موظفًا في إحدى مراكز البحث العلمي، يذاكر جسدي جيدًا كل ليلة، يطبق ما تعلمه من متابعة الأفلام الإباحية، يهتم بالطعام والرحلات، هذه هي حياته وهذه هي مأساتي، اكتشفت إصابتي بداء الجوع العاطفي، كل ليلة تسري رعشة الشبق بأوصالي، أفزع إلى الشارع كالمجنونة، أطفيء نار الشوق مع أي أحد، وفي حمام المنزل أغتسل بالماء البارد، وتئن روحي ولا أبكي، ماتت دموعي يوم أن رأيت أمي وأبي يوقعان عقدًا مع الشيطان.

اخترت قريتكم للعيش بها حيث أصول زوجي، الخطيئة هي رفيقتي، وأستغني عن أي أحد ما عدا رفيقتي؛ حتى قابلت زوجك، واحتال قلبي، زوجك "أدهم" كان وفيًا وخلوقًا، وما حظ الدرويش في عالم من الأوغاد، أسمع ضربات النهار على باب شقتك الساعة السابعة صباح كل يوم، فوران القهوة على النار، شجار "مصطفى" على المصروف، وأشعر بخستي ووحدتي، وفي جوف الليل يعلو صوت زوجك بالذِكر، ترتعش أعمدة قلبي، ويموت حبي للدنيا، وتزورني "سعاد" الطفلة التي تحمل الشمس على ظهرها وتبتسم، وتظل تبتسم حتى يخفت لسان زوجك الذاكر وترتحل، وتطبق الخطيئة على رقبتي حتى الصباح، وتوقظني ضحكة النهار على باب شقتكم.

يا "فاطمة" أنا دم الحيض الفاسد وأنا حواء التي طردت من الجنة، أحلم بأن أقرأ أبياتًا من الشعر لـ"نزار قباني" في الإذاعة المدرسية، أتمنى امتطاء صهوة حصان محتضنة ظهر أبي وأقول أحبك يا أبي، ماذا لو ربتت أمي على كتفي ومسحت دموعي وأعطتني كوبًا من الحليب وقصت على مسامعي حدوتة "الشاطر حسن"، لن تقوم القيامة إذا وجدتني أستيقظ وأول وجه أرنو إليه في الوجود هو وجه أمي، والأم هي عدو كل غمّ.

عَبد الناس الدين الجديد، النقود هي الحاكم الخفي، وجدت "أنور" شقيق "أدهم"؛ وجدت ضالتي، كفر بكل الموروث، ارتدى عباءة الزيف ليقال عليه العابد الزاهد، كل ليلة كنا نلتحف العتمة، قادنا الفراغ إلى السَحَرَة، نطمح إلى إشباع الجوع، والمخطئ ظمآن لا يرتوي أبدًا.

تلامس أناملي المرآة، تتحسس خريطة جسدي، تنتهي بشعري، أنا مرض مزمن لنفسي، تتوق نفسي إلى البكاء، والعيون تهرب من مقلتيها تتمسح بأستار السماء، "سعاد" طفلة في الثامنة تزور باحة الجامع الأزهر، والتلاميذ كفراشات تشتم عبق التاريخ، المدرس يشرح لنا أهمية الأزهر العلمية، كيف دافع عن الحضارة والإنسانية، ورائحة غريبة تضوي في المكان، ترى المصريين على مدار عقود طويلة، كيف عشقوا آل بيت رسول الله ولم يتشيعوا، كيف أجلوا صحابة سيدنا النبي ولم يمسوا نواصب، دينكم فطري يا أحبابي، حثكم على الحب، على الخلق على الرحمة، كونوا سفراء لِنبيّكم بالعلم والأخلاق، وأشرق وجه المدرس قائلًا: البنات هُنَّ المؤنسات الغاليات.

أتعلمون يا أبنائي أن من أحسن إلى بناته كُنَّ له حجابًا من النار؛ هكذا تعلمنا من سيدنا النبي، هيا بنا نتوضأ وأعلمكن كيفية الصلاة عليه.

المرآة تبخّ التراب، منذ الثامنة وأنا لم أذق حلاوة البكاء، يا أبتي، لماذا لم تتحصن بي من النيران؟ احتجت فقط لحضنك عند النوم وقُبْلتك على جبيني وسؤالك العذب: كيف كان يومك المدرسي؟ حرمتني من تعلقي بأذيال بذلتك يوم الجمعة، قلبي مشروخ يوم الجمعة، يوم أن التقى الجمعان على مائدة الغذاء واختلفتما على حصيلة النقود الأسبوعية، ولم يسألني أحد: هل أعجبك الطعام، الخبز بعيد عن أصابعي الصغيرة وكذلك مرقة لحم الفراخ المفضلة لي، وسالت المرقة على الأرض وازدحم البيت بالجيران للتفريق بين أبي وأمي، كلهن في المدرسة يهمسن أبي سيحضر حفلة التخرج، وأنا جيفة حيوان نافقة تخلص منها صاحبها برَمْيها في ترعة صرف صحي، "سعاد علاء عيسى"؛ وتقبلني مدرستي جابرة بخاطري وتهديني شهادة التخرج، الثانية على المدرسة الابتدائية.

المرآة تتشقق؛ شددت الرحال إلى المسجد الحرام؛ أرسل "المسيخ الدجال" حلفاءه ليقتلونني قبل الصلاة، منذ الثامنة لم أُصل، لم أدمع، أشتاق إلى سجود طويل هنا، ذكرونني ببحيرة طبرية وحزني الذي استأجرها، ومشايخ المال الذين استجرت بهم وعقدوا الصفقات على جسدي وعلى شاشات التلفاز بكوا وبَكّوا الناس على أوزارهم، كيف أكون من المؤنسات الغاليات وكلي عورة؛ هيا بنا نسافر، ماذا فعل الله لك حينما خذلك والداك؟ لماذ لم يتدخل ودماؤك تفترش الشوارع كل يوم وليلة، والعُرف المجتمعي الفاسد يعطي للبعض حق السهر بتعب زوجاتهن، وهجر أولادهن، والتشدق بحق المرأة وفي الكواليىس تُقام عليها حفلات العذاب حتى مطلع الفجر.

تكاثرت على رأسي حلفاء "المسيخ الدجال" وقلبي يمد يده ناحية الكعبة؛ وَنَفْسي تبترها، وأسقط على الأرض مُدرجة في حسراتي، وأنظر إلى روحي تنسلخ عن جسدي، وأراني أطول قليلًا، وأرتفع بسرعة تزداد تدريجيًا بصورة خيالية، والأرض تحتى أصبحت صغيرة جدًّا، والنور يغمرني، وأسبح في بحار من نور، وأتناول تفاحًا كبيرًا جدًّا مثل الأرض، وطعمه مكافأة لقلب أرهقه المرض، أنسى المرض، السعادة هي حالي، يا للروعة هذا مُدرسي أيام زمان، يلتف حوله مجموعة من الأطفال والوِلدَان، يا أحبابي: البنات هن المؤنسات الغاليات، يأتي كائن نوراني ضخم يفترش الحيز كله، يقولون بأنه مَلَكْ، أحس بكلماته ولا أتبين صوته، يهمس لي: إن الرحمة تسع الجميع، ينصحني بالقرب، اسجدي وأنتِ في المعية، أطير في أبعاد أخرى، ألمح أبي وأمي يبكيان، أقترب منهما، يناجيان طفلة صغيرة ذات ضفيرات شعر مجدول، الطفلة لا تعيرهما اهتمامًا، يقعان مغشيًا عليهما، ويوقظهما مَلَك آخر عنوة، ثم يكرران مناجاتهما للطفلة الصغيرة وهكذا دواليك ولا فائدة.

أصحو على قطرات المحاليل واهتمام أجهزة العناية المركزة، نواب "المسيخ الدجال" ينتظرون بالخارج، نجحوا في شحني خارج الحرمين قبل السجود والاقتراب.

يا "فاطمة".

تحطمت المرآة اليوم، لا تصدقي لساني الغبي عندما تباهي بالمجون، أنا مخلوق ضعيف استقوى بالذنب، كنت أدخل الجنة عندما أتناول غذائي معكم، ترممون عظامي بضحكاتكم، لست "سعاد" ذات الأربعين حولًا وأنا بينكم؛ بل "سعاد" صاحبة الشعر المجدول ذات الثمانية أعوام، انتظرت لحظة كهذه طويلًا.

تسافر روحي كل صباح بحثًا عن طفل، العقاقير المختلفة والمستشفيات الشهيرة وتعاويذ الدجالين وأحجبة الساحرات ولم يفلح شيء، حتى طفل الأنابيب؛ وكأن الخط الدرامي لحياتي متوطنًا دائمًا بالأسف، الطفل هو المنقذ، ينتشلني من مستنقعات التيه، يقبل رأسي ويضحك، الطفل سيشرقني مرة أخرى، قابلت ابني الذي حلمت به بين ثنايا المجلات، في نهاوند أغاني الأطفال القديمة، لم أشرق يا "فاطمة"، وبالطبع لم يأت الطفل.

لن تغني عني أموالي، لن يشفع لي سلطاني، السعادة يا غاليتي هي ما تعتقدينه أنت سوء حظ وأحوال سيئة، زوجك "أدهم" الذي يتمدد بجوارك كل ليلة رفضني وأنا مَنْ أنا، وهو المكافح كل يوم في حروب الحياة، قلبك يا صديقتي قطعة من الجنة؛ أتذكرين شجرة التوت وأغنيات الأمسيات، وشجوك المفعم بالعتاب كيف تركك الإله؟ انتبهي يا شقيقتي، قلبك هناك ساجد في السماوات وراضٍ بالقدر، بماذا إذا تفسرين اشتياقك للصلاة في الروضة الشريفة؟

تطعمان "مصطفى" الحلال، لا تنتهكان الأعراض، لا تؤذيان القلوب، الطيب لا يعرف أنه طيب، الطيب دومًا مثخن بالجراح، يعتقد أنه المخلوق الأسوأ؛ ظلم نفسه والآخرين، أما الظالم فدلس هذه الحقيقة وغزَا هذا المفهموم لدى الطيبين، ورسخ فكرة أنه هو الملاذ، والآخرون يجب أن يحسنوا معاملته، الحقيقة أن الآخرين حق من الحقوق المكتسبة للظالم في الحياة الدنيا، لذا يا أم "مصطفى" اثبتي واحتمي بالله، إنها فتنة.

سمعت الشيخ "عبد الفتاح الشعشاعي" يتلو آية من القرآن، مر زمن لم أسمع الجميل وهو يتلو الأجمل.

"إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"

سأرحل يا "فاطمة"، سأحاول رسم البسمة على وجه فقير، سأساهم في علاج مريض، سأتبنى أطفال الشوارع، سأجعلهم أشجارًا تُذكر المجتمع بالمسؤولية تجاههم، المجتمع مريض بالخذلان، كيف نرثي أطفال الحروب ونسْحق أطفالنا في بالوعات النسيان، على أروقة محاكم الأسرة، في الملاجئ، في التخلي عنهم وبيعهم لأثرياء للتبني، ما أتعسني وما أتعس هذا المجتمع، ادعي لي يا حبيبتي، أتوق للسجود هناك في الحرمين؛ علني أقترب، علني أتطهر، المدرس وحلقة أطفال السماء والكائن النوراني الضخم و"سعاد" ذات الثمانية أعوام، ورغم غول الخوف الذي رافقني أربعين سنة لم أرتَحْ سوى في مصر، ولم أهوَ إلا أنت يا "فاطمة".

وداعًا وإلى لقاء في عالم أفضل.

"سعاد"

********************

"أدهم" يلملم دموعه ويمسح بها آهات الخطاب، يرمق زوجته بنظرة حائرة، "فاطمة" تنام على شاطئ نظرته وتبكي، تاهت الحقيقة في غابات الظلام، ولما تجلى النور وبدد الظلام، كانت الحقيقة قاسية، وكان المنوط بهم الأمر قد هلكوا، بادر "فاطمة" بقوله: الحمد لله أن الرحمة بيد الله، الحمد لله أن الثواب والعقاب بيد الله لا بيد البشر.

ردت "فاطمة": أشعر وكأنني طفلة تتعلم مسميات الأشياء، سولت لي نفسي أنها امرأة عابثة ليس لها عزيز، ورأيتني أستحق سيارتها وأموالها الطائلة، ويختبئ في صدري إحساس أنني المرأة المثالية، أصبحنا في أيام، ملابس الناس تستر همومهم وقلة حيلتهم.

قاطعها زوجها: أين وجدت خطابها؟

همست بضعف: أمس أهدتني عطرًا لـ"مصطفى" ونظارة شمس سوداء من أجلك مرفق معهما مظروف أبيض من الحجم المتوسط، ووضعتهم على مكتب "مصطفى" ونسيت أمرهم، وكما تعلم ولدُنا في رحلة من أمس مع زملائه، فنمت في غرفته، وتذكرتهم صباح اليوم.

شرد بعيدًا وكأنه يحدث أحدًا آخر: أنا غريب في بلاد الناس، أكتشف فجأة أن "سعادا" تحوي قلبًا من ذهب، كم من "سعاد" في حياتنا يتنفسن ونعتقد بأنهن بائعات هوى وعاشقات ظلام، من الذي قنن في وجداننا بأننا نحمل صكوك الغفران؟ احتسينا كأس الذاتية واعتقدنا بأننا وكلاء الله في الأرض! نطوف حول ثالوث من المال والجنس والنفوذ وتناسينا أن ربنا بالمرصاد، كيف حال صلاتي ودعائي وأنا في أعماق نفسي أؤمن بأنني طاووس؛ والآخرين لا يستحقون خيرًا، أتحاشى الحرام وفي ذات الوقت أنقم على ما في كَنَف الناس، هامسًا في نفسي: كيف يرزقهم الله على سعة؟ وأنا العابد الزاهد تضيق بي الدنيا وتلفظني الراحة؟ أسرد لتلاميذي خبر إبليس وَأُعَلِّمَهُم؛ وعلى الشاطئ الآخر من الحياة أتناول قهوتي مع إبليس وثالثنا الكِبر، أرسف يا زوجتي في دائرة من العجز والتيه؛ لا أستطيع الخروج ولا يساعدني أحد.

تضمه "فاطمة" إلى أحضانها مقاطعة: هوّن على نفسك يا حبيبي، من لم يعرف فقه القلوب؛ لم يعرف قلبه، يحدجها "أدهم" بعين مفتوحة ويشرد مرة أخرى.

************

يرتبك "أنور" عندما يواجهه زوجي بقضية العَبَّارة، يرتشف فنجانًا من القهوة الفرنساوي ويجلس مع أخيه فرحًا قائلًا بحماس: كانت مبارة رائعة، ألم تشاهد الجماهير وهي تؤطر الملعب بقلوبها، العالم أجمع تحدث عن البطولة والفوز، عن الشعب المتحضر العاشق لبلده، حصلنا على بطولة الأمم الأفريقية؛ وسنصعد إلى كأس العالم.

قاطعه "أدهم" منفعلًا: وهل تحدث العالم أن وقت المباراة كانت أسماك البحر الأحمر تلتهم مئات الكادحين العائدين من عرق وتعب، مشتاقين لغفوة تحت أسقف بيوتهم! أتمنى أن يفوز المنتخب بكأس العالم وليس الصعود فحسب؛ ولكن ألم يخطر في بالك أن هناك أكثر من ألف أسرة مصرية فقدت الأب والابن والولد والعائل، هل من العدل أن نرقص ونغني ونزغرد والمئات من القلوب المقهورة تنتظر على أرصفة موانئ البحر الأحمر الباقي من جثث ذويها؟

دعنا نتكلم عنك، يقولون إن شركاتك متورطة في حادث العَبَّارة، وبأنك شريك مستتر في الموضوع.

ينفعل "أنور" مدافعًا: لو أقسمت لك على الكعبة لن تصدقني، لن أكون كبش فداء لأحد، قف هنا يا "أدهم" بيني وبينك تحقيقات النيابة وأحكام القضاء؛ ثم يمتلئ وجه "أنور" بضحكة ساخرة قائلًا بتهكّم: أتذكر "جيفارا"، كان مثلك، ولكن وشي به إلى أعدائه من كان يستميت في الدفاع عنهم، ثم ذهب مغاضبًا وبدون استئذان.

*************

أحب الشام، أخبرت زوجي بحلمي: أحلم بزيارة لبنان، أقبّل السيدة "فيروز"، يقول الناس إن العُمر ينام في لبنان؛ لا تعجز ولا تشيخ ولا تحزن، نتناول الأرجيلة والقهوة الشامي على جبل لبنان، هل هنا عاشت "صباح" و"عبد السلام النابلسي" و"ميخائيل نعيمة"؟

قوافل الموت استراحت على شواطئ لبنان، حزم الأطفال والشباب والعجائز حقائبهم وارتحلوا، وطيران الصهاينة يدنس أشجار الأرز ويخون التاريخ ويسرق جنة من جنان الله في الأرض، لبنان يا سيدة الحُسن الحزينة: باعك الساسة بأرخص الأثمان، وأوفدوا في سفن الإغاثة فئرانًا وضباعًا ووجعًا عظيمًا؛ دونوا الألحان وصاغوا الأغنيات وكانت الأصوات جحيمًا.

يعلق "أدهم" صورة كبيرة لـ"وديع الصافي" في صالة المنزل، ينفث عجزًا ويردد: يا عم "وديع" لا أدري على من أبكي؛ على طفل فقد أباه في أحشاء البحر وهو يعد الأيام طمعًا في رؤيته، أو على طفل رأى أباه يموت في غارة جوية، ثم نظر إلى ما تبقى من جثة أبيه فلم يجد سوى أشلاء وَقِطَع من مشاعر ملتاعة للفراق.

يا عم "وديع" هل صدق "نزار قباني" عندما قال: متى يعلنون وفاة العرب؟؟



محمد جميز

رواية : " ما كذب الفؤاد ما رأى"
2006م




محمد جميز.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى