محمد جميز - متكلِّم فاشل وبدرٌ لم يكتمل بعد.. قصة قصيرة

قالت: ابتسم، فابتسمت. نهرتني: أغلق باب العيون، فأغلقت. نادت على دخان البخور، وأشياءَ لا مرئية، وأصدقاء غائبين، وأخيرًا زفرت الحقيقة.. هكذا هي صنَّفَتْها، تكرر بين الفينة والفينة بأنها لا تقول سوى الحق، في هدوءٍ رددت: ستشرع الصحراء في اختطافك، وقلبك سيكون أسيرًا، مسكين أنت، باقٍ هناك عند شجرة تنزف دمًا، تنتظر العمر، الصحراء تقترب منك في حذرٍ، والوهم يلوح بصورة قلبك المهزوم، ضعيف أنت، ماتت روحك، لم تُرِد استردادها، وفي عُرف الكون: الذي يموت لا يعود، غريب أنت، رغم كل هذا، ترأف الرمال لحالك، وتتوسط لك، وتنجح الوساطة، والشجرة تفرح بنجاتك، فيتوقف النزيف قليلاً، الباقي سيدي غائم كما عينيك السوداوين، الباقي مُحتَلٌّ كما ذكرياتنا الحبيبات، طفلٌ يتيم أنت، اليتم ليس فقدان الأب والأم فقط، اليتم فقدان تنهيدة الراحة.
********
يرفع الطبيب قائمة لا (لا تدخين، لا قهوة، لا طعام دسم، لا سهر، لا إرهاق.. )
أقود عربَتي في لذة، الوحدة أحيانًا لذة، وكذلك الوجع، أود الحديث، أرغب في سرد قصتي.. يا سلام، لم أعد أمتلك كلامًا، ولا بنزينًا يُشبع أفواه الكلام، أدخن سيجارة، وأرسم بخيوط الدخان وجهًا ساخرًا، الطريق وقتها كان يضحك، لم أندهش، لا عتاب، لم يعد هناك وقت.
الطريق يفغر فاه، ويصفعني، ويسلب منِّي سيجارتي.
*************
في الأيام الغابرة كنتُ "هارون رشيد" آخر. ورغم ملامح وجهها العادية، وتضاريس جسدها المحدودة، ورؤيتي لها سلفًا عشرات المرات، ماذا سأقول؟ أحببتُها.
************
عوالم متداخلة، وجوهٌ مُشوَّهة، أحلام أقرب إلى المَسْخ، وماذا سيكون حُسن الختام؟؟ أحيانًا يكون الوهم علاجًا، لك أن تتخيل وأنت ما بين الحياة والموت، اقتعد كرسيًّا، وأطفِئ القمر، وافتح الباب قليلاً، وأشعِل سيجارة، وتناول قليلاً من القهوة، واكتب في مسودة الكوابيس، وغنِّ ودندن، وابحث عن نفسك، وعندما تتعب، قُم بمحاولة أخرى، هذه المرة، خَل نفسك عريسًا، ما أروعك، أنت جنة، لم أرَ الجنة، لكن الفرحة جنة، أطلق لقلبك العنان، انسه لوهلة بين أحضان معشوقتك، هنا الوهلة هي آلاف من السنين، دع الهموم تنجلي، الأيادي تتحسس الأمان، والقلوب تتطهر من الحزن، هل أعجبك هذا الوهم؟؟
انسَ كُلَّ ذلك، تعالَ معي، أخبرني.. هل تحبها؟ ها أنا ذا أسمعك.
********
بدرٌ هذا اسمها، الأرواح تتقارب، الأرواح تتلاقى، روحها كانت نقية، لا أملك مفردات لوصف الروح، هي من خصوصيات المولى، لكنَّ غنجًا غريبًا، كان يرسم ملامح تلك الروح، ما بالك بشيء يجمع بين الطهارة والغنج، وكذلك كانت العيون.
العرَّافة تولول، كابوس يلاحقني في يقظتي قبل منامي، هل تريدين سماع الحقيقة؟ ببساطة شديدة.. بعيدًا عن الأثواب الجميلة للكلمات، أحببتك.
لماذا؟
هذا هو السؤال؟ أنت تحديدا! المدهش أنكِ لست نوعي المفضل في النساء، المستحيل بعينه: أني أردتُ اللجوء إلى أحضانك، أبكي، أقص لك حكاية امير قتلته الشمس، أعلم أنك سترهفين السمع، أنا قويٌّ جدًّا، أنا الجبال والريح وزئير الأسد، وأنا أيضًا عويل امرأة فقدَتْ ابنها البكر، أنا لا شيء.
شقاوة روحك كانت دواءً لقلبي العليل، من أزمان بعيدة لم أبتهج لخطوات قادمة سوى لخطواتك.
*******
متكلم فاشل، هذه ليست القضية، القضية مُكوَّنة من ورقتين. الورقة الأولى: ربيع جاء في وقت الخريف، وإخلاص أخرس، وأيام مغطاة بعُشب غدٍ تائهٍ.
الورقة الثانية: أسد جَريحٌ، قبرٌ مُقدَّسٌ، حُبٌّ لم يستطع الوقوف بعدُ أمام الشجرة التي تنزف دمًا.
كلماتك كانت مسكِّنًا، صَحوًا، أملاً مسمومًا، ورغبت أن أصارحك، أدركت ما وراء جملك المقتضبة، لكن كنت أخاف عليك، أخشى عليك من حبي، وأخشى عليك ضميرك..
كنت أعلم أن الليل متواطئ، الليل سيرسمني قمرك، أنتِ ستطفئين القمر.
***********
لم تتعلمي بَعْدُ درسَ الخلود، الخلود فن، والحياة فَنٌّ، فهل حاولت العزف على قيثارة الخلود؟ رائعٌ، متكلم فاشل، تريدين إذًا معرفة حقيقة إعجابي بك، لم أنبس ببنت شفة، لعلة جهلك بفن الخلود، وبعمق ما وراء الكلمة، وبمصدر النبضة التي تترك في الأُفق أثرًا!! هل رأيت ذات مرة مستحيلاً يرتدي ثياب الممكن؟ عشقت فيك الروح، ونفاني عنك العمر.
***********
العرَّافة تحذِّر: اهرب قبل أن يأتي. لستُ بخائفٍ، الأمير لا يخاف. ولولَتْ كالعادة: اهرب، زمن الأمراء فات، الكل يريدك، لا أخشاهم.
همسَتْ: ما زلت حزينًا على بدرك؟
شردت وأجبت بلا.
نوهت أنها أخبرتني.
العجوز تصرخ، وتشاور خلفي، أشعر بلهيب سياطه، الآن فقط: جفت بِحَارُ القلق، الهدوء هو سيد الموقف، العجوز تترجاه أن يفك قيدي، تناديه وتذكِّره بكوني أميرًا، هو لا يسمع، وأنا لم أقاوم، أنا سعيدٌ، أحس بخدرٍ لذيذٍ يهاجم جسدي، أرى هناك على جبين العجوز: صحراء آثمة، وشجرة تنزف دمًا، وبدرًا يحترق.






L’image contient peut-être : 1 personne, debout

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى