نزار حسين راشد - من مذكرات صحفي

النظرة التي شيعني بها الرئيس السادات في آخر لقائنا معه، تركت لدي انطباعاً بأن كلماتي مست وتراً في أعماقه عندما حذرته من غدر اليهود بعد ان سألني عن رأيي في اتفاقية السلام وعن زيارته للبرلمان الإسرائيلي.

وبالفعل فلم تمض أيام قليلة حنى تمت دعوتي للقائه.

انفرد بي في غرفة خاصة يبدو أنها معزولة وآمنة من التسجيل، ويبدو أنه خصصها للقاءات الأحادية، فيها مقعدان وثيران متقابلان تفصلهما طاولة وسط، ومكتب صغير وثلاجة صغيرة، وحتى موقد كحولي صغير وعدّة لغلي القهوة.

بادرني الرئيس بالسؤال فيما إذا كان ما قلته من قبيل الضغينة لأني من اقارب الكونت برنادوت الذي اغتاله اليهود عام ١٩٤٨.

أطلقت ضحكة هادئة واثقة قبل أن أشرع في الإجابة:

- وما الفرق سيادة الرئيس؟ الإنسان يقيم من خلال أعماله، وهذا ينطبق على الدول أيضاً،أنت أيضاً لديك شكوكك!

أصغى إلي بإمعان وهو ينفث دخان غليونه، فلم يكن الرئيس يحتسي الخمر، ولا أدري أي نخب شربه مع الأمريكان والإسرائيليين في حفل التوقيع!

انتقلنا بعدها إلى صالون الإستقبال، وحضر نائبه حسني مبارك ليشاركنا الجلسة، عيناه الجائعتان ذكرتاني بوصف قيصر لبروتس، على أن ملامح وجهه لا تشي بكبير ذكاء، وخلافاً لما ظنه القيصر من أن الرجال الأعمق تفكيراً هم الرجال الأشد خطراً، اعتقدت أن الرجال الأكثر سذاجة وسطحية هم الرجال الأكثر خطورة، لأنه يسهل تسييرهم، وتذكرت المبدأ الإستخباراتي المعروف بأن تجند الرجال الأضيق أفقاً،وفي الحقيقة كنت مندهشاً من نفسي، لماذا تساورني مثل هذه الأفكار وتلح علي لدرجة أن أتساءل في داخلي: هل يمكن أن يعاد المشهد التاريخي: اغتيال القيصر، بتحريف قليل، ونظرت إلى وجه مبارك وخرجت بانطباع أنه أكثر غباء وجبناً من ان يقدم على خطوة كبرى كهذي.

ولكني عدت للتفكير مرة أخرى: لماذا لا يكون طرفاً فيها، حيث أن موقعه يؤهله لتسهيل المهمة!

ولكن بأي دافع سيقدم على تنفيذ هذه الجريمة، هل بالدافع الوطني لإيقاف مشروع السلام، أم الشخصي ليقفز إلى كرسيى الرئاسة؟

لم يكن مبارك مرتاحاً لوجودي ولا لاقتحامي المشهد الرئاسي من خلال علاقة مباشرة بالرئيس، كان بالكاد يكبت تململه، ويفرك يديه في ضيق يحاول إخفاءه بين الفينة والفينة!

وإخيراً استأذنت بالمغادرة وأذن لي الرئيس واختلست نظرة إلى وجه مبارك لأرى هل بدا عليه الإرتياح، ولكن ملامحه كانت أكثر جموداً من أن تقرأ فيها شيئاً كهذا أو أي شيء آخر!

هذه المرة الثانية التي يدعوني فيها الرئيس السادات لزيارته في القصر الجمهوري، وكان اللقاء الاول قد تضمن تحذيري له من غدر اليهود وأن لا يسير في الشوط إلى آخره معهم إلا بعد التثبت من كل خطوة، وشعرت أن هذا التحذير ظل يحيك في نفسه وأيقظ فيها هواجس خفية ظل يتجاهلها، لأن أحداً ممن حوله لم يطلق في أذنه جرس الإنذار،حذراً وتهيباً، أو ربما مكراً ودهاءّ، ولعلهم قالوا بينهم وبين أنفسهم،دعه يقع في شر أعماله، او يرسم نهايته بنفسه، وربما كانت بواعث هذه الضغينة ضدّه أنه صغّرهم، وانفرد بالنشهد بنفسه، وربما كان يطمح أن يسجله التاريخ رجلاً عظيماً، وكان حريصاً على تقمص مظاهر هذه العظمة، وبالفعل لقد نجح في ذلك ولكن على المستوى الداخلي فقط، بالرغم من الأصوات المتحدية وهياج الشارع، والفضل يرجع لنصر أكتوبر بالطبع والذي أطلق مزامير الحفاوة عبر الإعلام وضخّم صورة السادات بالفعل كبطلٍ للعبور كما سموه.

تضمنت الدعوة هذه المرة زوجتي، وظاهر الامر أنه يريد لقاءً عائلياً، ولكن نواياه الحقيقية كانت غير ذلك، فقد أرادني أن أستمع لوجهة نظر زوجته جيهان، والتي طالما أشار إليها ،

-بالسيدة الأولى، ولم أشك للحظة واحدة في مدى تأثيرها عليه.

كانت جلسة مشتركة، وجلست النساء قبالة الرجال بمن فيهم السيدة سوزان مبارك زوجة نائبه في ذلك الحين.

ويبدو أن الرئيس قد اوعز إلى جيهان كيف تدير دفة الحديث، وسرعان ما وجهتها إلى عملية السلام وقالت مفتتحة حديثها بالإشادة بزوجها متحدّثة عنه كطرف ثالث وواصفة إياه بالرئيس:

- لقد قام الرئيس بعمل عظيم، لم يكن الإسرائيليون أنفسهم ليقدموا عليه لو لم يأخذ الرئيس زمام المبادرة...

وتضيف بعد وقفة قصيرة:

- لقد تعبنا جميعاً نحن وهم، ولا نريد المزيد من الضحايا، لقد حققنا نصراً نريد ان نقطف ثماره سلاما ً دائماً لا حرباً أخرى!

كل الحروب لا بد لها من نهاية، الحرب العالمية الاولى انتهت ولكنها ولدت الثانية، والثانية ولد من رحمها واقع عربي مختلف وفي قلبه دولة إسرائيل، وخضنا معها اكثر من حرب، وكنا نحن المصريون الطرف الأكبر والأكثر تضحية، ولكن حتى نرسي السلام على أسس ثابتة ونؤمن له الإستمرارية، لا بد ان يقام على اسس عادلة فالعدل أهم من حسن النية، لقد قلت ذلك لسيادته، وهو حريص على ذلك ولذا فهو يسميه السلام العادل.

لقد صدق تقديري فالرئيس يناقش مع زوجته الامور السياسية الكبيرة منها والصغيرة وحتى المصيرية ويتأثر برأيها.

السيدة جيهان واضجة ومباشرة ومقتنعة تماماً بما تقول، وتعبر عن ذلك بزم شفتبها الرقيقتين، والضغط براحتها على ذراع المقعد أثناء الحديث.

بدت لي شخصيتها وواضحة وبسيطة كمعادلة خطية بينما بدت لي سوزان مبارك أكثر مكراً ودهاءً بعينيها الضيقتين واحتفظت بصمتها المطبق خلال الجلسة، وربما لم ترد أن تقاطع زوجة الرئيس من باب الأدب أو الإحتياط المطلوب، وحتى حتى لا يزلّ لسانها هنا أو هناك،بما يمكن أن يؤوًل لغير مصلحتها ومصلحة زوجها، وهكذا هو الحديث في حضرة الرؤساء ، كثير المحاذير، والأولى تجنّب مزالقه.

أخيراً اقترح السادات أن تنتقل النساء إلى صالون آخر ليتخففن من عبء حديث الرجال الثقيل، ويتحدثن بما يشأن دون تحفظ.

نعم لقد وصلت الرسالة أيها الرئيس ولكن كما قالت زوجتك لن يشفع حسن النوايا بالأخص مع عدو لئيم ، أعرف أنا لؤمه جيداً، فدم قريبي الكونت برنادوت اصبح جزءاً لخريطة. ولن يزال التاريخ يحمل عبق دمه حتى يصير التاريخ إلى نهايته المرسومةا، النهاية التي رسمها القرآن الكريم والتي لا تدري لماذا تصر على تجاهلها كرجل ورئيسٍ مسلم.

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى