عائشة غلوم - زمن القهر..

في ذلك الزمن الماضي ، وفي تلك السنوات البعيدة ، كان عبدالله صبيًّا صغيرًا ، لم يتجاوز الثامنة من عمره ، مربوع القامة ، ضعيف البنية ، أسمر الوجه معروق الجبهة ، طويل الأنف ، في عينيه طيبة وبراءة وانكسار ، غالبًا ما يرتدي – على لحمه – ثوبًا رثًّا ممزقًا ، وينتعل نعالاً بالية قد انسحقت فاستوت مع التراب الذي يمشي عليه .
كان هذا الصبي يخرج في بكرة كل يوم حاملاً في عبَّه مصحفًا صغيرًا ، متوجَّهًا صوب بيت الشيخ ( المطوع ) معلم الحي الذي يجمع الصبية والصبايا الصغار ، أحيانًا في غرفة بداره المتداعية ، أو في حوش البيت حينًا آخر ، يعلمهم كتاب الله ، يقرأ فيقرؤون وراءه ، وسرعان ما يحفظون منه ، يجلسون متربعين مواجهين له ، وأمام كل صغير منهم كرسي المصحف ، تنطلق أصواتهم جهرًا في صوت واحد ، يهزون أجسادهم الضئيلة مع كل آية تتلى ، يرفعون رؤوسهم تارة ، ويخفضونها تارة أخرى ، وكان هذا الصبي من بينهم هادئ الطبع مسالمًا ، يقصد مكانه المعهود الذي لا يغيره مطلقًا ، ولا يحب تغييره ، وإذا حدث أن وصل متأخرًا ، ووجد أحد الصبية قد استحوذ على مكانه ، لا يقول ولا يفعل ، بل يأخذ مكانًا آخر وهو يتمتم بداخله ، ويمضي درسه في مضض وضجر ، حتى ينقضي الوقت ، ومن ثم يحمل مصحفه ثانية ، وينسلّ من بين المجموعة في صمت .

وفي يوم من أيام القهر والظلم ، أدرك الصبي شيخه المطوع وقد بدأ الدرس ، فدخل على عجل ، حتى أنه لم يلق السلام وتخطى الصبية قاصدًا زاوية في ركن بعيد ، وتربع على الأرض محاذيًا بكتفه كتف صبي آخر يجلس عن يمينه ، وجدار الدار إلى يساره ، ومد عنقه ينظر فإذا به ينتبه وقد وعى غلطته ، عندما لسعته عصا الشيخ من بعيد ففزع وانتفض ، وارتعدت فرائصه ، وأحس شيئًا ما في أحشائه يتحرك ، واعترته حيرة ، وشيء من الحياء .. هل يقف أم يظل جالسًا ؟ خيل إليه أنه سمع أحدهم يسأله : ما هذا الصوت الغريب ؟ لا شيء ، إنه بطنه يقرقر من شدة الجوع ، لقد كانت بطنه خاويًا .. ( تبًّا لها من امرأة قاسية لا يهمها إن خرجت جائعًا أم شبعان .. المهم هي وابنتها )

وصك أذنيه صوت الشيخ وهو يصرخ :

يا ولد لماذا تأخرت ؟ وأين مصحفك ؟ وهل حفظت ما عليك ؟ أم جئتنا تتبختر على مهل ؟ سيكون لي حديث آخر مع أبيك .

طأطأ الصبي رأسه في إذلال ، وانحدرت دمعة غزيرة من عينه بللت ثوبه الرث ، وتذكر أباه ( ليتك تعود سريعًا يا أبي .. إلى متى غيبتك ؟ رحلتك طويلة والأيام مريرة ، وأنت هناك في ظلام البحر تغوص ، والحر ، ووهج الشمس .. أواه كم تشقى يا أبي ! ولكن أفواها فاغرة تنتظرك ، وامرأة فظة تتحين عودتك لتسحتك ، وتجردك من كل شيء ، وأنا .. آه .. ليت أمي حين ولدتني بقيت معي ، ليتها لم تتعسر في ولادتي ، المسكينة لم تحتمل آلام المخاض ، أيامًا معدودة ثم تركتني ووحشة الأيام وقسوة الخلق . )

وبصرخة من الشيخ انتفض الصبي ..

اقعد يا ولد .. خلاص .. الكلام معك لا ينفع .. نكمل قراءة ..

وعلت أصواب الصغار وهم يرددون .. بسم الله الرحمن الرحيم ( والضحى .. والليل إذا سجى .. .. ) ويحرك لسانه .. وشفتيه .. ويقرأ .. ويردد .. ووجد نفسه يقول معهم .. ( فأما اليتيم فلا تقهر ..ويجهر بها أكثر .. تقهر .. )

بعد لحظات ..

انقضى الدرس ، فودع الشيخ تلاميذه ولم ينس أن يوصيهم بإحضار الخميسية في الغد ، أما ذاك الصبي .. فقد مد خطواته سريعًا وخرج وهو يتأبط بيمينه مصحفه الصغير وبيده اليسرى ينبش جيبه الممزق .. لحس شفتيه بلسانه .. وتبلع بريقه .. وتاه في زحمة الشارع .

**
التهب قرص الشمس في كبد السماء ، وأوشك أن يلامس رؤوس الناس من فرط الحرارة المسلطة على يوافيخهم ، والصبي ما فتئ يذرع الطرقات ويطوف بالممرات ، حتى أنهكه التعب وأعياه الجوع ، وحدث نفسه بالعودة إلى البيت ، أجل لماذا لا يعود ؟ أليس البيت بيت أبيه ؟ إنه يعلم تمامًا ما الذي سيلقاه ، ولكنه لابد أن يعود ، إنه وقت الظهيرة .. وقت الغداء ، ولابد أن زوجة أبيه قد أعدت شيئًا يؤكل ، على الأقل من أجل ابنتها الوحيدة .

مضى الصبي صوب البيت ، وحين اقترب من الباب دفعه ، ودخل متوجَّسًا ، يتلفت هنا وهناك ، ويتسحب والخوف في عينيه ، في تلك اللحظة سمع صوت أقدام تتزحزح ، فانتفض مذعورًا حين أبصر زوجة أبيه تقف قبالته ، تقتحمه بعينيها الجاحظتين ، ونظراتها الحادة ، طالعته من علٍ .. امرأة طويلة القامة ، نحيلة العود ، متخشبة الحركة ، ترتدي جلابية من قماش مشجر . اقتربت منه ثم قبضت ياقة ثوبه قبضة خانقه وصرخت في وجهه :

عدت أخيرًا يابن أبيك ؟ أين كنت ؟ تدور في السكك ؟

وأطرق الصبي ، تتسارع ضربات قلبه هلعًا ، مخافة أن تنهال عليه بكفها العريضة ، ولكن الله سترها معه هذه المرة ، فقط زعقت في وجهه قائلة : اذهب إلى المطبخ .. ألا تريد طعامًا ؟

وانفلت من أمامها صوب المطبخ ، وقبع في ركن صغير ، جعل يشخص بنظراته إلى السقف ، ويتذكر والده ، فتدمع عيناه ، ويجف حلقه ، ويباغته دوار في رأسه وضربات عنيفة تطرق مؤخرة رأسه .

لحقت به المرأة وفتحت ( النملية ) وأخرجت رغيفًا يابسًا مصفرًا ، ثم اتجهت نحو موقد النار وتناولت من فوقه ( طاسة ) صغيرة في قاعها قليل من العدس الأحمر المطبوخ ، ومدت للصبي هذا المقسوم ، فالتقفه من يدها وجعل يلقمه دون توقف ، وهي تنظر إليه في شزر ، ثم أشاحت عنه وجهها وانصرفت .

بعد ثوان فقط انتهى الصبي من الطعام ، وفوجئ بها أمامه مرة أخرى ..

هيا .. ألم تشبع ؟ خذ طاستك واغسلها مع هذه الصحون المتبقية ، ثم اكنس المطبخ ، واغرب حيث شئت .
ولكن يا زوجة أبي ..
ولكن ماذا يا صبي ؟
أختي .. أين هي ؟ لماذا لا ..

ولم يتم جملته ، فقد وكزته المرأة ، وانهالت عليه بقبضتيها ..

اختك نائمة يا خسيس ، هيا أتريد أن تأكل ببلاش ؟

آلمته الكلمة شديدًا ، وأحس بوخز الإبر في صدره ، واضطرام النار بين ضلوعه ، فما كان منه إلا أن انسل من بين قدميها ، واندفع خارجًا بأقصى سرعته ، وصوتها يصك مسمعه وهي تردد : إياك أن تعود ثانية .. مالك محل ولا مكان عندنا .

عاد الصبي يذرع الطرقات ويجرجر قدميه الصغيرتين في بطء وتخاذل ، يخطو مرة ويتوقف ثانية ، والشمس المتوهجة تلهبه والأرض المشتعلة تحرقه ، ولكن صورة أبيه في خاطره تسنده كلما أوشك على السقوط ، وصوت أبيه يفيض عليه من الصبر والتجلد ما يكسبه رجولة وقوة .

وتخطر في بال الصبي كلمات أبيه التي سمعها منه قبل أن يدخل رحلة الغوص .. ( في الرحلة القادمة .. أنت معنا ” تباب ” صغير على ظهر السفينة يا بني . إن شاء الله ، قل : إن شاء الله ) .

تمتم الصبي عبدالله وشفتاه تنفرجان : إن شاء الله .

وقفز في الهواء ، شعر بالفرح وامتلأت نفسه بالرضا والإعجاب بهذه الفكرة نعم ، ولم لا ؟ تباب مع الغواصين خير له ألف مرة . دب فيه النشاط ، فاتسعت خطواته ، وواصل سيره حتى ابتلعه الطريق .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى