عبد الفتاح المطلبي - الطبول

دعوني أخبركم عن تجربتي الأولى ،عن اندهاشاتي، فقد كان العالم واسعاً و المسافاتُ شاسعةً وما كان يجري كبيراً و متنوعاً ، بيدَ أنّ سرعةَ التقاطي للأفكار و الرؤى بطيئةٌ و متمهلةٌ، ذلك لأن سيلاً من الدهشةِ و الإعجاب يسيل حولي كلما أطلقتُ عينيّ تجوسان المكان ، تتفحصان كل وجود جديدٍ أعده صيدا و غنيمة لغرائزي التي تنطلق تباعا دون مقاصد، هذه هي تجربتي الأولى و هكذا كا ن وجودي منبسطا و محتفيا بإدراكات ملونة لا مثيل لها في تاريخي الماضي القصير ، هكذا أتممت تأسيس قواعد إدراكي و من ثم ضِعتُ في التيه الممتد من بوابات الثغو الأولى حتى مصاريع أبواب الهرم المهترئة ، كائناً لا أشبه ما كنت عليه إبان وجودي المجازي في ذلك العالم العلوي، و ها أنا الآن بعد ذلك أجلس في مكان أوهمتُ نفسي و الآخرين على إنه المكان الملائم ، يمرون بي يرونني بسحنتي ذات الملامح العادية ، لكن ما بداخلي يزمجرُ كحيوانٍ جريحٍ ، لست أنا وحدي كذلك إذ إنني أكاد أرى حيواناتِهم الداخلية التي تطل من أعماق نفوسهم تتحين الفرصة للأنطلاق في أدوارها ، بعضهم حيوانُه مستخذٍ ككلب يضع ذيله الأعوج بين فخذيه القذرتين، يلبس تلك النظرات المنكسرة ،و بعض تلك الحيوانات الداخلية يعوي كالذئاب وبعضها الآخر يتلصص كابن آوى وأخرى تزمجر كأسود جائعة و آخر ينهق كحمار ، جميعنا نشترك بشكل عادل ببزوغ حقائقنا الحيوانية التي تنكر لها باضطراد زمني متتابع و طويل تكويننا المدعي بأنه ينتمي إلى السماء و حيث دربنا أنفسنا على إتقان الوهم ، ذلك الوهم الذي مفاده أننا عائدون إلى مكاننا الأصلي ، مكاننا الأول العالي هناك ، لكننا عندما ننسى دربتنا على السمو نسقط عاجزين إلى حضبض جذورنا المزمجرة و العاوية و الناهقة وأحيانا المغردة كالعنادل ، كدجاج يملك أجنحة لكنه لا يطير بيد أنه يصفق بجناحيه مذكرا نفسه بأنه ما زال ذلك الحيوان المنتمي إلى جذوره الطائرة.

قال صاحب المقهى:

- تفضل استاذ الشاي..

تناولت استكان الشاي من يده التي لم تكن في المنظور لكنني لاحظت كُمّهُ المبلولَ بماءٍ حارٍ ما زال يتصاعد منه البخار و لم تكن كلمة استاذ إلا خيطا من خيوط الخديعة التي أدمنها الكائن الفراغي المنتشر في كل مكان ، و عندما نظرت إليه ،كان يبدو مستنكرا سماجتي الناتجة عن عدم وصول رنين كلمته الموحية بنعومة نسيج الخديعة و الناتجة عن دويٍّ مكتومٍ لطبل يعلقه إلى جانبه ، عندها لم أستنكر ذلك إذ تذكرت طبلي الذي كنت أحمله على نحو سليقي ، كان ذلك اليوم الذي قطعت فيه حبل الطبل المعلق إلى جانبي هو آخر عهدي بمهنة الخديعة التي ورثتها عن أسلافي ، ذلك اليوم الذي لفظني فيه الفراغ إلى حيز الحقيقة الضيّق ، في البداية كنت أشعر بالإختناق لكنني علمت بعد زمن قصير أن حيز الحقيقة الجديد قابلٌ للتمددِ و الاتساعِ .....

ارتشفتُ (استكان) الشاي ببطئ شديد و كانت مقاعد المقهى مرتبة بشكل مقصود يفضي إلى تحقيق أقصى انسيابية ممكنة للضجيج المحتمل ،الرجل صاحب المقهى ينظر نظرة ارتياح إلى كل ذلك ، كانت الطبولُ تُقرعُ في كل مكان من المقهى ، طبلٌ يحاذي طبلاً ، انتبهتُ الى أن بعضهم يجلس بهدوء لا يُصدرُ ضجيجاً ، قلت في الواقع لمَ لا أنا لا أملك طبلاً و ساغ لي أن أمدَّ عُنقي نحو أولئك الصامتين ففوجئت بأن طبولهم كانت تستقر بين فخذي كل واحد منهم ، ربما كانوا بانتظار شيء ما قبل قرع طبولِهم ، ربما لم يكونوا من الناقرين ، إذ يحتمل أن يكونوا من القارعين الأفذاذ ، في تلك اللحظة أنتهيت من رشف (استكان) الشاي و اختفيت مثل قشة بين قشٍ كثيرٍ على سطح هذا السيل و رغم الدوي المكتوم الصادر عن هذا السيل إلا إنني لم أشاهد طبلا بشكل مكشوف و صريح و كنت مرتاحا لذلك إلا إن راحتي لم تدم طويلا إذ لاحظت إن أي إثنين ينتحيان جانبا ، سرعان ما يخرجان طبلين من مكان ما ثم يبدءان بالقرع كما يحلو لهما و يستمر ذلك الفعل الضاج ولا بد لي من أن أسميه فعلا لأن الأيدي و الرؤوس و الأكتاف و الأعناق كلها تشترك بجوقة تؤدي عملا ، و اكتشفت أن ضجيجا حركيا و صوتيا يهاجمان العين و الأذن مما جعلني بائسا لعلمي بأن سد أذني فقط لا ينفع لقهر الضجيج بل علي أن أغمض عيني و عند ذلك سأكون كائنا أصما أعمى ، سال العرق من جبيني غزيرا عندما اكتشفت خيوط الخدعة الخبيثة التي ستحولني إلى مخلوقٍ منحازٍ كليا إلى عوالم الضجيج و ذلك بسلبي سمعي و بصري و ترك فمي مفتوحا ليمارس ضجيجا بلا حدود ،هذه إذن هي الخدعة ، إلى هذا الحد أرعبتني الفكرة و على طول الشارع الممتد من الشمال إلى الجنوب كنت أتمرغ وسط ضجيج لا ينقطع يتحول أحيانا إلى فحيحٍ مخيفٍ أو نقيقٍ مقرفٍ أو نباحٍ بعيدٍ مختلط بعواء أبعد و هكذا رحت أستفز كل طاقاتي للعوم وسط بحر من الضجيج المنوَّعِ ، في اللحظةِ التاليةِ شعرتُ أن كتفي اليُمنى قد انخلعت من المفصل إثر ارتطامها بشيء يشبه السنديانة العتيقة ، ندّتْ عني صرخةٌ مكتومةٌ ، تبينت أن السنديانة العتيقة كانت رجلاً أو بقايا رجلٍ يابسٍ ،و قد استحال إلى ذلك الشيء الذي لا يجيد الأعتذار أو يتقن لغة ما ، فراح من فرط حيرته يمارس ضجيجا غريبا يشبه النفخ في بوق عميقِ الصوتِ على وتيرة واحدة يطيح بما تبقى لي من قدرة على السمع محاولا تدميرها ، انتبهت الى ذلك مبكرا فأغلقت أذني بكفي محاولا الرسو على شاطئ هذا السيل الصاخب، شعرتُ برغبةٍ شديدةٍ للجلوسِ مجددا بيد إنني لم أجدْ رصيفا يصلح للجلوس ، كان رصيفا تنتهكه الأقدام بلا حدود ولم يكن هناك إلا نضدا عليه أقداح زجاجية مصفوفة بدقة ملفتة للنظر و خلفها ثلاث ماكنات لعصر الفاكهة ، اتكأت على النضد ، قلت مؤشراً بورقتي من فئة الألف ذات اللون الذي يشبه لون عصير الجزر ....

- أريد عصير جزر

في تلك اللحظة رحت أراقب حركاته، أهمل طلبي وراح يضرب على طبولٍ كثيرة صُفّتْ بمحاذاةِ النضد، تراجعتُ سريعا كالملدوغ ثم خطوت مبتعدا وكان خطوي سريعا و متقاربا، شككت بعيني اللتين في رأسي ، أيعقل أنهما تتآمران علي بتحويلهما كل شيء إلى طبول قارعة و سمعي ما بال سمعي أهو كذلك ؟ أنني حقا في ورطة ، أكره الطبول بكل أنواعها حتى تلك التي تشترك في الجوقات الموسيقية و شجبت كل معزوفة يصنع إيقاعها طبل مهما كانت و أياً كان مؤلفُها إذن تبا للطبول ،لكن ذلك لم ينفعني كثيرا فقررت الرجوع إلى البيت قبل أن يقتلني الضجيج ، و لم يكن الباص الصغير يخلو من طبول و عندما قذفت نفسي إلى شارعنا الذي يطل بيتي المتواضع عليه و الذي كنت أحسبه شارعا هادئا ، كان مليئاً بتجمهراتٍ هنا و هناك يحملون طبولا احتفالية تعرفتُ على بعضهم ، لم أعهد بهم ميلا إلى الطبول قبل ذلك, لكنني بعد كل ما رأيت لم أعد مندهشا مما يجري لأنه كان يجري بشكل بدا مقبولا من الجميع ، بعضهم يقرع طبله بمتعة كبيرة تقرب من حدود الطرب ، دلفت إلى البيت فوجدت الجميع مجتمعين حول طبلٍ كبيرٍ وسط غرفة الجلوس ينقرون على طبلهم دون مهارة ، لم ينتبهوا ليّ لقد سلب الطبلُ عقولَهم ذلك الطبل الذي لا أدري كيف حصلوا عليه و كانوا ينظرون إليه بفخر و كأنهم يقولون لي ها نحن أيضا لدينا طبل – أنا ليس لي طبل ، رحت أصرخ ، أنا أكره الطبول ،انا أكره الطبول..أنا أكره الط...... ثم قيدوني و ذهبوا بي إلى مركز الشرطة..،

قال الضابط الذي يضع طبلا صغيرا جميلا على منضدته يستخدمه كمثقلة فوق الأوراق ا الكثيرة

- أيها الكاتب افتح المحضر.. يعترف بأنه لا يود امتلاك طبل ولم يقتن واحدا ولا يرغب بذلك و هو يكره الطبول .

ثم وضعوا شيئا لامعا و ضيقا في معصمي و ها أنا أمامك سيدي هل أنت القاضي ، و هل القضاة صاروا يلبسون المعاطف البيض .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى