نزار حسين راشد - عواطف وتعاطف

كانت قادمة من القدس،محملة بالحقائب، قالت بتودد:

-هل أفتح حقائبي؟

قلت:

-ماذا معك غير الكعك؟

ضحِكتْ طويلاً قبل أن تقول :

- كيف عرفت أن معي كعك؟

قلت:وفلافل كمان، هذا أول ما يوصيك عليه الحبايب!

دمعت عيناها هذه المرّة:

-تصور! لم يعد لدينا غير الكعك! هذا كل ما تبقى!نمسك به وكأنه جزء من أرواحنا

قلت مشجعاً ومواسياً:

-كعك القدس مثل شعر محمود درويش، مخبوز بطعم الوطن!

استعادت ضحكتها قالت:

- معي هدايا كثيرة، لم آت إلى عمان منذ مدة طويلة!

هل علي أن أدفع كثيراً؟

- كثيراً جداً! الجمارك لا ترحم!

عَرفَت أنها مداعبةّ:

- في حدود كم يعني!

-في حدود كعكة وقرص فلافل!هذه أعلى رسوم يمكن ان أتقاضاها!

- أنتم طيبون! تعاملوننا معاملة خاصة،بعد أن نعبر من حاجزهم البغيض نشعر أننا في حضن حنون، من وطن إلى وطن!قالت ذلك وهي تناولني كيساً من البلاستيك، أخرجته من حقيبة يدها فيه بضع كعكات وبضع أقراص فلافل!

وعلّق زميلي ضاحكاً:-

- هذه أحلى رشوة رأيتها في حياتي

-إنتظر حتى تأكل نصيبك، وستعرف أنها كذلك فعلاً.

أحياناً لا تملك إلا أن تستسلم لإنسانيتك وتتجاوز اللوائح والقوانين، فمرة استُدعيتُ كمسؤول رقابة لأشهد على موظف،أعفى رجلاً أعمى حمل بضاعة لمشغله الذي يصنع فيه المكانس ، قش وحبال تربيط وعصي خشبية، ودار حوار طريف بينه وبين المدير:

-لماذا أعفيته من الرسوم ولم تكتف بذلك،بل ثبت ذلك على متن معاملة رسمية وبحروف كبيرة: يُعفى الأعمى، لماذا لم تتركه يمر وكفى، لا بل رفعتها لي لأوقع وأنت تعلم أنه ليس هناك أية مادة في القانون تعفي الأعمى!

- بل هناك قانون يعفي الأعمى!

-نوّرني!أتحفني!

ويجيب الموظف مبتسماً:

-ليس على الأعمى حرج!

يبتسم المدير رغماً عنه ويوجه كلامه إلي:

-ماذا تقول يا رقابة؟

-والله يا سيدي،الزميل الشيخ لم يترك لنا حجة، إذا كان الله سبحانه وتعالى قدأعفاه من الجهاد فمن باب أولى أن نعفيه من الرسوم!

يضحك المدير ويقول:

- ولكن الله لم يعفه من الزكاة! إسمع انت واياه!

استوفوا منه رسوم رمزية بالحد الادنى، ولا تفسروا كلام الله على كيفكم!

لم يترك المدير المسألة تمر هكذا، ويبدو أنها أثارت لديه بعض الأفكار، فرفع إلى رئاسة الوزراء اقتراحاً بالنظر في إعفاء ذوي الإحتياجات الخاصة الذين يعتاشون من مصالح صغيرة، بدل أن يكونوا عالة على المجتمع!

وبالفعل تم الأخذ برأيه وتلقى كتاب شكر على اقتراحه!

كنا نلعب السنوكر في أحد النوادي الإنجليزية، وحدث أن المشرف رفض إدخال طالب إفريقي، أراد الدخول إلى النادي، ولم يُصرّح طبعاً أن السبب هو لون بشرته، حتى لا يظهر بمظهر عنصري، أو يدين ناديه بالعنصرية!

رأينا في ذلك إهانة كبيرة لم تحتملها مشاعرنا، فدخلنا معه في محاولة لإقناعه، واستجاب أخيراً إكراماً لسلوكنا الراقي كما قال، حيث لم نثر له أية متاعب على مدى سنوات من ترددنا على النادي، وقال محذراً:

-هؤلاء ليسوا مثلكم، إنهم يثيرون الكثير من الشغب، سأسمح له بالدخول على مسؤوليتكم!

لعبنا السنوكر مع الإفريقي، الذي أثبت أنه لاعب بارع، وأخيراً أفضى لنا بما كان يحيك في نفسه طوال الوقت:

-من أين أنتم؟

-عرب!

- هل أنتم مسلمون؟

- بالطبع!

ساقول لكم شيئاً:

-المسلمون في إفريقيا، أشد من قاوم الإستعمار، ولكن للأسف الأحزاب الشيوعية هي من يقود حركات المقاومة في إفريقيا، والمسلمون بسبب تدينهم يحجمون عن الإنضمام إليها فالصلاة عندهم هي التي تجلب نصر الله، والشيوعيون بالطبع لا يُقدّمون مثل هذا التنازل!.

لعل المواقف الإنسانية الكبيرة تنطلق من نقطة صغيرة في الوجدان الإنساني، العطف أو التعاطف، ألم تطلق طوفاناً في أمريكا جرف في طريقه كل صخور القسوة العاتية بسبب مقتل رجل أسود على يد شرطة متحيزة عنصرياً، وربما تنداح أمواجه لتصل القدس، حيث لا تزال جاثمة هناك وتثقل صدر وضمير الإنسان و الإنسانية.

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى