أحمد سعداوي - بروفايل داود سالم: شخص غير موجود

كان يعرف سعر الملابس التي أرتديها، يحدد سعر القميص والبنطلون والحذاء بنظرة واحدة. حتى جاء ذلك النهار في مقهى الجماهير حين اعترف لي بأنه ما عاد قادراً على التخلص من هذه العادة:
(انها لعنة التسعينيات يا صديقي). قال ذلك في الوقت الذي كنت ارتدي به (18) ألفاً. وقبل يومين قال انني ارتدي (7) آلاف ليس إلا، واصابني اصراره بالخيبة. القميص لوحده يساوي سبعة الاف. لكنه خبير بما يقول، وعليَّ التسليم بكلامه.
ـ حين اسير في الشارع لا ارى سوى قمصان وبنطلونات واحذية.
يقول ذلك، وهو يفرك جبهته المتغضنة وكأنه يريد نسيان عمله القديم الذي ادمن عليه مدة ثماني سنوات، حين كان يبيع الملابس المستعملة في سوق هرج بالباب الشرقي.
ليس سهلاً الانتقال من الملابس المغموسة بروائح اجساد مجهولة الى رائحة ورق عتيق لكتاب اشتراه من ارصفة شارع المتنبي، ولكنه يترك القميص، او القمصلة القماشية دون اسف ويتلقف الكتاب، لكي ينظر في المرآة ويرى نفسه الاخرى، نفسه التي يتركها عند الصباح في عهدة المجهول.
ـ من الصعب الامساك بالاثنين معاً، ستخرب أحدهما او كليهما يا صديقي.
قال ذلك وهو يرشف من الشاي الساخن ثم يقرر حقيقة جديدة:
ـ في بعض الاحيان ارتدي هذه الملابس المستعملة ثم امسك بكتبي واخرج من البيت. ارتدي في العادة (الفي) دينار. بينما الكتاب يساوي خمسة آلاف. أكون الاثنين معاً.
ولكنه لم يخبرني بتلك الحقيقة الاعمق. إن هذه المهنة تناسبه أكثر من الكتب ودوار الثرثرات التي لا تنتهي عن الكتب وحول الكتب. انه بائع ملابس مستعملة ممتاز.
وهو يخاف ذلك، يخاف الاعتراف مع نفسه أو أمام الاخرين بأنه يجد نفسه هناك في سوق الهرج، مع اناس مسحوقين، ومع ضوء واضح في نفق النهار. وأنه يغترب على هذه الطاولة القذرة في مقهى الجماهير، ويشعر بالاسى، لأنه يتذكر نفسه، بينما كان ينسى، او بالعكس.
حدثني عن ذلك الرجل الذي خر على الارض مصروعاً ببكاء حرّاق حين لعب معه احد اللصوص لعبة خبيثة لسرقة جهاز التلفزيون الذي كان يعرضه للبيع. أغمض هذا اللص عيني البائع الساذج وقال له وكأنه يلعب مع صديق:
ـ آني منووو؟
شرع البائع الغشيم يعدد اسماء اصدقائه فاتحاً شدقه بابتسامة بلهاء، بينما كان رفيق للص قد اخذ التلفزيون من امام البائع بسرعة واندس بين جموع المارة. بعد لحظات اختفى اللص ايضاً، واكتشف البائع اختفاء تلفزيونه من امامه.
قال لي بأنه كان يضحك على هذا البائع الباكي، والذي قطع نفسه من البكاء، واكتشف في نفسه الضاحكة قسوة غير مفهومة، وتضامناً غامضاً مع اللص المجهول، الذي كان وسط الجميع ولم يعرف وجهه احد.
ـ أخشى اننا سنغدو هذا اللص في زمن قريب. وأخشى اكثر ان اعترف بأننا من طينة البائع الغشيم.
ولكنه ترك مهنة بيع الملابس المستعملة، واستمر بالقراءة والتفكير بالقصة. ثم بدأ يبيع الكتب، ويتخيل اثناء النهار تلك القصص التي سينكب ليلاً على كتابتها. تخيل قصة يكون فيها بائعاً متجولاً، يبيع الموسوعات الطبية في أحد شوارع مدن الضواحي في اميركا اللاتينية. واكتشف سريعاً انه يعيد كتابة قصة من كتاب (كوب الحليب).
تخيل أن اسمه داود سالم، وانه يجعد عينه اليسرى دائماً حين يغضب، ويهزأ بكل شيء، حتى حين يصل الكلام الى المواضيع الساخنة، تلك التي تذكر الجالسين بالقدر المغلي لحضرة جناب السلطة.
وبعد انقلاب هذا القدر الساخن، وانقلاب السلطة نفسها، وجد نفسه دون نقاش ينقاد للكتابة عن المسحوقين. وهو يتخيل أنه يكتب عن نفسه. إنه غير قادر على ترك ملابس البروليتاريا، وحتى لو كان يرتدي بذلة انيقة وربطة عنق ملونة، فعليكم أن تصدقوا انه سينظر الى المرآة في تواليت نادي اتحاد الادباء أو في مقر جريدة (طريق الشعب) ليقول مع نفسه (ثمنطعش) أو (تسعطعش) ولا يزيد على ذلك ديناراً. فالانتقال الى سلسلة الـ(إييين) من العشرين والثلاثين.. إلخ أمر يثير الرعب في نفسه.
أراد ان يكتب قصة عن رجل يخرج من جريدة (طريق الشعب) ويعبر (طريق السيارات) فتصدمه سيارة مسرعة وتقذفه نحو الجماهير السائرة على الرصيف. لكنه استيقظ في المستشفى ليجد وضعاً غريباً، فها هو الان، ولأول مرة منذ سنين، يملك وقتاً اجبارياً فائضاً لكتابة كل القصص التي فكر بها، تلك القصص التي خطفت في رأسه تحت امطار باب الشرقي، وبين روائح الملابس العتيقة. والقصص التي تأتيه وتنادي عليه وهو يتطوح سكران بيأسه على ارصفة العاصمة باتجاه البيت أو المجهول او اللعنة. كان لديه كل الوقت المناسب لأي كاتب عظيم، ولكن القصة التي فكر بها كتبها شخص آخر. كتبتها انا.
أخرجه اولاده على كرسي مدولب، وشاهد واجهة (الحزب الشيوعي العراقي) حيث مقر جريدة (طريق الشعب) من نافذة السيارة المسرعة، والتي كادت ان تصدم مجنوناً عاري البدن مر بشكل مباغت عند تقاطع ساحة الاندلس. اهتزت السيارة بعنف وفكر مع نفسه: القصص لا تتكرر.
كان في المقعد الخلفي للسيارة، ولهب صيفنا هذا يسفع وجهه. وعيناه تتأملان العجيزة المشعرة للمجنون الذي عبر باتجاه إتحاد الادباء، وفكر للمرة الاخيرة داخل هذه القصة بأن السائق الشاب لسيارة الاجرة هذه كان يرتدي، حين لمحه أول مرة بباب المستشفى، (25) ألفاً. وابنه الكبير يرتدي (18) بينما حذاؤه هو وقميصه الملون وبنطلونه غير المكوي لا تساوي بأجمعها غير (8) آلاف. أما ذلك المجنون العاري داكن الجسد والذي ضرب الحراس بيديه القويتين في هذا الوقت ودخل مسرعاً نحو نادي الاتحاد، فقد كان شخصاً غير موجود بالنسبة له

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى