أمل الكردفاني - الرجل الأسود.. قصة قصيرة

رغم دخوله في سن الستين، لا زال متمتعاً بجسد له عظم قوي، طويل القامة، يرتدي معطفاً رمادياً منسوجاً من الصوف ، وحذاءً أسودَ باهت اللون، على رأسه المستطيل -ذو الفك السفلي المسطح والذي يعطيه مظهراً ذكورياً قاسيا، لولا عيناه فاترتا النظرات- قبعة قصيرة السقف. يقف ويحدق في الفتاة القابعة كصنم خلف الزجاج، عارية تماماً..رغم ذلك بدا أنها متعبة، متكلفة، كانت كجثة فقدت بريقها. أصبحت تمثال لحم. لكنه لم يفكر في ذلك كله، بل ظل يحدق في جيدها النحيل الطويل، حيث تتساقط حوله خصل شعر قصيرة.. ويمكننا رؤية الرجل الأسود والفتاة من زاوية بعيدة قليلاً، ...كانا جامدين..
من خلفه كان المارة يعبرون، ولذلك لم يلحظ أحدٌ منهم وقوفه الطويل وتحديقه في الرقبة الطويلة النحيلة..لون جلدها بيجي يميل لبُيضة مختلطة بصُفرة، يمكن ملاحظة نعومة جلد الرقبة أكثر من باقي الجسد. لم تكن المسامات واضحة..لم يكن هنا زغب على المسامات، كانت رقبة أسطوانية، ملساء جداً. ومنفصلة عن الصدر بحلقة من تجعيدة خفيفة..ضيق الرجل عينيه ليجمع مزيدا من القدرة على تركيز رؤيته. التجعيدة الحلقية ممتدة قليلاً إلى الخلف بحيث تتوقف موازية الأذنين..على الأذنين قرطان دائريان كبيران من الذهب المزيف. قرطان يمنحان حلمة الأذن الحمراء إثارة من نوع خاص؛ شيء يطلق روح الأنثى في الأجواء..قرطان واسعان يصنعان ظلاً دائرياً على جلد الصدغين ويمتد الظل ماراً بعِرق خفيف الخضرة يمتد من أسفل الأذن ثم يهبط متلاشياً رويداً رويداً ، بعدها ينحني الظل على جلد الرقبة من اليمين واليسار...فيتلون الجلد بلون بيجي أغمق..أغمق بقليل في الجهة اليمني من اليسرى. تنطلق روح أنثى في الأجواء..ويظل الرجل محدقاً بتأمل شديد..تعبر داخل هذا الجيد أوردة وشرايين وقصبة هوائية وإفرازات الغدة الدرقية، ودماء وناقلات عصبية، وأكسجين، وأشياء أخرى كثيرة، تروح وتأتي عبره لتصل بين الرأس والجسد. إنه جسر الحياة...لم تسأم الفتاة من نظراته بل ظلت تبتسم. كانت تحاول إغواءه بابتسامات خفيفة متكلفة، ولكنها أضحت قلقة ومتوترة قليلاً كلما مضى الوقت، لكنه لم يلاحظ ذلك، كان مشغولاً بالتأمل..فالخصل السوداء الناعمة والمقصوصة باستقامة كانت تلتصق بالرقبة من الخلف منحنية إلى الأمام تمتد صقيلة ثم تخف السبيبات وهي ملتصقة بربع دائرة..مطلقة روح أنثى في الأجواء...ورغم برودة الأجواء لاحظ الرجل قطرات عرق تنبثق من مسامات الرقبة .. وقتها فقط رفع عينيه ليرى وجهها المتوتر. شفتين مرتعشتين، عينين كئيبتين..بلا رموش، ووشماً بنياً غامقاً لحاجبين مقوسين، كانت تشيخ ببطء سريع، تحت جفنين مُهدلين توزعت زرقة خفيفة، فنزل ببصره نحو فمها ورأى أسناناً صفراء، عرف أنها مدخنة شرهة، بعد أن تنتهي تجلس على السرير وتشعل سجارة رخيصة، هي والرجل، وتغيب في صمت، هناك ثلاث حسنات بلون بني غامق وبأحجام متغايرة تتراص تحت عينها اليسرى تحوِّل ملامحها لملامح كلبة عجوز...ازداد تعرقها، ومن خصلة شعرها فوق الجبهة المقتضبة انحدرت قطرة عَرَق ثم قطرتان فثلاث...رمشت بجفنيها لتحول دون دخول العرق إلى عينيها، لكنه اقتحمهما فصرخت ونزلت من رفها الزجاجي.. دار الرجل على عقبيه، لكنه سمعها تصرخ بلغتها وبصوت أجش لا أنوثة فيه:
- أنت لست أفضل مني أيها الأسود...
ظل صامتاً وكانت هي عارية تماماً وتصيح:
- إن كنت تراني عاهرة رخيصة فأنت أسود رخيص أيضاً...هكذا يرونك هنا...لست أفضل مني...هل تفهم أيها الغوريلا...
خرج شاب عربي من المحل وراءها ثم وقف يتأمل الموقف..
- أنت لا شيء..
اقترب خطوتين منها وحدق في عينيها لبرهة ..وغاص بكفيه القويتين داخل جيبي معطفه..ثم اخرج بيده اليسرى عقداً من سلسلة ذهبية رقيقة، وببطء لفه حول رقبتها..:
- هذا يناسب جيدك الجميل..
ثم تركها وابتعد..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى