عبد الرزاق بوتمزّار - الحـافلـة رقم 23

تتوقـّف مُصْدرة أزيـزاً يُسمَع مـن بعيد. يصعـد راكبان ويحاولان افتكاك تذكرتيهما من بين الأجساد المُتزاحِمة عند مدخل الناقلة. مع الراكبَين ثالثٌ لا ينوي دفعَ ثمن التـّذكِرة ولا وجهة مُحدَّدة يقصدها؛ الحافلة وسيلتُه وغايته. بدون مُقدّمات، ينطلق صوتـُه (ببحّةٍ تشي بأن صاحبها خرّيج "مدرسة" أخرى في الضفة الثانية للحياة- ليستبدّ بمشهد الحافلة في رحلتها الصّباحية. تسبقه رائحةُ قِربته المُنفـّرة، بلون كسوته الأحمر الفاقع وقبّعته العملاقة المُلوَّنة، التي تنسدل من على جنباتها خيوط بألوان الطـّيف:
"لـْخّـِيـاتْ ديالي، هـا واحْـد السّلامُ عليكـُم، وْسمحـُو لـيّ إلى وْقفـتْ عليكُم؛ اللـّي بْغى يْشـربْ هـا هي لكـريبـَة عـامْـرة، المَـا للهْ وْاللـّي عْطـى شي للهْ. كيكـُولـو اللـّى بْغى يْعطفْ عْـلى الكـْرّاب يْعطفْ عْليه فـْاللـّيـالي وْالحالْ بـاردْ.. اللـّي عْنـدُو شي مْـريض اللهْ يْشـافيـهْ، وْاللـّي عْنـدُو شي مْسجـونْ اللهْ يطلْق سْـراحُـو؛ اللـّي غـادي فـْالطـّريقْ اللهْ يتبّثـُو عْليهـا، وْاللـّي خـارجْ الطـّريقْ اللهْ يْـرْدُّو ليـهـا.. شْكـُون يْفتـحْ ليّ البـابْ فهـادْ النـّهـارْ المْبـارْك؟".
تنحني بعضُ الرّؤوس وتمتـدّ أصابعُ إلى حقيبة أو جيب بحثاً عن درهم أو بعض درهم. تكون "فاتحة الباب" -في الغالب- سيّدة مُتقدّمة في السّن. رؤوسٌ أخرى تنحني فقط لتـُراوغَ نظراتِ الكـرّاب المُستعطِفة، بعينيه اللـّتين تنظر كلّ واحدة منهمـا في اتّجاه مُختلف. بعضُ الرّكاب يُنكّسون رؤوسهم ويشيحون بوجوههم وهم يفركون عيونهم لإزالة ما تبقـّى مِن عمش الصّباح. بعضُهم يتأفـّفون ويُتمتمون بكلماتٍ مُبهَمة ساخِطة. المشهد يتكرّر في رحلاتهم اليومية على متن الدّابة المُخيفة. مُملّةٌ هي العادات السيئة منذ أول يوم فما بالك إن صارت جزءاً من اليوم! يعدّلون هندامهم ويُدخل بعضهم أشياءهم الصغيرة البيضاء في آذانِهم كما لو ليطرُدوا كلمات الكرّاب/ المُتسوّل. بعضُ الأصوات لا مكان لها في عقول من يتدبرون، لكنّ الجمعَ أغلب. ينساب الوقتُ على وقع صوت الكرّاب والحافلة تواصل طريقها لا تلوي على شيء.
قبل المحطة الموالية، يدقّ شابّ البابَ الخلفيَّ للنّاقلة المُهترئة بعُنف وهو يأمر السّائقَ بالتـّوقف فوراً. يضغط السّائقُ، الذي لا يكاد يظهر جسدُه النـّحيف بسبب كثرة الواقفين في الممرّ قريباً جدّا منه، على الفرامل فتتوقـّف الحافلة مُصْدرةً أزيزَها الذي يُسمع من بعيد ويُصيب الرّكاب بـ"الشّـْقيقة". ينزل ثلاثة ركّـاب، يتبعهم الكرّاب. يصعد خمسة رجال وشابّة مُتوسّطة الطول، ثمّ طفـلٌ صغير بلا ملامحَ تدُلّ على الطفولة. "سْيادْنا السلامُ عليكم؛ شْجّعُونـي عْلى التـّجارة، رانِي كنْصيّـرْ عْـلى مّي وْخّـوتِي.. شْكـلاطـة مُعتَبرة غيرْ بْـدرهم؛ وْدرهمْ مـا تـْخـوي جيبْ ما تـْعمّـرْ جيبْ. حْلـّي فمّكْ مْع هاد الصّبـاحْ وتـّفكـّرْني؛ شْكـونْ بْغـى شـي وْحدَة وْلاّ جُـوجْ؟".. يُردّد لازمتـَه دون خطـأ أو تلعثـُم وهو يطوف على الرّكاب، واضعـاً أمام كلّ واحد منهم وواحدةٍ قطعةً من حلويـاتِه. بغلافها الجذاب وخشخشتِه المُحبَّبة تـُغري الفنيدةُ بإزالة الغشاء عنها والْتهامِها ولو لم يكنْ درهمٌ في جيبٍ أو حقيبة. حين ينتهي الطفل إلى الصّفوف الأخيرة، يعود إلى مُقدّمة الحافلة ويشرع في جمع حبّات حلوياته وبعض الدّراهم من هنا وهناك.
تنحني بعضُ الرّؤوس وتمتـدّ أصابعُ إلى حقيبة أو جيب بحثاً عن الدّرهم. رؤوسٌ أخرى تنحني فقط لتـُراوغَ نظراتِ طفل بلا طفولة يُتمتمُ بكلماتٍ غير مفهومة، بعد أن لمْ يَلقَ كلّ التّشجيع على التـّجارة الذي كان يُمنّي به نفسه الصّغيرة. بعض الرّكاب يُعاودون تأفـّفهم، هاربين بعيونِهم. يُتابعون حركة السّير في الشّارع عبر زجاج الحافلة، المكسو برذاذِ مطر خفيفٍ يتساقط على المدينة الغول. لماذا يصرّ البعضُ على إزعاج البعض؟ "أسيدي أنا ما بِيتْ مْسكة، ما بِيتْ شكلاطْ.. غيرْ نوصلْ لتمّارة مْكالمي ومركّز، هادشّي اللي بِيتْ، صاااافي!" هكذا فكّر كثيرون. لكنها ضريبةُ الحياة المشترَكة. ستواصل الحافلةُ المْهلوكة رحلتها الصباحية وتواصل الحياةُ رحلتها.
رجلٌ خمسينيّ يطلب من السّائق التوقـّف وهو يدقّ الباب الخلفي بقوة، مُتفـوّهاً بكلماتٍ لا تـُناسب مظهرَه الأنيق. السّائق النـّحيف يُعانِد مُصرّا على ألا يُوقف النّاقلة المُتصدّعةَ إلا في المحطة. الطـّفلُ الصّغير يقف بمحاذاة الرّجل الأنيق وهو يتطلع إليه بنظرات مُستغربة. المحطـّة الموالية. يضغط السّائقُ على الفرامل بعصبيّة فتتوقـّف الحافلة، مُصْدرةً أزيزَها الذي يُسمع من بعيد. يُفتـَح الباب. يُغادر الطفل التّاجر وخلفه الرّجلُ الأنيق الغاضب، وهو يُشيّع السّائق بكلماتٍ أبشعَ من سابقاتها. السّائقُ النـّحيف يرُدّ عليه التّحية بأحسنَ منهـا. يصعد راكبان وفتاة قصيرة بجلباب بدون ألوان ووجه أسمرَ تعلوه ابتسامة غامضة. عيناها مسكونتان بحُزن عميق يخذل ابتسامَها: "خّـُوتِي السّلامُ عليكم؛ شْـرِيـوْ مْن عْنـدِي الجّوَا ديـال لاكـارتْ؛ راهْ غيـرْ بدرهْم.. تـّعـاوْنـُو مْعايَ عْـلى الزّمان، الله يْجـازيكـُم بخيـر. شْكـون بْغى يْتـّعـاونْ مْعـايَ ويّـاخدْ الجّوَا ديـالْ لاكـارْت بدرْهم؟".. تـُفسح لنفسِهـا ممرّاً وسط الحافلة، الـّتي بدأت الأجساد الواقفة في داخلها تلتصق ببعضها أكثرَ فأكثر. تُجرجر رجلها اليُسرى العليلة وهي تـردّد جُملتـَها الأثيرة بدون توقـّف "شْكـون يْشـرِي مْن عْنـدي الجّوَا ديـالْ لاكـارتْ بْدرهْم؟".. تنحني بعضُ الرّؤوس وتمتـدّ أصابعُ إلى حقيبة أو جيب بحثاً عن الدّرهم. رؤوسٌ أخرى تنحني فقط لتـُراوغَ نظراتِ البائعة الكسيحة. يشتري البعضُ الغشاء البلاستيكي ولو أنّهم لا يعرفون إن كانوا يحملون معهم بطائقهم. بعضُ الرّكاب يكتفون بنقدِ البائعة/ المُتسوّلة درهماً أو درهمَين مُعتذرين عن أخذ "الجّـْوا".
المحطـّة الموالية. يضغط السّائقُ النّحيف على الفرامل فتتوقـّف الحافلة، مُصْدرةً أزيزَها الذي يُسمع من بعيد. تهبط البائعة السّمراء بمهَل وأهبط. يضغط السّائقُ على دوّاسة الحافلة فتنطلق مُخترقةً الشّارع المَكسوَّ برذاذِ مطر خفيفٍ يتساقط على المدينةٍ الغُول...


عبد الرزاق بوتمزّار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى