أنيس الرافعي - صحراء في الطابق الأخير

كلّ ما بوسعي قراءته الآن – وﺇن بصورة ضبابية غير مؤكدة – على صفحة ذهني المجلوّة البيضاء كالمرآة، أن السماء أنذرت فجأة بمطر وشيك، وكنت متلفعا بمعطف شتوي ثقيل وعلى عاتق يدي مظلة واقية مغلقة، أحث الخطى على عجل فوق طريق مظلمة تكسوها الحصى، ناشدا البحث عن فندق مّا ﺃقضّي فيه ليلتي الأولى داخل مدينة صغيرة ومنسية كنت قد وصلتها لتوي.
وبخلاف هذا، لم ﺃعد ﺃذكر أي شيء . ثمة ثقب ﺃسود بلا قرار أو بالأحرى الطريق مبتورة دون رجعة مثل عضو حيوي إلى ما حدث فيما بعد. لماذا أتيت إلى هناك أصلا؟ هل فعلا عثرت على فندق مّا? أقضيت الليلة في إحدى غرفه؟ هل مازلت مقيما أم أني غادرت؟ أين أنا الآن على وجه التحديد، ومنذ متى?
صراحة، لا ﺃدري. بل، اﻷنكى لا ﺃعلم شيئا عن طبيعة الحالة الغريبة والقصّية عن المعنى، التي تلّم بي في هذه الأثناء، وتضرب بإزميل الشك أساسات أدنى يقين من حولي.
فخفقات قلبي متسارعة مثل حبات رمل في ساعة زجاجية مقلوبة . فمي كتلة لحم مائعة ﻷن أسناني على ما يبدو نزعت أو كان لي طقم وضاع مني. أصوات الخارج لا تنفذ عبر سمك الصمت الشامل الذي يطوّقني. العمّاء يستبد بي والصور منحسرة عني مادام ليس بإمكاني على الإطلاق فتح جفنيّ. العرق يمتد إلى آخر نقطة في جسدي، وأطرافي شبه مشلولة.
ﺃخالني – إن لم يكن زعمي مجانبا لما ﺃشعر به – ممددا عاريا على جانبي الأيمن لصق جدار طيني داخل حيز بالغ الضيق تسود داخله حرارة لا تطاق.
ترى، هل حسبوا أني في عداد الموتى، واستعجلوا مواراتي الثرى? هل أنا ميت في حقيقة الأمر، بيد ﺃنّه بمستطاعي مراقبة نفسي من مسافة بعيدة؟ أم أني منحشر لا ﺃقل ولا أكثر في نسيج كابوس شنيع يحاكي شكلا غير معروف من أشكال اليقظة، أو تعرض لثقوب جسيمة جعلت حبائله تطفر إلى سطح الواقع، وهاهي تشد الخناق بإحكام على إدراكي؟
ﺃعتقد أن كل هذا غير صحيح، ﻷن يدي اليسرى. وحدها يدي اليسرى، وبحركة بطيئة كأنها أعوام، كان بمقدورها مغادرة نطاق هذا العجز المطبق كي تتحسس خشونة الجدار وملمسه اللاهب.
لحظتها، تمنيت من قرارة نفسي لو كان بهذا الجدار نافذة أو على الأقل ليدي امتياز رسم تلك النافذة على ذاك الجدار.
عندئذ، لفتحتها على مصراعيها لأشاهد – لبضع دقائق لا غير – هطول المطر. المطر العزيز عليّ والرؤوم كالبلسم لأنه استوعب على الدوام جيّدا حجم الصحراء المخبوءة بداخلي.
وليكن غزيرا ومدرارا بما يكفي حتى تنبت في قلبي غابة كثيفة، أصيخ فيها السمع إلى تنهد العشب قبل أن تتنصل مني روحي كالريشة التي تنسحب من جناحي الطائر في غفلة منه، لما يهم بالانتقال من شجرة إلى صنوها داخل أنحاء الغابة.
تلك الغابة بالذات، التي استعصت عليّ رغم أني رسمت النافذة فعلا وأشرعتها من أقصاها إلى أقصاها، لكن للأسف عزّ عليّ المطر. ربما لأنه من الصعوبة بمكان أن تقنع مطرا بالظهور هكذا بلا ضمانات على مسرح خيالك بوجود متفرج وحيد هو أنت، أو ربما ببساطة لأنني لم أصر بعد جديرا بحتف جميل وملّون كهذا.
ومع ذلك، لم أكن حزينا أو واقعا تحت سطوة أدنى شقوة أو إحساس تراجيدي نظير ذلك الذي يجتاح أفئدة من هم في حالتي على وشك قطع الشريان الأخير الذي يربطهم بعضد الحياة.
والقطع هنا، استعارة فقط، إذ يجب التأكيد قبل أن تزج بكم الظنون في مهب تلك الطرائق الذاتية والدموية لوضع حد للحياة، بأنني لم أفكر قط يوما بالإقدام على الانتحار.
بل، على النقيض كنت في حالة معنوية عالية جدا كما لو أنني موقن بأن بحوزتي مقدرة غير قابلة للاستنفاد بأن أولد في الصباح. بأن اكبر في الظهيرة. بأن أشيخ في المساء، و بأن أموت في الفجر، ثم بأن أولد مرة أخرى في صباح جديد. أو بمعدل كل دقيقة سأموت، ثم سوف أعود للحياة مرة أخرى، ثم سوف أموت، وﺃرجع للحياة من جديد.
أصير في كل دقيقة أكثر موتا، ثم أصبح في كل دقيقة تالية أكثر حياة.
طبعا، كنت ﺃعرف بأن هذا السيناريو غير واقعي بالمرة، لكنني كنت في مسيس الحاجة لأن أموت في التو وعلى وجه السرعة لأتأكد من صدق فرضيتي عن هذه الإمكانية الإرادية والمتعاقبة زمنيا للعودة في كلّ مرة من كلّ موت.
و لربما بإيعاز من قوة هذه الحاجة، بسطت يدي. اليسرى التي حدثكم عنها، لأوصد النافذة، ثم بدأت تدريجيا أصبح ﺃبعد فأبعد مثل قميص ﺃبيض كان على حبل غسيل وطيرته الريح، فأضحى خفيفا وحرا إلى الأبد من ﺃسر جسده القديم.
لكن، في اللحظة التي ظننت فيها بأنني سأنزلق إلى اﻹنطفاء النهائي، داهم غيبوبتي عبر خصاص النافذة وميض ضوء نحيل مثل لمعة سيف، ثم سرعان مارسخ حضوره على حساب العتمة، وتدفق ساطعا في اتجاهي على هيئة طريق طويلة يجللها السراب.
الطريق كانت في البداية خاوية كطبل لا ترجيع له، وكذا متلظية من شدة الحرّ لدرجة تفشت في أعطافي الوحشة وسلخ حنجرتي العطش . ومن حجم هذا العطش كان بإمكاني تقدير عمق ذلك السراب الذي طفق يدنو مني شيئا فشيئا، قبل أن يتمخض بغتة عن رجل غريب بلا ملامح كأنه قادم من قاع الأحقاب، يتلفع بمعطف شتوي ثقيل وعلى عاتق يده مظلة واقية مغلقة.
وبمجرد ظهوره لا ﺃدري لم أحسست بأن الغيوم قريبة جدا. كلّما اقترب من نافذتي خفف من غلواء عطشي وانجلى عن غيبوبتي السراب. ولما تجاوزها ليصير وجهه هو وجهي. جسده هو جسدي. أنفاسه هي أنفاسي. روحه هي روحي. معطفه لي. ومظلته لي، فتحت عيني فجأة كانتفاضة الغريق وأبصرت سماء ملّبدة بغيوم مثقلة تنذر بمطر وشيك.
بدأت أحث الخطى على عجل فوق طريق مظلمة تكسوها الحصى دون أن يزايلني الإحساس بكوني لست أنا من يحث الخطى، بل فحسب أشاهد نفسي وأنا أحث الخطى، ثم دلفت إلى أول فندق صادفته.
ﺃخبرني موظف الاستقبال بأن الفندق مشغول عن آخره خلا غرفة وحيدة بسريرين. تسلمت المفتاح، وارتقيت السلالم إلى الطابق الأخير.
حاولت النوم، لكنه جافاني. عندها جلست على طرف السرير الأول، وأشعلت سيجارة. كنت أخمن بالانتقال إلى السرير الثاني علّ النوم يوافيني، لكن المسافة بدت لي محدقة بالخطر كأني سوف ﺃمشي مثل لاعب الأكروبات على حبل مشدود في الهواء يفصل بين السريرين وفي الأسفل عمق حفيّ وسحيق. عدلت سريعا عن الفكرة لكوني كنت على يقين من قدرتي على الوصول إلى الطرف الآخر من هذا الحبل الذي يمتد أمامي كطريق الحياة. الوصول لحظتها بدا لي طبيعيا ومفرغا من أي مغزى، بينما أنا أريد أن ﺃمشي على هذا الحبل دون طموح حقيقي في أن يحالفني الوصول إلى نهايته.
ذلك العمق الحفيّ والسحيق في الأسفل، كان هو منيتي .
نهضت من مكاني، ثم أشرعت نافذة الغرفة على مصراعيها وبداخلي رغبة ملّحة ترنو إلى الأفق على أمل أن تنحني السماء صوب أحزان المطر.
في صباح اليوم التالي، عثر داخل إحدى غرف الطابق الأخير للفندق على رجل ميت في المساحة الفاصلة بين سريرين، رغم أن موظف الاستقبال أكد جازما بأنه تسلم منه المفتاح وشاهده يغادر عند الفجر متلفعا بمعطفه الشتوي الثقيل وعلى عاتق يده مظلة واقية مفتوحة لأن السماء ساعتها كانت تمطر..وبغزارة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى