نزار حسين راشد - الطريق إلى أورشليم

أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!" (مت 23: 37


لم يبق في مصر غير قرع أحجار النرد، على أرصفةالمقاهي، وعاد صوت أم كلثوم الناعس، المُخدّر للحواس، ليملأ الفضاء الملوّث بالدخان والضجيج، وصَمَت فجأة الإيقاع العالي للأغاني الوطنية، تساوى الحاضر والمستقبل، وَقَفا على أرضٍ منبسطة،تتيح لك مدى أبعد من الرؤيا، اختفى قوس السماء، ولم يعد العالم كرويّاً غامضاً ومشوقاً، كل شيء رتيب وبارد كوجه الرئيس، وحتى توتٌّر الإنتظار تراخى وسقط كوترٍ مقطوع.
وهكذا حزمنا أمتعتنا وعدنا إلى القدس أو أورشليم -القدس كما يحلو لليهود أن يسموها، رغم أنها كلمة كنعانية تعني مدينة السلام.
عدنا حتى إلى بيتنا القديم في المٌطّلع والمخصص لإقامة رئيس فرع منظمة الصحة العالمية الذي هو زوجي في القدس، والمستأجر بشكل دائم من قبل المنظمة.
وددت لو ألتقي بذلك الضابط الذي سهل أمر عودة زوجي إلى هنا ليشهد ولادة السلام في مدينة السلام، كل يوم تكذّب الأحداث نبوءته، وكل يوم تصدق أورشليم وصف المسيح عليه السلام، كل يوم يتواصل قتل الأنبياء في شوارع أورشليم، الأنبياء الصغار، الأطفال الذين يقذفون الدبابات بالحجار التي تسعها قبضاتهم الصغيرة.
الدبابات لا تصنع سلاماً يا صديقي الضابط،كم وددت لو يكسب رهانك هذه المرة،وأخسر أنا الرهان،ولكن سادتك خذلوك وأخلفوا وعدهم.
إنهم ينبشون الأرض ، يقلبون باطنها ويغوصون في أعماقها إلى أبعد ما تطال آلاتهم الصماء، بحثاً عن الأحجار المقدسة، وعلى وجه هذه الأرض يمتهنون قداسة الحياة، بأبشع ما يمكن أن تهيّأه مخيلة شريرة، حتى أكاد أقول لهم: أقم مملكة الله في قلبك تقم على أرضك، ولا تجعلوا بيت الرب متحفاً أصمّاً بل أقيموا فيه شعائر الحياة، أنا أخاطبهم بالصوت العالي وكأنني المسيح الجديد،ولا أخشى البطش فلم يعد هناك ما أخشاه، فعلى أرض أو رشليم يصبح الموت صنو الحياة، بالتأكيد ليس خلاصاً، ولكنه الطريق الوحيد لحرّية و كرامة الإنسان، لا أدري إلى أي مدى سيبلغ صوتي وفي أي أذن سيتردّد صداه ، ولكني آويت تلك الفتاة التي تبحثون عنها لتقيموا عليها حدّ الرّجم ولا تقيمونه على القتلة، لأنهم يتنكّرون بالبزّة العسكرية، التي أصبحت رخصةً للقتل.
لم يجد الفلسطينيون مكاناً آمَنَ من بيتي ليستودعوا فيه تلك الفتاة اليهودية، التي قدمت من أقاصي الأرض، من بولندا أو هنغاريا أو بيلوروسيا إلى أرض أورشليم لتطأ بلاط الهيكل، فلم تجد بلاطاً ولا هيكلاً ، ولكنها وجدت إنساناً أحبّها وأحبته، ولأنه عربي ومسلم تبحثون عنها الآن لتحاكموها، لقد جعلتُ بيتي ملاذاً كبيت الرب تماماً، وربما بشيء من المكر، فربما ألتقي ذلك الضابط الذي راوده حلم أورشليم تخيم في سماءهاالسكينة وتبسطها على أرضها، ربما لأقول له إن حلمك يُنتهك كل يوم على يد رؤسائك ومستخدميك، إنهم ينسلونه خيطاً خيطاً، وينقضونه حجراً حجراً ولبنة لبنة، ليحوّلو أورشليم إلى خراب، بأيديهم لا بأيدي الأعداء، فأولئك يبنون وهؤلاء يهدمون، وها هم قد شيدوا كنيس الخرلب، اعيتهم الأسماء فلم يجوا اسماً غيره، أم لعلهم مفتونون بالخراب، إنه فألٌ سيءٌ أقول لك، وها هم يضعون علاماتهم بأنفسهم على الطريق الذي سيمضون فيه حتى النهاية: الخراب.
كم وددت أن أوصل رسالتي إلى هؤلاء الكهنة والفريسين، ليس في هذه المدينة أطلال، أُنظُر حولك، هناك أطلال في كل مكان، أعمدة يونانية رومانية، هياكل ومدرجات، تحمل بصمات أصحابها، إلا داخل الأسوار، ليس هناك ولا ححر واحد داخل أسوار أورشليم، لم يقم فيها حتى معبد لأي إله ، قبل اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للمسيحية،ليس إلا بعد أن شعر المسيحيون بالأمان، فبنوا كنيسة المهد والقيامة، وأبقوها حية الأنفاس، يقيمون فيها شعائرهم ، وظلت تتجدّد كل يوم ولم تتحوّل إلى أطلال، حتى جاء عمر بن الخطاب فوضعوا الوديعة ُبين يديه، فأعطاهم عهده وأمانهُ، وخطّ مكان قبلة أبيه إبراهيم ومسرى رسوله محمد، لم يهدم حجراً ولم ينصب حجراً ولكن التاريخ أكمل مساره فأقام ابن مروان بناء يؤوي المصلين، ونصب لهم محراباً وأشاد لهم قبة تُظلّ الراكعين والساجدين. ولم يتكدّر هذا الأمان، قروناً تطاولت،حتى مجيء البرابرة، لينقضوا عهد صفرونيوس ويستبدلوا الصليب الذي ظل مرفوعاً في سماء أورشليم مطمئناً إلى صوت الآذان، الذي يهديه السكينة خمس مرّاتٍ في اليوم والليلة، حتى أسكتوا صوته ولم يعد يُسمع في سماء أورشليم إلا صليل السيوف وصهيل الخيول، وصخب الجنود السكارى، فيضيع قرع الأجراس، في غمار هذا الصخب الماجن.
ما إن وهنت حملة التفتيش عن ستيلا الفتاة اليهودية الضائعة، حتى هرع الفلسطينيون إلى بيتي، وتحت عين النهار، فألبسوها ثوباً فلسطينياً مطرزاً وعلى رأسها الغطرة الفلسطينية البيضاء ، وقالوا باقتضاب أنهم ذاهبون بها إلى بيت زوجها ولم يفصحوا لي عن المكان، ولم ينسوا أن يشكروني على طريقتهم الخاصة،قليل من الكلام وكثير من المشاعر!
واختفت الفتاة حتى كاد ينساها الجميع إلى أن صحوت ذات يوم ليطالعني وجهها على كل واجهات الصحف،لقد سعت بنفسها إلى مكتب الحاكم العسكري الإسرائيلي، ولتعلن له عن نفسها، وليتبين أنها ابنة أخته، وذكرته بواجبه تجاهها وبواجب الإحتلال بتوفير سبل العيش لأبناء الشعب الذي احتلوا أرضه!
وماذا تطلبين يسألها الخال العتيد، أليس من الأفضل لو عدت إلى أهلك وتركت هؤلا؟!
وتجيبه بحزم ودون أي تردد:
-هؤلاء هم أهلي! كل ما أطلبه منك أن تصدر لزوجي تصريح عمل داخل ما تسمونه الخط الأخضر!
حفظاً لماء وجهه ولأنها أصبحت قضية مفتوحه وتحت عدسات الصحافة المجهرة، يصدر الحاكم لها تصريحاً.
وبعد أيام أقرأ له تصريحا مشيناً في مقابلة مع صحفي يستفزه بالسؤال:
-لماذا تركتكم ابنتكم، ولجأت لحضن هذا العربي! هل هناك ما يقدمه لها، مما تعجزون أنتم عن تقديمه؟
وهنا ينفلت صاحبنا من كل عقال، ويطلق لسانه في ابنة أخته بلا تورع ولا خجل، ويسقط في حضيض لا قاع له ليقول:
-أصلاً هذه فتاة رخيصة، وهي صغيرة كان بإمكانك ان تحصل منها على ما تشاء بقطعة من الشوكولاته!
لقد روى لي كثيرون عن افتقاد اليهود لحس العفة والتعفف، حتى قال لي مقاول مسيحي من اللد كان والداً لصديقتي: قال أنه أيام الإنتداب الإنجليزي خطف يهودي منه العطاء وبسعر أعلى بكثير حين قدم ابنتيه التوأمين الشابتين رشوة للضابط الإنجليزي ،كنت ذاهباً لمراجعة الضابط حين رأيتهما تثبان من سيارة والدهما المفتوحة وتتقافزان متضاحكتين لتدلفا إلى خيمة الضابط الإنجليزي، الإنجليز كانوا فاسدين ومرتشين أيضاً، وهذا هو الجو الذي انتعش فيه وانتشر كالبقل في الماء مؤسسوا دولة إسرائيل.
وإذن فهذا هو السر، لقد نقموا منها انتقالها إلى الصف الآخر، صف العفة،لأن المقارنة تفضحهم، يريدونها أن تبقى على هيأتهم،كنت اقرأ عن انحلال يا ئيل دايان و شذوذ أبيها نفسه موشى دايان وزير دفاعهم، ولكني كنت أظن ذلك دعاية عربية نطلقها نحن العرب من غيظنا على اليهود وقلة حيلتنا تجاههم.
حكى لي والد صديقتي أيضاً أن اليهود يبيحون زواج ابنة الاخ وابنة الأخت، ولهذا قتلوا يوحنا المعمدان حين رفض أن يصدر لهم فتوى تبيح ذلك!
كنت أتابع كل ما يجري بحثيثية شديدة،وأنفعل وأعلّق بصخب، وأصرخ عالياً لأُسمع صوتي ولو للفراغ، وكان زوجي الدكتور توماس يتابع بوقار وصمت، وكأنه يختزن كل ما يجري في ذاكرته الحية ربما ليحكيها لابننا محمد فيما بعد!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى