نزار حسين راشد - على أرض بيت المقدس

ابننا محمد يكبر على أرض القدس،وأصبح على وشك دخول المدرسة،واقترحت أن نلحقه بمدرسة دولية،ولكن زوجي السويدي رفض رفضاً قاطعاً،وأبدى استغرابه أن ياتي هذا الإقتراح من جانبي أنا الفلسطينية المقدسية،لا بل قال:سنلحقه بمدرسة عربية،دعيه يشعر بالانتماء،دعيه يعرف من هو،مما جعلني أخجل من نفسي وأضطر للاعتذار لتوماس وقلت مبررة وجهة نظري،أردت أن أودعه في بيئة آمنة!
ويردّ توماس داحضاً وجهة نظري:
-من هو الآمن هنا؟ لقد تعلمنا نحن الأوروبيون من التاريخ درساً قاسياً،لا أحد آمن تحت الإحتلال،لا بل إن الخيار الأكثر امناً،هو طريق المقاومة والرفض،أكثر منه الرضوخ والاستسلام!
المعركة قائمة على أرض القدس،وبدأ اليهود يزاحمون الفلسطينيين في وجودهم،واستولوا على البيوت التي تركها أصخابها إبان الحرب،وغادروا إلى الأردن أو المهاجر في اوروبا وأمريكا،استولوا عليها بحجة ما أسموه أملاك الغائبين،وهو تحايل يتقنه اليهود تماماً وكأن غياب صاحب الحق،يمنحك شرعية الإستيلاء عليه!
وهناك عقارات اشتروها عن طريق سماسرة عرب،يتظاهرون أنهم يشترون العقارات لأنفسهم ثم يبيعونها لليهود،كثيرون سقطوا ضحية لهذه الحيلة قبل أن تنكشف،وربما اضطروا لذلك بسبب إجراءات التضييق المجحفة ورسوم الترخيص الباهظة التي لا يستطيعون أداءها،وفي هذه الحالة تستولي عليها بلدية أورشليم التي يرأسها شلومو هليل الذي تفنن في إجراءات التضييق وفرض الرسوم والبدلات الباهظة او حتى الهدم بحجة عدم وجود الترخيص او حتى العجز عن تجديده،وأحياناً الطرد والإخلاء المباشر بحجة المقاومة والانتماء أو التعاطف مع حركات إرهابية.
هذه المزاحمة اليهودية أشعلت حدة المواجهة خاصة وأن اليهود سيؤو السلوك، ويضايقون جيرانهم بكل وسيلة تحت حماية الجيش والشرطة،وهذه مظاهر يومية تصادفك كثيراً،حتى أنني ذات مرّة رفعت رأسي وصرخت على امرأة يهودية؛
-لماذا تلقين القاذورات في حوش جارتك ؟ألا تخجلين؟من أين اتيت أصلاً؟من اوروبا أو أمريكا؟وهل لو كنت في اوروبا كتت ستجرؤين على فعل الشيء نفسه هناك؟
لتجيبني بكل وقاحة:لأنها عربية،سأضطرها للرحيل،فلا حق لها في الإقامة هنا!
ولكن المقدسيين لا يرحلون،دوافع البقاء مخبئة ليست تحت جلودهم،ولكنها مدفونة هناك كبذرةٍ ثمينة في أعمق اعماقهم في داخل جيناتهم،وتستمر المعركة،الصامتة والصاخبة،ويتتابع الزمن بتتابع الأحداث،كاشفاً ما بظهر الغيب،ويتجدد الماء في النهر كل لحظة،والكل مترقب لما سيأتي به الغيب،لعله يكون أفضل،وهذا هو الرهان الذي لا يتخلى عنه الفلسطينيون أبداً،فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة وسيخرج الغرباء أخيرا. من القمح والجرح،وهذا ما بشرهم به شاعرهم محمود درويش،في قصيدته التي أثارت غيظ الإسرائيليين كثيراً.
أخيراً قرّرتُ ارتداء الحجاب الإسلامي والتخلي عن لباسي الأوروبي الذي لبسته منذ الصغر،سرّ زوجي توماس بذلك سروراً عظيماً وتملّكه إحساس بالكبرياء وهو يسير تتأبّط ذراعه امرأة محتشمة بجلباب وغطاء رأس،ويبدو أن لإسلامه الجديد حلاوة في نفسه لا أجدها أنا بحكم الإلفة الطويلة فهو ديني الذي ولدت به وأدمنته طوال حياتي.
...
لبنان كان تجربة مؤلمة للجميع،أمّا أشدهم إيلاماً فكان الفلسطينيون الذين ارتكبت بحقهم مجزرة دموية فظيعة في مخيم صبرا وشتيلا،على يد حزب الكتائب الماروني وبغطاء من الجيش الإسرائيلي،مذبحة بلغت من الفظاعة أن استنكرها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان نفسه ودعاها بالمحرقة،وكما علق أحد الصحفيين الأمريكان على تألم ستالين لآلام الشعب الروسي إبان الحصار النازي في الحرب العالمية الثانية"فحينما يتألم ريغان"بتبديل اسم" ستالين" من آلام الآخرين،فذلك يعني أن الوضع مؤلم حقّاً.
طبعاً تباكى مناحم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي وردّ على ريغان بقوله:إن كلمة محرقة تذكر فقط بمعاناة اليهود على يد هتلر!
كان رداً مبتذلاً ولكن ياسر عرفات تلقى توبيخاً ثقيلاً وخاصة من الشاعر الفلسطيني محمود رويش على قراره بالخروج،حتى أنه دعاه ملك الخطابة والفرار.
محمود درويش الذي رافق عرفات في بيروت رأى في الخروج خطيئة لا تغتفر وكأنه الخروج من الجنة!
ولكن عرفات انتصر عليه حلمه الذي يراوده في العودة إلى فلسطين ولو بمجرد وضع قدمه هناك،ورأى في ذلك نصراً كبيراً،ويبدو أن إسحق رابين سايره في حلم إقامة دولة فلسطينية ولو بالشروط الإسرائيلية أو تحت أي شروط!
توماس كان يتميز غيظاً وقال إنه لو أتيحت له مقابلة عرفات لحذّره من أن من يظن نفسه شعب الله المختار،لن يعطي لشعبّ آخر أي شيء،ولن يعيد له شيئاً حتى لو كان حقه المسروق،لأن هذا الإستعلاء يبيح لك سرقة الآخرين الغوييم من غير أبناء شعبك، الذين لا حقوق لهم في دينك الذي شرعه لك الرب وأعطاك هذا الحق.
توماس المسلم حديثاً قرأ العهد القديم جيداً والعهد الجديد أيضاً،وقد ظل متديناً حتى لحظة إسلامه!
..
قرّرت مرافقة توماس في رحلته إلى لبنان في أسبوع ورشة عمل،كنت متشوفة لرؤية هذا البلد الذي كتبت على أرضه حقبة من تاريخنا،بريشةّ مغموسةٍ بالدم.
كنا نتجول في بيروت الشرقية وفدقررنا الدخول إلى مطعم لتناول الغداء،وما إن جلسنا حتى بدأ القائمون على الخدمة بإبداء كثير من التبرم والضيق،ثم جاء صاحب المطعم بنفسه وفي أعقابه زوجته ليبلغنا أن الغداء سيتأخر لهذا اليوم وأنه من الأفضل لنا الذهاب إلى مطعم آخر،ويبدو أن توماس سبقني إلى فهم أسباب هذا الجفاء الذي تعمدوا إبدائه، نهض وأمسك بالصليب المعلق في رقبة صاحب المطعم وعرّفه بنفسه كسويدي عامل في منظمة الصحة العالمية ثم قال له مؤنباً:
-هل لباس زوجتي هو السبب؟من يحمل في صدره كل هذه الضغينة لا يستحق ان ينتسب إلى المسيحية،ثم ألا ترتدي الراهبات مثل هذا اللباس؟انظر حيداً،حتى تبرجنا نحن الاوروبيون مخالف لتعاليم المسيح وإذا كان علينا أن نقلد احداً في لبسنا فلنقلد أمنا العذراء مريم إذن!
بدا على الرجل الإرتباك واتسعت عيناه دهشة ولم يستوعب الصورة،كيف لمسيحي سويدي أن يقترن بامرأة مسلمة ترتدي الحجاب!
حين صرنا في الشارع علق توماس:
- لبنان كشحرة الدفلى الوان زاهية وطعم مر!
وانا بدوري فكرت أن المرارة هنا لا تزال في كل قلب وتحت كل لسان!
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى