محمود شاهين - (16) النّبلاء وحدهم سيتحدون بالألوهة في تجسدها الأرقى!

( الفصل السادس عشر من قصة الخلق )

ما أن دردشنا قليلا حول مسائل مختلفة ونحن نحتسي القهوة ، حتى شرعت في تسجيل حلقة جديدة من الحوار مع محمود أبو الجدايل ، استهللت أسئلتي بالقول :

أستاذ محمود . تطرقنا في الحلقة السابقة إلى الإختلاف بين مفهوم الألوهة لديك عنه عند ابن سينا ، ولا شك أن ثمة ما هو مختلف في معظم الفلسفات ، وثمة ما هو متفق أيضا ، وهذه مسألة تحتاج وحدها إلى برنامج مطول ، لكن ذلك لن يثنينا عن طرق بعض الاختلافات الجوهرية في بعض الفلسفات ، وخاصة تلك التي تستند إلى مذهب وحدة الوجود ، كما هي عند ابن عربي وسبينوزا مثلا .. فبماذا تختلف رؤيتكم للألوهة عن رؤية ابن عربي ؟

- ابن عربي مدرسة كبيرة وقد تأثرت بفكره في وحدة الوجود واعتبار كل المعتقدات والأديان والفلسفات فكراً إلهيا ، وأن الا نسان مهما عبد يعبد الله ، لأن لا شيء في الوجود خارج الذات الإلهية .. وأكد كثيرا على مسألة الحب وأن دينه هو دين الحب حين أنشد قائلا :

لقد صار قلبي قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

*****

غير أن لابن عربي شطحات كثيرة لا اتفق معه عليها .. فمن دينه دين الحب لن يتقبل وجود عذاب في جهنم ، وهذا ما لم ينفه ابن عربي.. فقد كان حريصا على عدم التناقض مع النص الديني في الدنيا والآخرة .. وإن تطرق إلى رحمة الله التي تشمل جميع البشر في النهاية ، لكن بعد أن ينال المذنبون عقابهم .

والذات الإلهية هذه كما هو الله نفسه عند ابن عربي، خارج الماهية والجوهر، فلا نعرف ما هو إلا عبر أسمائه كقادر وعليم وعظيم .. ألخ ، مجرد أسماء ؟ يحرص ابن عربي عبرها على عدم الخروج على النص الديني ( ليس كمثله شيء ) لذلك لا يقدم أي وصف للإله ليظل لغزا كما يقول نصرحامد أبو زيد :

".. يحرص ابن عربي على عدم اعطاء أي وصف لغوي أو فلسفي أو لاهوتي أو حتى سردي للذات الإلهية ، إنها خارج العلم وفوق أي معرفة ، ولا تطولها العبارة سلبا أو إيجابا .."

كما لم يقدم تعريفا لطبيعة الله سوى أنه الحقيقة ، لكن حين يقدم نفسه على أنه أحد أربعة يحملون العرش الإلهي ، فإنه يوحي للقارئ بأن الله يشبه ملكا يحتاج إلى عرش يجلس عليه ، وهذه صورة مختلفة عن الحقيقة الإلهية السارية في الكون من أعلاه إلى أدناه حسب رؤيته. كما أنه يقدم نفسه كركن من أركان الحجر الأسود ، وخاتم للولاية المحمدية ، عدا رؤيته بأن الوجود جاء من الحقيقة المحمدية ، كنور أزلي موجود من القدم في الرؤيا الإلهية . وحين يدخل ابن عربي في تفاصيل عملية إظهار الوجود من العماء إلى العلن يضعنا في متاهات معقدة ، فثمة "سكرتاريا"ا إلهية لا بد للممكنات أو " الأعيان الثابتة في العدم " (أي ما يمكن أن يعتبر وجودا حسب فهمنا) من التقدم عبرها إلى الله لإظهار الوجود ، وهذه السكرتاريا ليست إلا أسماء الله نفسه .

يقول نصر أبو زيد مقتبسا عن ابن عربي: ..ولأن طلب الممكنات كان مقنعا للأسماء من زاوية حاجتها هي لإظهارسلطان فعاليتها فقد اجتمعت وتشاورت وقررت التوجه للاسم الإلهي " الباري "طالبة منه أن يظهرأعيان الممكنات . لكن الاسم الباري يحتاج إلى الاسم " القادر " ليتمكن من القيام بمهمته، فيحيل الاسم " الباري " الأسماء الإلهية لتطلب من الاسم " القادر " اظهار فعاليته التي تمنح الاسم "الباري" القدرة لإظهار فعاليته بإظهار أعيان الممكنات..

لكن الاسم القادر بدوره يدل على مطلق القدرة – إن الله على كل شيء قدير- فهو يحتاج للمرجح والمخصص الذي يحدد له مجال ممارسة فعالية فعله – " القدرة "- على التحديد . وهذا الترجيح والتخصيص من وظائف ومهام الاسم الإلهي المريد . وهكذا يحيل الاسم " القادر " الأسماء الإلهية الأخرى لكي تتوجه بطلبها إلى الاسم الإلهي " المريد " . يقوم الاسم الإلهي المريد بدوره بإحالة الأسماء الإلهية لتتوجه للإسم الإلهي " العالم " الذي يطلب بدوره من الأسماء الإلهية أن تستأذن الاسم الإلهي الجامع " الله " . ورغم ان الاسم " الله " يمثل الجمعية - جمعية الأسماء الإلهية – فهو محكوم بسلطة "الذات" الإلهية طلبا للإذن بالفعل .

وهكذا نجد أنفسنا أمام بيرقراطية خلق ربانية عجيبة .. يتابع نصر بعد ذلك قائلا: لا يسرد لنا ابن عربي ما قاله الاسم " الله "للذات الإلهية .

ليس هذا إلا بعض اليسير عن عملية اظهار الوجود من العماء ( الخفاء ) إلى العلن كما هي عند ابن عربي .. ولن يفوتنا أن ننوه إلى أن الله عند ابن عربي، عربي ، طالما أنه يتكلم العربية دون غيرها ، وأسماؤه وصفاته بالعربية دون غيرها ، وإظهارالوجود بالعربية دون غيرها ، ومراتب الوجود وما يوازيها من الأسماء الإلهية يرمز لها بحرف من حروف العربية ال (28) فليس هناك حرف في اللغة العربية أإلا وله مرتبة وجودية ويرمز إلى أحد الأسماء الإلهية . فالهمزة ( الألف ) مثلا، ترمز إلى الاسم " البديع " ومرتبتها الوجودية هي : العقل الأول / القلم . والهاء مثلا : الباعث . النفس الكلية . اللوح المحفوظ .. والعين : الباطن . الطبيعة الكلية . اما اسم الرب فيتجلى في حرف الباء . ومرتبة الحرف الوجودية هي السماء الاولى/ كيوان . ويرمز هذا الحرف إلى اسم النبي ابراهيم ويوم السبت!! ألخ .. يبقى أن نقول إنّ شطحات ابن عربي كثيرة .. ومع ذلك يسجل له أنه حاول واجتهد ليقدم رؤية مختلفة للوجود وإن استندت بقدر ما إلى مذاهب وفلسفات مختلفة من هندوسية ويونانية وغيرهما .. كما أنها رأت أن الانسان لا يتجه لغير الله مهما كان إيمانه أو حتى الحاده ، الذي اعتبره ابن عربي إيماناً.

******

- هل هذا يعني أن ابن عربي كان يسعى إلى وحدة الأديان والأمم ؟

- أكيد ، وهذا من صلب مذهب وحدة الوجود . لقد سبق وأن قلت أن كل فكر ظهر في التاريخ ما هو إلا فكر إلهي ينتمي إلى زمنه .. وما أختلف حوله عن ابن عربي ، هو أن هذا الفكر لا يعبر عن حقائق مطلقة رغم أنه فكر إلهي ، فهو فكر مرحلي ، كما أن الله نفسه عندي مختلف، فهو كيان متطور وغير كامل .

- لكنه يسعى إلى الكمال؟

- نعم يسعى إلى الكمال الذي لا يعرف أحد ما هو ! فمعرفته مسألة نسبية تخضع لفهم زمنها . فالكمال الذي كان يتصوره انسان ما قبل ألف عام ، هو غير الكمال الذي يتصوره انسان اليوم ، وإنسان ما بعد ألف عام .

- يا ترى كيف سيكون انسان ما بعد ألف عام ، على ضوء التطور السريع والمذهل في مناحي الحياة ؟

- المشكلة ليست في انسان ما بعد ألف عام ، فهذا قد لا يكون بعيدا كثيرا عن انساننا الحالي ، المشكلة في انسان ما بعد عشرة آلاف عام أو أكثر !

- هل سيتاح لنا نحن أن نرى من آخرتنا الحال التي سيكون عليها انسان العصور القادمة ؟

- حسب فلسفتي سيتاح لمن سيكون متحدا مع الألوهة بشكلها الطاقوي العقلاني ، وكذلك تجسدها الأرقى في الانسان !

- والآخرون ؟

- تقصدين غير المتحدين أو غير المجسدين بشكل إنساني راقٍ ؟

-أجل !

- سيكونون من ضمن المادة الصلبة أو الجامدة أو مادة التربة أو المادة السائلة وغيرها ، ولن يتاح لهم معرفة ما وصلت إليه عملية التطور بأشكالها المختلفة ، رغم أن طاقة الخلق تسري في أجسامهم .

- يبدو أننا دخلنا في جانب آخر من فهم طبيعة الألوهة لديك ! فلماذا لم يحظ هؤلاء بالاتحاد بالألوهة ببعض جوانبها الأرقى ، كالطاقوية والإنسانية ؟

- لأنهم كانوا من مرتكبي الذنوب، من القتلة واللصوص ، و الكارهين ، والمسيئين والضارين ..

- وهل وجودهم هذا يكون عقابا لهم ؟

- أجل بمثابة عقاب مع أنه ليس عقابا تقليديا، فطاقة الخلق تسري فيهم ، كما أن تجسدهم لا يخرج عن التجسد الألوهي في الكون ، وقد يكون بعضهم حسب أفعالهم موجودين في النبات أو في الحيوانات أو في الطيور ويتمتعون بقدر ما من الحياة الجميلة ، لكن ليس كمن هو في الألوهة الطاقوية . وهذه مسألة تحتاج إلى توضيح.

- أرجو أن توضح فهذا من صلب موضوعنا في فلسفة الألوهة .

- لنأخذ البشر مثلا .. فأسوأ انواع البشرممن كانوا يسيئون إلى الآخرين ، تكون مادة أجسادهم سمادا للتربة لإثرائها ، ويحسون بوجودهم الإلهي حسب ذلك ، أي أنهم مصدر غذاء للتربة لكي تكون غنية ،ولا تفتقر إلى المواد المعدنية وغيرها ..

النوع الثاني من الذين كانوا أقل إساءة للآخرين قد يتجسدون حسب أعمالهم في كائنات من النبات أو الطير أو الحيوانات الأخرى .. ويحسون بوجودهم الإلهي كذلك .

- لنفترض أن أحدهم قد تجسد في فأر. فكيف سيحس بوجود ألوهة فيه؟

- بمكانته وبما يراه ويفعله ولا يستطيع أن يرى أو يفعل غيره ، كما لا يستطيع تغيير مكانته بمعنى طبيعته ، وحتى مكان اقامته في الجحور مثلا وفي الأماكن غير المكشوفة .

- وهل يشعر أن هذه المرتبة هي عقاب له على ما كان يفعله في حياته الانسانية ؟

- أجل . لذلك يكون راضيا بواقعه .

- هل هذا تصوف هندوسي ؟

- لا ليس تصوفا هندوسيا وإن كان قريبا منه في بعض الجوانب وليس كلها .. فالمسألة هنا ليست مسألة روح تنتقل إلى كائن يولد ، هنا المسألة قد تأخذ أعواما من التفاعلات حتى ينتج عنها كائن ما..

- وماذا عن الكائنات الأرقى مكانة ؟

- الأرقى مكانة ترى نفسها حسب مكانتها وما تتيحه لها . فتخيلي حيوان كالأسد مثلا كيف يرى نفسه ، وشجرة زيتون كيف تحس بوجودها ، ونسرا محلقا في السماء .. أكيد سيكون سعيدا بحجم الألوهة فيه وهو يحلق في الأعالي.

- وماذا عن الانسان النبيل الذي سيتحد بالطاقة الإلهية العقلانية الكونية ؟ ماذا سيشعر وماذا سيرى وكيف سيخلق ، وبمعنى أدق كيف يكون إلها ؟!



- لا تنسي أننا نوظف مفردة الله كتعبيرلغوي مجازي للخالق أو للقائم بالخلق ، فقد سبق وأن أشرت إلى أن القائم بالخلق أو الخالق ليس بالضرورة أنه يعتبر نفسه إلها ، أو أكبر من إله ! فهذا التعبير تم بعد اختراع اللغات ليعبر عن ثقافة محددة ما تزال قائمة في المجتمعات البشرية ، وقد ينتفي التعبير بانتفاء مفاهيمه في المستقبل . الألوهة كطاقة سارية تسري في كل شيء، وتتجسد في كل شيء، وتبين لنا في ما سبق، أن تجسدها يختلف من كائن إلى آخر، وإن التجسد الأرقى لها كان في الانسان وبشكل خاص الانسان النبيل ، فهذا الانسان النبيل هو الوحيد الذي تتحد طاقة جسده الدنيوية بالطاقة العقلانية الخالقة بعد الموت ، ليكون في كل مكان وزمان في الكون. في الفضاء، في الكائنات، في الماء، في الهواء، في باطن الأرض، في الكواكب ، في النجوم ، في أعماق البحار ، يرى كل شيء بعيون خلقه ، ويحس بكل شيء بإحساس خلقه ، ويعقل بعقله الكوني وبالجانب المنبث منه في كل عقول الكائنات في الكون. يتمتع بما يتمتع كل كائن في الوجود ، ويتألم بما يتألم كل كائن في الوجود .

وثمة حال أدنى من هذه تكون لبعض البشر الذين كانوا في حياتهم فاعلين جيدين .. هؤلاء سيتجسدون في كائنات انسانية راقية تحمل قدرا من الألوهية أعلى بكثير من الكائنات الأخرى.

- إنه الخالق أو الله سبحانه ما أعظم شأنه . بهذه الكلمات سننهي حلقتنا لهذا اليوم . وإلى اللقاء بالأعزاء المشاهدين في حلقة قادمة .. نذكر مشاهدينا بتدوين أسئلتهم لتطرح على الاستاذ محمود في حلقة تعقب نهاية بث جميع الحلقات . دمتم بخير وسعادة . أسيل القمر !

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى