أمل الكردفاني- كيمياء الطبخ

ليس "بالخبز وحده يحيا الإنسان" مقولة خاطئة، لأن -على ما أعتقد- ترجمتها من سفر التثنية في التوراة كانت خاطئة، أو ربما لأنها أُستقطعت من سياقها الكلي في الآية، حيث خاطب موسى بني إسرائيل قائلاً:
( "لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان.")(تثنية 3:8).
فالخبز هنا هو الطعام، الطعام كله، سواء بالخبز فقط أو بغير الخبز (استخدم الجزء وأراد به الكل)، والطعام كتصور كلي، هو بالفعل ما يحيا به الإنسان فقط.
أما الصواب، فهو ليس من أجل الخبز وحده يحيا الإنسان، أي ليس (للخبز) وليس (بالخبز).
فبدون الطعام يموت الإنسان ولو ظل يقرأ كل ما خرج من فم الرب من كتب مقدسة، فموته حتمي. ولكننا لا نحيا فقط من أجل أن نأكل، بل لتحقيق شعورنا بالكرامة أيضاً..وغير ذلك.
لقد تحدثت قبل وقت ليس بالبعيد عن فلسفة الأكل، الأكل كما ذكرت هو الحالة الوحيدة التي يتم دمج الموضوع فيها بالذات. حيث تختفي الموجودات المفارقة، داخل جسد الإنسان. وتندمج به وتشكله وتؤثر فيها مادياً ومعنوياً. ولذلك فليس المصابون باضطرابات نفسية فقط من يلجأون للطعام للخروج من الإكتآبات وغيرها من المشاعر النفسية السلبية، بل العشاق، والتجار وغيرهم؛ فحينما تكون مائدة الطعام عامرة بالأطايب، فإن صفقة بين رجال الأعمال حتماً ستتم، إذ سيفعم الجميع بالغبطة والنشوة مما ينعكس على روح التفاوض. نعم؛ هناك أشياء تعبر من الخارج إلى داخل الجسد، كالأمصال، والأدوية، ولكن الطعام شيء آخر، فريد، فهو عملية غير منقوصة من الإندماج، (المشهد الشهي، الطعم، الذوق، عملية القطع والهرس والابتلاع، الهضم،..بل وحتى الإخراج). إنها لذة شاملة.
مع ذلك لم ينل الطعام حقه اللازم، لزحزحته من وجهه الهامشي، إلى علم حقيقي، علم يدرس في الجامعات والمعاهد، له كلياته وأساتذته وفنيوه ومتخصصوه وفلاسفته. ظل الطعام ثانوياً ومهمشاً، متقزماً أمام إهتمامات علمية أقل جوهرية مما يحيا به الإنسان. وحين يتعرض الإنسان لكل مشاكل الدنيا، فإن ملجأه الأخير يكون هو الطعام، يطلب الأطباء من الإنسان المريض أن يواظب على طعامه، وأن يكون طعامه صحياَ، وأن يتضمن أطعمة معينة أو أن يبتعد المريض عن أطعمة معينة. وهذا الشخص ظل طوال حياته لا يرى في الطعام سوى أداة مكملة لحركته، طاقة (وسيلة) وليس غاية. يحذرونه من السمنة، ومن الدهون ومن السكريات، هنا فقط تجدهم يتحدثون عن الطعام؛ أي حينما يتعلق الحديث بالجانب الشرير منه.
لماذا؟
لأن الفلسفات الروحية همشت الطعام كجزء من مقومات الرضى الإنساني.(ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وإنما بما يخرج من فم الرب). أصبح الخبز أداة وليس غاية. بل هو مذموم جداً عندما يكون غاية، بالرغم من أن الإنسان يستطيع أن يتخلى عن كافة الغايات الأخرى، عندما يتعرض لأزمات الحروب والكوارث، ولكنه لن يستطيع أبداً التخلي عن الطعام.
قبل أيام كنت اتحدث لأحد جيراني عن الطبيخ، ورأيته محرجاً جداً، إذ لا يجوز للرجل أن يتحدث عن الطبيخ، رغم أن اعظم الطباخين في العالم رجال. هذا ارتباط غير منطقي بين الطبخ والمرأة. في بعض قبائل افريقيا، سنجد أن المرأة هي التي تزرع وترعى الماشية فيما يبقى الرجل من أجل الطبخ والدفاع في حالة الحرب. وفي النزوحات الهائلة للقبائل، سيكون الطبخ مهمة الرجال الأساسية طوال الطريق. وعند الكشافة، وفي معسكرات الجيش،...سيكون الطبخ من أهم اعمال الجند.
فلا يوجد لزوم عقلي ما بين الطبخ والمرأة، ولا لزوم ينفي لزوم الطبخ والرجل.
لقد بدأتُ الطبخ قريباً، ربما قبل سنتين أو اقل، وتعرضت للقليل من الخسائر في الاموال دون الأرواح، ولكنني تعلمت (بغير احتراف) الطبخ بالمستوى المنزلي اي (الملاحات او ما تسمى في الخليج بالإدامات، ملوخية رجلة بامية كمونية..الخ). واكتشفت أن المسألة ليست بالبساطة التي كنت أعتقدها سابقاً.
إن الطبخ (في الحقيقة) مجموعة من العمليات الكيميائية والفيزيائية المعقدة.
فلنأخذ على ذلك مثالاً:
إذا كان (الملاح) ملوخية او بامية..الخ، في النار، وتقلص حجم الماء بسبب التبخر، لا يجب زيادة ماء الطبيخ بماء بارد أو فاتر. يجب أن يُغلي الماء ثم يضاف، وإلا فسيفقد الملاح تسبيكته. وكذا الأمر بالنسبة للمكرونة، إذ يجب وضعها على ماء مغلي حتى لا ينتشر النشا ويتحول لعجينة. وكذلك عند وضع اللحم والبصل، يجب عدم، وأكرر (عدم وضع الملح أو التوابل) مباشرة، بل وضعها بعد نضوج اللحم وغليان الثريد. ولكل هذا وغيره مبررات كيميائية، إذ أن الطبخ ليس فقط توازن في المقادير، بل هو عملية علمية حقيقية، أي معرفة تتم بالتجربة والملاحظة. وهي علمية، أيضاً، لأنها لا تحدث بدون أسباب، بل نتيجة لعمليات كيميائية متنوعة ومتداخلة، ما بين المكونات الأولية للطعام، وتكون النار عاملاً مساعداً، تماما كما درسناه في الكيمياء، في المرحلة الثانوية.
رغم خطورة ذلك كله، لكن العلماء لم يحاولوا القيام بأبحاث أكاديمية علمية، لكشف تلك التفاعلات، إنهم يهتمون بتفاعلات اليورانيوم، الذي لا نستفيد منه شيئاً سوى الموت،(هناك فوائد ولكن ليست بذات مستوى الطبيخ)، ولكن لماذا لم يهتموا بما يُحيي الإنسان؟.
فلنتصور أنك -كرجل اعمال- قد دعوت رجل أعمال آخر لوجبة في مطعم، إن أول سؤال ستطرحه سيكون عما يفضله ذلك البزنس مان من طعام؛ لن تسأله عن اليورانيوم حتى لو كانت الصفقة عن اليورانيوم، بل عن الطعام. فلنتخيل أنك دعوت خطيبتك لمطعم لتناول العشاء والاتفاق على الترتيبات الأخيرة للزواج، وكان الطعام سيئاً؛ ألن ينعكس ذلك على الحوار بينكما. فلنتخيل أنك ذهبت مع أصدقائك لقضاء يوم ترفيهي جميل، وطلبتم الطعام الذي دفعتم فيه أموالاً كثيرة ثم كان الطعام سيئاً، ألن تصابوا بالإحباط؟
إذاً؛ فكيمياء الطبخ، ليست مسألة ثانوية، بل على العكس هي مسألة جوهرية، عملية ومادية وواقعية. فتأثر الطبقة الخضراء من النبات أو العشب بدرجات حرارة الماء، وبتفاعلات التوابل، هي عملية كيميائية قد تحدد مصير علاقة تجارية أو عاطفية، وربما مصير دول، عندما تكون تلك الدول في قمة توتراتها التصارعية، ويقرر زعيمان تشارك وجبة قبل الحوار. بل يجب دراسة تلك التفاعلات من ناحية سايكولوجية، أي تأثيراتها على النواقل العصبية للإنسان، والهرمونات وغيرها، لإختراع وجبات تغير من السلوك الإنفعالي للإنسان وتفاعلاته المختلفة.
تعتبر المؤسسات البحثية الأمريكية من أعظم المؤسسات في العالم، فهي لم تترك شاردة ولا واردة إلا وطرقتها، إلا كيمياء الطبخ، أو الطبخ كعلم من العلوم وليس مجرد (فن). لقد ساد اعتبار الطبخ كفن، ومع ذلك، وحتى في هذا الإعتبار، لم توجد له كليات اكاديمية معتبرة، كفن الرسم والنحت والشعر...الخ. قد تشتري لمحبوبتك لوحة غالية ومع ذلك ستنساك وتنسى اللوحة في أول اختلاف بينكما وقد تمزقها، لكنك لو اشتريت لها وجبة فخمة فلن تنساك أبداً وبالتأكيد لن تستطيع تمزيق ما اندمج بجسدها من طعام..إن ذاكرة المعدة طويلة الأمد، مستمرة، وقد تتغير بتغير الأعمار، وقد تتغير تبعاً للصحة والمرض. وجسم الإنسان -وهو سر الأسرار- يتعامل مع الطعام لا كوسيلة، بل كغاية، وإلا لما تمتع الإنسان بحاسة التذوق التي يجتمع فيها اللسان (التذوق) بالأنف (الشم)..وفي أحيان كثيرة، قد يستدعي الجسد لذاكرتك طعاماً معيناً كنت تكرهه في السابق، فقط لأن جسدك يحتاج لإكمال نقص كيميائي فيه.
ومن عجائب الطعام، أن الكلب عندما يمرض يأكل الحشائش ليتغوط بعدها تغوطاً كثيفا، فتخرج كل الجراثيم من معدته.
الطبخ والطعام والأكل هم (الثالوث) الذي يحتاج منا لوقفة جادة. وقفة نتخلص فيها من المقولات الطوباوية، ونعود لنؤمن بكوننا جزءً من الطبيعة. وأننا موجودون من أجل التمتع بالحياة..وليس نكرانها والزهد فيها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى