طلحة محمد - لقاء على مرآة السماء

على متن سطح سفينة وحيدة في عرض المحيط وبقوّة تيّارات هوائيّة مجدّفة ومغيّرة للاتّجاهات عشوائيّا ، تخال نوميديا نفسها مغامرة في رحلة الجنوب الّا انّ بوصلتها غير مكترثة بها ، تشوّش عليها تفكيرها لتعيرها مجدافا قديما يبطيء حركتها على أن يصيبها اكتئاب المحاولات وتعيدها لمرسى الشّمال غير فاقدة لعذريتها من تحرّشات الطبيعة القاسية.
باءت كل محاولاتها بالفشل فانتفظت تحملها أجنحة اللّحظات القاسية من جهة و كفّي الحلم من جهة أخرى تحرسها أرواح غريبة تجسّدها أسماك متنوعة ملقاة بجانبها.
استفاقت من نومها أخيرا تحيط بها زرقة البحر من كل جانب وخيوط الصباح البيضاء ، وقفت في مكانها واضعة يدها أعلى حاجبيها ترمي ببصرها إلى منتهاه تائهة بفكرها ، تندب حظّها ومهنتها في أوّل يوم لها.
تخاطب نفسها بألم وحسرة شديدين ، لقد حصدت الكثير من الأرواح وتتساءل بألم هل هو نذير شؤم؟
كم من الوقت أملك لأتخلّص من عذاب الظّمير ؟
ضربت كل تساؤلاتها عرض الحائط وبدأت تفكر في مخرج من هذا المأزق الشديد .
خطر ببالها في المرّة الأولى أن تختار جهة دون بوصلة وان تضع الشمس على يمينها وتمضي في رحلتها ، ثم دارت حولها الشكوك الكثيرة ، فغيرت رأيها ورست بقاربها عرض البحر متوقفة عن التجديف تقف على احدى حوافه ترفع يديها تقص بهم الهواء وتنادي بأعلى صوتها .
جال دوي صوتها في ذلك الفراغ الرهيب ثم عاد إليها وكأنه يخبرها أنه لا مجال للانتظار ولا للمساعدة أيضا.
استيقضت من كابوسها، تسقط من اعلى سريرها تتشبث بغطائها وتصرخ بأعلى صوتها وتنظر بعينين بارزتين في انحاء الغرفة ، سكنت روحها لبرهة بعد أن عرفت انها في حلم ، بل في كابوس مرعب .
أزعجها صوت المنبه
الذي لا يكفّ عن تقليد أبواق القراصنة على متن السفن الحربية يبشّرها بيوم مشؤوم.
ارتدت بزّتها الزّرقاء التي تجعل البحّارة والصيّادين كعسكريين حقيقيين ناهيك انّهم يخوضون مغامرات رائعة في عرض البحر ثمّ شرعت في ترتيب لوازمها لتبدأ أول رحلة صيد لها خارج أسوار اليابسة ، تحدّث نفسها وتتمنى أن تختلف يقضتها عن منامها.
انطلقت تحمل معها حلما كبيرا تاركة وراءها سجنا تتجسد فيه كل المعاني المناهضة للانسانية،
تهرب من واقعها الأليم، مخلفة وراءها طليقها الذي ما يكف عن ملاحقتها و سكان عمارتها من الرجال على اختلاف مراكزهم وأعمارهم ،
تحمل معها شبكة صيد وسنّارة تعتلي كتفها كسارية علم لتثبت وجودها .
ما لبثت أن أكملت عدّ خطواتها التي تشكّل بسرعة دقّاتها مطلع نشيد وطني على نغم تحية عسكرية حتى وصلت إلى مرتفع يطل على مرآة السّماء وبخطوة ثلاثية اعتلت الدرج الكبير، تقابلها زرقة شاسعة وعلى يسارها صفرة يغلب عليها بياض شديد اللّمعان وعلى يمينها حجارة سوداء كبيرة تشكو أمواج البحر التي طالما تفننت في حفرها وإفساد سكونها في كثير من الأحيان.
مسحت بعينيها المكان جيدا وأدركت ان ما هي مقبلة عليه ليس بالأمر الهيّن إلا أن خدش الزمان والآفات لها دفع بها للمغامرة وأيّة مغامرة .
أكملت نظرتها الاستشرافية للمكان ونزلت مسرعة نحو البحّارة ينتظرون على حافة الشاطيء صفّارة الانطلاق من البحر بعد هدوئه.
صادف أن كان أول لقاء لها مع زعيم البحّارين، بادرها بخطاب رسمي شديد اللّهجة.
استعدّت ملقية يديها وراء ظهرها ضامّة رجليها الى بعضهما تراقب تفاصيل " عمي بوعلام " .
ظهر قوي البنية بلحية كثيفة وشعر طويل شديد البياض يظهر من خلال قبّعته الزٍرقاء المطرّزة باللّون الأبيض، كان أيضا بحاجبين ساقطين على عينيه يرفعهما حين يعلو بصوته وحين يبعد النّظر .
باشر يحطّ من عزيمتها، يذكّرها انّها أنثى وأنها ليست قادرة على هاته المهنة الشّاقة بل هي أيضا مهنة متوارثة عبر الجينات وليست ذاتية النّشأة ، ظلّ يسرد في جمل مرتّبة بالجدّية ومحفوفة بالنّصائح بين سطورها مجموعة من الاحباط.
لم تنطق نوميديا ببنت شفة واستعملت ما يستعمله غالبية النّساء حين الضعف والانكسارات إلا أن كل هذا محشو بالعزيمة والاصرار بداخلها ،أكمل زعيم البحّارين كلامه توقّف للحظة. ثم أضاف قائلا انا لا أؤمن حتى بالعصاميّة فكل شي متوارث فلا يعقل ان ينجب الرّاعي مهندسا ولا العكس .
طوال حياتي وانا اكرّر هذا : من غير المعقول أن تتغير الجينات الوراثيةّ للانسان ولا حتى للحيوان .
كسر قليلا من قامته و وضع عينيه في عينيها، جذبته بقايا الحنين في عينيها وهمّ اخيرا بسؤالها ماقصّتك ؟
اجابت بارتباك شديد ثم ّ هدّأت من روعها وتمالكت نفسها، رسى دمع نفيس في عينيها و ارتعدت شفتها وأجابت أنا نوميديا.
تسرب شك ّ ممزوج بيقين لعقله و بدأ في كمح جماحه متصارعا مع نفسه وخياله الذي يأخذه الى ابنته التي فقدها منذ قرابة الثلاثين عاما عندما أبت فرقة من الإرهاب في اعالي جبال " جيجل " إلا أن تاخذ نوميديا التي تركتها زوجه ابيها ملقاة في سرير عبارة عن لحافة ملفوفة بعد أن هرب أبوها فور اقتراب فرقة الإرهاب من منزله ولم يكن لديه أدنى شك أن زوجته ستترك ابنته الوحيدة فريسة لوحوش بشرية إلا أنه وبعد وصوله إلى مقر الدرك الوطني عرف ان فلذة كبده بقيت تناغي من يتكلم معها وتبتسم ابتسامات ملائكية غير مفرقة بين أصناف الجنس البشري .
خارت قواه للحظات واستكان مستلقيا على مقعد طويل في مكتب الدّرك ثم استجمع قواه وعاد للبحث عن ابنته مخلفا وراءه حياة دون حياة إلا انه وصل متأخرا ووجد مكان ابنته ملطّخا ببقايا حليب كان قد تدفق من فم ابنته سهوا.
استعاد واقعه وأعاد سؤاله مرة اخرى اسمك نويديا نعم ... لقد عرفت ... ماذا تفعلين ؟ ومن اين اتيت ؟ وراح يكرر الاسئلة بصراخ حاد ، اجابته بفزع وخوف شديدين أتمنى أن لا يزعجك الامر لقد عشت طيلة شبابي في الشِّعاب والوديان والجبال مع فرق الارهاب إلا ان هذا كان رغما عنّي ولم يكن لي فيه خيار لكن حياتي قد تحسّنت مذ قرّر امير الفرقة الاستسلام للواقع والعودة للحياة الطبيعية حينها فقط ولدت من جديد وها أنا ارجوك لاعمل عندك بشرف .
صاح " عمّي بوعلام " باعلى صوته واخرج من صدره ذخر سنوات من الجمر والحنين : ملكتي نوميديا...ابنتي .. ابنتي وضمّها اليه حتى تلاشت بين ذراعيه، بكت هي الاخرى بجنون تصيح وتكرر انت ابي انت ابي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى