أحمد خلف - شمسٌ ساطعة كالفضة.. قصة قصيرة

كانت شمس المساء تُسقط اخر أشعتها الذهبية بلسان ملتهب، أشعة مليئة بالأحمر القاني، كان علىَ أن أحدد ما أذا حل الليل في ذلك المكان، والصوت اخذ يتجسد في السمع على هيئة جمهرة من الأصداء، تختلط فيها زمجرة الريح .. ريح خفيفة، ناعمة، تكاد تأتي الينا بلا صوت أو صدى، لكنها ريح واشيه تحمل بين طياتها نداءً غريباً، التقط سمعي (ما يثير الرهبة في النفس) صوتٌ واحد من هناك، قبل أن أدفع باب المنزل وأختفي وسط الغرفة المطلة على حديقة الدار، تلك اللحظة جاءت رائحة محايدة وملأت أنفي وجسدي، والغريب أن الصوت الاتي من بعيد أختلط بتلك الرائحة وقد بدلت من نكهتها، والحق لم تكن طيبة، ما تنسمته كانت رائحة حيوان متفسخ، أزدادت اندفاعة الريح الواشيه في الأزقة والطرقات تحث الخطى وبات لها صفيرٌ غريب وغامضٌ، كانت في حقيقتها ريح مباغته طيرت عشرات الروائح في طريقها الينا، كما أنها تفتقد الى تلك الحالة أو السمة التي تجعل منها، ريحاً طيعة، مسكرة، نفاذه أو جذلة، يتشرب بها الجسد كأنه يتعمد ان ينام مبكراً .. أختفى الصوت المدوي من المعمورة .. نسيته .. من الواضح أنني تشاغلت أو انشغلت لبعض الوقت عنه، سهوت فعلاً وألمَ بىَ الغََفل من ترقبه، فأنقطعت صلتي بهِ لم يكن صوتاً بريئاً أو محايداً، بل منحني فرصة التفكير الجاد بنوعه ، ترى أهو أحد الأصوات التي أفرزتها الحرب، لتكشف عن بعض سوءاتها عمداً ؟ وما سمعناه من أصوات (أختلط حابلها بنابلها) لا يمكن البوح بهِ، أصوات أشبه بنباح كلاب مسعورة، أمتلكتها شهوة الجماع امام أنظار الأشهاد .. في تلك اللحظة الدامية، صرخت ـــ أمنا ـــ بصوتها المتهدج، العليل :
ـــ أني أسمع صوت مجنزرات ودروع أجنبية تعبث بالمكان .
ضحكنا في عبنا من تحذيراتها المتكررة. كان أبونا يتسلق سلالم البيت ليصبح فوق السطح، يتوسد ذراعه الطويل وينام كانت الريح هناك تترك وراءها دوياً حيرنا جميعاً حتى اننا نظرنا الى بعضنا البعض وسط توسلات ـ امنا ـ في ان نترك تقاعسنا جانباً ونعمل بهمة واحدة لئلا يفلت منا زمام الامور .. ولما القيت بآخر قطعة من ثيابي، عاد الصوت من جديد كأنه ناقوس يرن في بيداء أو كضربات طبل أشتدت قبل الاوان، انبعث الأنين المرتبك من أحد أخوتي داخل الدار : ـــ يا جماعة هذا صوت ذئاب وربما كلاب تلوط في الجوار . أدركنا أنه يحلم او يفكر مذعوراً .. اتخذت مكاني بينهم صامتاً أقف بثيابي الداخلية حين صرختْ بىَ شقيقتي : هيا أرتد ثيابك أنت أكبرنا هنا!
بداية الامر لم أفهم ما المقصود بأكبرنا هنا .
ـــ ماذا تريدين منه ؟ كان هذا صوت أمنا متسائلاً
ـــ ليأخذ حذره . الا يسمع أصواتاً مريبة خارج الدار ؟
ـــ آه، تريدين التضحية بهِ أذن !
اصخنا السمع الى ذلك الهدير الزاحف الينا، تخطى الحدود والحواجز والبيوت وجاء يحط في الحديقة الأمامية للدار. بدا حضورهُ قوياً دون أدعاء بالهيمنة، فقد فرض علينا سطوته الجبارة، اغلبنا لاذ بالحكمة القديمة ـــ السكوت من ذهب ـــ ومن عصفت بهِ الريح فقد تكأكأ عليه القدر بالموت الزؤام. كنتُ أعرف هذا وأدركهُ دون بقية أخوتي. دائماً، لا أحد هناك واذ يتقدم الليل المدلهم سريعاً تغدو كل نأمة تحركُ فينا جيشاً من النوايا، ولم تكن نوايا طيبة فقد أمتلكتنا الريبة وأجتاحنا الظن مما يجري خارج البيوت. سادت وشوشة وحركة سيقان خفيفه وأقدام تجري مسرعة، غير أن العيون المحدقة بالاسيجة كان لها فعل الانهيار. كل شيء كان يجري سراعاً نحو عمق المدينة ها اني ارى المدينة ترتجف من جزع ولم اكن اعلم ان للخوف رائحة لها طعم الحنظل او التراب الرطب وقد بلله القطرُ ، قلتُ : لامحال سيبدأون بالأطراف يقظمونها ( البيوت المتنحية جانباً سيتم الأستفراد بها على مهل ) . لستُ ادري أن كان منزلنا في وسط المدينة أم تراه يقع على حافة الموت المؤكد .. الى اين المسير يا نور عيني ؟ وسمعت احدهم من خارج السياج يصيح : لا تتركني وحيداً بينهم !. لا شك ان الكلاب أستكملت انتشارها في الارجاء كلها، أنتابني شعور بالارتياح لما تذكرتُ اني أحسنت اغلاق باب الدار وأني وضعتُ القضيب الحديدي في الرتاج للاستحكام جيداً، لكن الاصوات بدأت تتخذ صورة مغايرة للبداية، الان أصبح الصراخ والعويل جماعياً، ضجة من الأصوات والريح اضافت على الآهات زيادة في التركيز على الاسى، وسمعتُ سقوط شيء تواً على الأرض الصلبة، وصاح صوت وسط الظلام : ماذا يحدث هناك يا عباد الله ؟ … أنتفضت في مكاني . صرخت : أبونا أنتبهوا الى العجوز في الأعلى .
لم يجبني أحد . ولما امتدت حبال الصمت بيننا، تلعثم صوت البنت ثانية، كأنها تنذر الجميع من التمادي في السكوت : أني اراهم عبر الزجاج .. تقدمتُ حافي القدمين . سرتْ في جسدي قشعريره لما رايت العيون تحدق في واجهات المنازل القليلة المنعزلة كانت الرائحة تجتاح المكان ، اندفع جسدان من أخوتي والقيا بثقليهما على باب الحجرة تعزيزاً للحيطة والحذر، وبدون أتفاق معلن بيننا أتفقنا على الأصغاء للحركة في الخارج، وأقسمت العجوز انها تسمع صوت مجنزرات ودروع، كان صوتها يأتيني أشبه بالصرخة المكتومة أو الترجيعة التي لا تكف عن النذير، ضاع شذى الليل وسط همهمة أو حشرجة تختلط كلها بلهاث يتصاعد حتى أعلى المنازل،وحاولت معرفة كنه تلك الرائحة التي تشبه رائحة السمك الميت ، ولكنه ليس ميتاً انما رائحة لحم يحترق ببطء شديد والرائحة المؤذية تلتف وتستدير في الانحاء كلها، وما من احد يستطيع الهرب من ذلك الاتون العامر بالروائح الزنخة او المدوخة او المثيرة للتقزز واشمئزاز النفوس المرهفة . ولما حدقتُ ملياً من النافذة، أصابني ذهول شديد، رأيتُ الكلاب تجري عبر الأزقة. بعضها توقف عند عتبات المنازل الهاجعة بينما أستمر البعض الاخر يجري خفافاً، عندئذ، تناغم صوت النداء الوحشي مع بعضه، صوت يثير الرهبة والجزع في القلوب، تعالت النبرة المحتدمة، كان أنذاراً أخرس الأصوات الأخرى، طرقات خفيفة على صفحة الزجاج والندى الليلي يغطي زجاج النافذة. هيمن العواء على الازقة وساد فحيح متقطع، تلك اللحظة أرتفع نعيق غراب تائه في سواد الليل، لا شك ستكون معركة دامية لا محال، أرتقت البنت سلالم البيت بأندفاعة مضطربة، تبعها الولد يقفز السلالم ثلاثاً ثلاثاً ليصبح عند السطح، ومن هناك صاح بىَ : تعال أنظر ما يجري في الزقاق . وكنت اعرف دائماً ما يأتي بهِ الينا بالاخبار المباغتة التي تستفز هدوءنا ، ما كنت ارغب في سماع صوته لأنه يذكرني باصوات الاستغاثة بعد منتصف الليل حين يحترق الموضع في الحروب التي مرت بنا فيما مضى من ايام .
ساد رعب مستتب، ترى من أين يأتي الخوف ويعصف بنا وكيف يغدو جسراً للظنون ؟ أنتبهت الى أننا تركنا ـــ أمنا ـــ في قاع الدار بينما تسلق أبونا السلالم نحو الاعلى . خيل الىّ : أن لا ناجٍ من هذهِ العاصفة الهوجاء … الكلاب تركضُ هائجة في الدروب وهي تتلفت يمنه ويسره، هل أوكل اليها حراسة الابواب الموصدة أو البيوت المهجورة، رأيت عبر سياج السطح عشرات العيون تحدق مبهورة أو غاضبة .. غدت المعركة شرسة بين فريقين مستميتين من اجل فوزها بالكأس المعلى، ولازمتني حالة القنوط لما ادركتُ أن الجميع يدورون في فلكٍ واحدٍ من الرغبات الحمقاء، لا أحد يلتفت الى أحدٍ. هيهات أن تنتهي ليلة العواء هذهِ، والغريب أن العواء كان يتعاظم ويرتفع كأنه يضع لحناً أو نشيداً دامياً، كل نبرة أو نأمة فيه تحيلنا الى بحرٍ من المجهول. أي بحرٍ سنستقل في سيرنا الحثيث نحو مرمانا وغايتنا . ولما القيت نظرة عابرة على وجوه العائلة، كان من العسير علىَ تحديد ماهية أنقاذهم، أي قارب سوف يرتقون ليعبروا الى هناك ؟ … أستولى عدد من الذئاب ( وربما كانوا كلاباً أذ من الصعب على العين المجردة تميز تلك الاندفاعة في الازقة والحارات ) على شوارع المدينة، سمعت من يصيح :
ـــ أنقذونا ..
خيل الىّ أن السمع بدأ يخوننا واننا نغوص في عمق مأساتنا ولا احد يفكر في انقاذنا او يفتح نافذة على حصارنا داخل الدار ، التي تحولت الى سجن ملئ بالرعب والتوجس المستمر ، وكان اغلبنا يتوقع هجوماً .. المرة الثالثة، تتقدم الصرخة التائهه : تلك مصفحة أجنبية تكتسح الأزقة .
الشارع الضيق غدا مرتعاً للقطط الهاربة والكلاب المسعورة، وصوت يأتي ملء السمع : نكاد نموت .. ضاعت عبارته وسط الريح ، الريح تعوي ولا من رادع لها، ينحني الشجر متعثراً في خطاه ينحني باكياً مما يشهده صامتاً ويراه ، وكانت ـ امنا ـ تذرف الدموع في عمق الدار والنشيج لا يكف عن الصعود الينا حتى الاعالي ، حتى الشرفات . انقطع صوت ابونا ولاذ اغلبنا بالصمت والتوجس غير ان الانين لم ينقطع لحظة واحدة ، كان يأتي من زاوية نائية ونحسبه قادماً الينا من تلك الغرف المغلقة في الدار . ، كان ذلك صوتاً نائياً يأتيني وأكاد اعرفه والضجة في الخارج بدأت تخفت شيئاً فشيئاً .. أنا الوحيد من واصل التحديق عبر سياج البيت، كنا قد أحكمنا ارتاج الأبواب، ونحن نعلم تماماً، أنهم ينتشرون من حولنا ليلاً، وسوف يتراجعون حالما ينبلج الصباح عن شمسٍ ساطعة كالفضة .

بغداد
تشرين الثاني / 2007

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى