أحمد رجب شلتوت - المبخرة والمجمرة.. قصة قصيرة

( أ )
أبوالنمرس مدينة باردة .
لا يني مرعي يردد هذه المقولة لنفسه كلما زادت إرتجافته.
أبوالنمرس بالنسبة له مجرد مكان يصله الأتوبيس بالعاصمة. قصدها صدفة في الربيع الماضي. كانت رياح الخماسين تواصل هبوبها، وكان هو مهدودًا فغفا. عند المحطة الأخيرة أيقظه المحصل:
_ اصح .. اصح يا أخ وصلنا آخر الخط .
نظر - عبر زجاج الأتوبيس - إلى المكان الجديد. رأى طفلاً يحملق فيه. الطفل من خارج الأتوبيس يرى الأنف الضاغط على الزجاج مجدوعًا فيضحك. يغادر مرعي الأتوبيس إلى أرض لم يطأها من قبل. يسير على غير هدى بينما رياح الخماسين تلفحه، وفي أذنه صوت المحصل يذكره بالوصول إلى نهاية الخط.
* * *
" نهاية الخط . آه يا مرعي ما أكثر النهايات التي شهدتها ولم
تزل سائرًا على قدميك "

* * *
قصد مقهى. خلع الحذاء ليريح قدميه. طلب كوب شاي ولما أتى به النادل حادثه طويلا مستغلا ندرة الزبائن. سأل عن البلد والسكن وأشياء أخرى.
وهو يشرب الشاي تذكر قريته النائية . ربما أصبحت مدينة صغيرة مثل تلك التي يشرب شايها الآن. يشعر بحنين مفاجئ إلى قريته التي لم يعد له فيها أحد. من يعرفه هناك ؟ ربما لا أحد . فالذي لم يتخطفه الموت أدركه النسيان. أنقذ نفسه من الأسى والحنين. بسرعة فكر حاسما الأمر:
" أنا في كل الأماكن غريب. وما دامت الغربة واحدة
فلأسكن المكان الأقرب" .

وهكذا قرر مرعي أن يسكن وأسرته في أبوالنمرس .
( ب )
تعلم سعاد - إبنة مرعي الوحيدة - أن الرحيل قدر لا فكاك منه. صاحب المنزل حصل على تصريح بالهدم وأمهلهم شهرًا. ما دفعه ليس كثيرًا لا يكفي للحصول على شقة إلا في مكان بعيد. مكان يقطعه الأتوبيس في ساعة من بولاق أبو العلا إلى أبوالنمرس .
* * *
في رحلتها الأولى إلى المدينة الجديدة اكتشفت أمرًا رأته مهمًا. فالنيل وهي متجهة من بولاق أبو العلا إلى ميدان التحرير كان إلى يمينها ومن بعده الزمالك، بينما النيل الآن وهي متجهة إلى أبي النمرس يكون إلى يسارها ومن بعده المعادي .
* * *
" آه يا نيل ..
شاطئاك علامتا فصل ، وأنا بينهما مشدودة. منفية.
تهفو روحي إلى ما قبل أو ما بعد العلامة الفاصلة.
أنا بين قوسيك محاصرة. أكاد أختنق.
اعتاد أبي أن يحذرني من الضياع، إذ يرى بين قوسيك منجاي
ومفازتي فبينهما – حسبما يرى – شهامة ونخوة أولاد البلد.
وأنا على يقين من ضياعي وتبددي، بين الفاصلتين أو
خارجهما الأمر سواء.
أخي طار فوقهما إلى العراق وعاد ميتًا، ومثله زوجي الذي مات
هناك في الصحراء. ماتا غريبين. ضاعا، وأنت يا أبي مثلهما
ضائع حتى وإن لم تبرح مكانك بين الفاصلتين.
الآن تقودني يا أبي إلى مكان جديد كل ميزته – بالإضافة إلى
كونه بين الفاصلتين – هو قربه النسبي من القاهرة . بم يجديك
هذا القرب ؟ .. أنت لا تحتاج القاهرة إلا مرة في الشهر لتقبض
قروش المعاش. تلك القروش التي يمكن أن تصلك في أي
مكان. فبم يجديك القرب من القاهرة إذن ؟
أنت حر في سكناك . أما أنا فكل الأماكن عندي سواء".

( ت )

_ هذا الشتاء شديد القسوة.
قالها مرعي فأشعلت سعاد النار في كومة أخشاب. تركته – مع أطفالها – يستدفئون وقامت لتعد حساء العدس.
أشعل عود بخور ليبدد رائحة الدخان.
قبل أن يجيء الحساء انبثقت الفكرة كومضة.
سيحول المجمرة إلى مبخرة.
قالها لابنته وهما يأكلان، رفضت فجاهد لإقناعها:
البلد الذي لا يعرفك فيه أحد ...
لم تدعه يكمل المثل الذي تعرفه وترفض دلالته. لكنه لم يسكت، راح يحكي عن مشروعه للمستقبل. علبة من الصفيح. مجرد علبة من الصفيح. يثقبها من حوافها ثقبين متقابلين. ويأتى بمتر سلك، بل نصف متر يكفي. يجدل السلك جيدا، يصله بالثقبين. يجعل منه يدًا للعلبة. يضع في العلبة رمادًا، بعض مخلفات الإستدفاء اليومى. يضعها حتى نصف العلبة، وفوقها يضع جمرة وحفنة بخور. هذه فقط عدته. يطوف بها شوارع وحواري أبوالنمرس. يبخر الحوانيت ومداخل البيوت. كل المطلوب منه أن يشعل البخور ويسير. يتوقف أمام الدكان أو البيت صائحًا:
_ صلي على النبي.
( ث )
يطلق بخوره ويمد يده ، فتمتد أياد أخرى بقطع من العملة المعدنية. ويظل يجوب الطرقات.
( ي )
النار في المبخرة بينما البرد يغزو جسده. يرتجف، ويظل سائرًا حتى تنطفيء ناره وينفذ بخوره. يعود في الليل إلى مأواه. سعاد تلم صغارها حول الموقد. توسع له مكانًا بجوارها. يدلق قروشه في حجرها. تلمس يده. تفزع:
_ أنت بردان قوي يابا. إيدك ثلج. تدلك يديه بيديها الدافئتين. تدمع عيناه بينما يحاول أن يبتسم. تضمه سعاد بحنو ممزوج بالخوف. يذوب في حضنها. تدمع عيناه وهو يهمس:
_ تصدقي يا سعاد لأول مرة منذ عمر طويل أشعر بالدفء .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى