أمل الكردفاني - مكعب الثلج.. قصة قصيرة

يبدأ العصر الجليدي فجأة؛ بهبوط سريع مباغت فيغمر الصحارى والغابات بالثلج..، لكنه باغت سرعوفاً شاباً، فجمده داخل مكعب ثلج.وعبرت الريح الباردة، فدحرجت المكعب حتى سقط تحت ثلم صخري مظلم.
سيظل السرعوف في حالة الموت والحياة حتى يبلغ عصر الجليد منتهاه.
عيناه الخضراوتان ذواتا النقطتين السوداوتين الصغيرتين محملقتان في الظلام. وفي أحيان ما، يعبر ضوء خافت للشق من الثلم ثم ينكسر على مكعب الثلج، فيرى السرعوف خيوطاً ملونة، يعدها خيطاً خيطاً، ويطلق على كل لون إسماً. كان ينتظر هذا المشهد المسلي كل سنة، فلا شيء يخفف عنه انحباسه سوى دراسته لتلك الخيوط، عبر التأمل فيها، والتفكير العميق في سرها. كان مضطراً للتفكير، فقبل ذلك كانت حياته نشطة، إذ لا شيء يدعوه لإعمال عقله. أما بعد ما حدث، فقد أضحى التأمل ملاذه الأخير. وبعد غياب الخيوط الملونة، حيث يخيم الظلام داخل الثلم الصخري، تظل عينا السرعوف شاخصتين، ويدرك أن هناك تناقضاً ما بين الضوء والظلمة. فماهي الظلمة؟ يتساءل السرعوف، ويتأمل لسنين، ثم يعقد مقارنة بين درجات الظلمة التي تنتظم الثلم، ومن خلال عودة الخيوط الملونة والظلمة المتغيرة، يدرك أن بإمكانه حساب مواعيد أوبة الخيوط الملونة بشكل دقيق. لا توجد خيوط ظلام..بل خيوط ضوء فقط، فالظلام جاثم دائماً في الثلم، وهكذا فالأصل -كما تصور- هو الظلمة. يتعلم السرعوف كل عام من أعوام عصر الجليد معرفة جديدة يراكمها، ويسعد بها. لكن السنين طالت. مئات السنين، وآلاف، ثم عشرات الآلاف، ثم مئات الآلاف، ثم ملايين السنين. لم يكن أمام السرعوف خيارٌ آخر. وفي آخر ساعة للعصر الجليدي، أحس السرعوف أن بإمكان فخذيه الصدفيتين خلخلة الثلج المحيط بهما. ازداد اتساع عينيه من الدهشة، فأخذ يرفس بقوة، أصبح مكعب الثلج هشاً، ومن زواياه رأى السرعوف، قطرات ماء تنساب وتتزحلق لتغيب في الظلمة. كانت رؤوس القطرات المنحنية تلمع، وداخل القطرات المتساقطة رأى السرعوف انعكاس صورته. أخضر الجسد بعينين واسعتين. بدأ مكعب الثلج ينصهر برتابة أسرع.
تحرر السرعوف، ونفض عن جسده الماء، ثم حمل أطرافه حملاً وخرج من الثلم الصخري، وتشمم الهواء، وشاهد الضوء والسماء الزرقاء. كانت الأرض خضراء مترعة بالمروج المزهرة، وشجيرات قصيرة وقوية الجذوع تنتصب موزعة على سهول الأرض..قفز السرعوف قفزات واسعة بقدر ما تتيح له مفاصله المتيبسة، عله يبلغ منتهى الإحتفال بالحرية. ثم وقف أخيراً على صخرة سوداء متأملاً الأفق. حينها رأى الخيوط الملونة ترسم قوساً في السماء. كانت أكبر من خيوطه القديمة. لكنه لم يكن بحاجة ليتساءل عن سر ضخامتها، فهمس: ليس عليَّ الآن أن أعرف. بل أن أعيش فقط..أن أعيش فقط..

_______
أمل الكردفاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى