عمر كارليي - الرهانات الاجتماعية للجسد. الحمّام المغاربي (في القرنين التاسع عشر و العشرين) بين الدوام والزوال أو الإحياء.. ت: محمد داود

البراديغم الإسلامي و الاختلاف المغاربي
نعيم و براديغم
حيوية أفريقية و فتور مشرقي
السخاء العثماني و الاعتدال المغاربي
مدن، قرى و حداثة
المدينة و اللياقة الاجتماعية
الخدمات و حياة الحي
وكالة تزويج، مكان للقول و لتذكر القريب
من الحرفة الصغيرة إلى المؤسسة الصغيرة
ترييف و تمدين الحمّام
تميّز اجتماعي و تقسيم للجنسين
أثرياء و فقراء أو التسوية بواسطة الجسد
تحديد أماكن الاستحمام
تراتبية المواقع و التمايز الاجتماعي
ريفيات وحضريات، دزيريات و وهرانيات
مدرسة الحمّام
رجال و نساء : دين، جنس و سياسة
التأكيد الأنثوي و الاهتمام بالذات



يعتقد المغاربيون عادة، أن الحمّام معلم من معالم ثقافتهم، بل هو ابتكار من ابتكارات حضارتهم الإسلامية1، و لعل ما يبرر جزئيا هذا الخطأ، يتمثل في إسهام المسلمين في إحيائه بشكل مختلف.

لم يكن الحمّام، في البداية، ينتمي للعادات و التقاليد الإسلامية، بل كان المسلمون الأوائل، على غرار المسحيين الأوائل، ينظرون إليه بارتياب2، ليس بحسب التحريم الذي مسً عري الجسد منذ أن خلقت حواء، بل بسبب شبهات الانحراف و الفسق التي كانت تحوم حول هذا المكان، إلا أن هذا المغطس العمومي قد أصبح يحتل مقاما مرموقا في ظلً الخلافة الإسلامية، بوصفه مظهرا مشرقا لرغد العيش.

لقد نقله الخلفاء الأمويون عن البيزنطيين و أدمجوه بسرعة في الحياة الدمشقية الباذخة، ثم روج له ببغداد العباسيون الذين استولوا على الخلافة فيما بعد. و قد أدخل هؤلاء تعديلا عميقا على عمارته و على طقوسه و قيمه3، ليصبح مؤشرا بارزا على الرقي المدني و براديغما للكونية الإسلامية بحكم نجاحهم في الجمع بين الأخلاق و الجمال، و هكذا تحول هذا المغطس إلى حمّام.

4و في هذا المجال، لم يقم أحد بمثل ما قام به العثمانيون، إذ منحوا الحمّام دورا رئيسيا و جوهريا، بل وجوديا في حياة الناس، إذ عرف هذا الجهاز الاستحمامي مجده في مدينة بورصة ثم في مدينة اسطنبول على يد سنان أكبر مهندس معماري في عهد سليمان.

ففي الوقت الذي بدأت فيه حجرة الحمّام تختفي في الغرب بتحريض من قبل كنيسة شديدة التزمت و تحت تأثير خوف غير معقول دائما من الماء4، فرض المغطس العمومي نفسه بوصفه مركبا أثريا عظيما في الشرق. لقد كان لويس الرابع عشر، "لورا-صوليي"، في قصره بفرساي مُرعبا من الماء، و لا يقترب منه إلا لتأمل صورته في مرايا أحواضه. و عكس ذلك، كان حمّام البخار في قصر طوب قابي جزءا لا يتجزأ من الحياة السياسية و الدينية و الثقافية للقرن الذهبي و شاهدا على عظمة السلطان. و منذ تلك الفترة، أصبح الحمّام في الغرب صورة من صور المشرق، و قد تحول المغطس الروماني إلى مغطس تركي. لكن ما هو حال المغطس المغربي (العربي)؟ ففي الطرف المقابل للبحر المتوسط الإسلامي، فرض النموذج الاستحمامي، الذي تم نقله كذلك، نفسه مرة ثانية بهذه المنطقة، و ذلك على الرغم مما يبدو من تجاهل و طمس للماضي الروماني، و على الرغم أيضا من استمرار الممارسات الاستحمامية القديمة التي لم تترك أبدا في العالم الريفي.

أسهم الحمّام في نشر صيت البهاء الأندلسي بحكم الأفضلية التي حظي بها في شبه الجزيرة الإيبيرية بقدوم الأمير الأموي إلى هذه البلاد. و أندمج الحمّام، في الضفة الأخرى، مع العمارة المرينية، التي منحته شكله المغاربي، و دعم مركزه وصول الموريسكيين المبعدين من اسبانيا سنة 1609. و لهذا وجد هذا الجهاز الاستحمامي توازنا مستداما لم تغيره الهيمنة العثمانية التي دامت بعد ذلك ثلاثة قرون. فقد توافق الحمّام مع الأطر الجغرافية و التاريخية و الأنثروبولوجية للمجتمع المحلي، كما تطابق مع المعايير الصارمة للمذهب المالكي، و لهذا لم يطمسه المغطس التركي. كما نتجت عن ذلك، و قياسا إلى البراديغم الشرقي، أساليب للبناءة للاستعمال و لتمثل المكان تدخل في إطار امتداد لثقافة الماء القديمة و المتعددة الأشكال، مع تدرج مختلف لممارسات ريفية و حضرية تعبر إثنا عشر قرنا و تجوب مسافة ألفين و خمس مئة كيلومتر من السواحل أو ألف كيلومتر من الهضاب العليا. كان بإمكان أن يعرف مصير هذا المكان توقفا عند هذا الحد لولا تدخل عملية إعادة ابتكاره مرة ثانية، لمواجهة تحدي الحداثة و أثارها التي أفضت إليها، تباعا، كل من الصدمة الكولونيالية و يقظة الوعي الوطني للمجتمعات المغاربية.


البراديغم الإسلامي و الاختلاف المغاربي

إن الحمّام حاضر في كامل أرجاء البحر المتوسط الإسلامي. و إذا كانت بنيته و وظائفه مشتركة عموما، إلا أنه يوجد اختلاف كبير لا بد من تجاوزه حتى تكون أشكال و صيرورة المكان متشابهة كليا في طرفي ضفاف البحر المتوسط. و باعتباره أقدم من الإصلاح الإسلامي للدولة البيزنطية، فإنه يتطور، حيث كان، ضمن إيقاع خاص و وفق انسجام ريفي و حضري متواصل للعلاقات القائمة بين الجسد و الماء. و في مواجهة قوة النموذج الإسلامي لحجرة الحمّام و صرامة السلوك التي يفرضها، يقف التنوع الجامح للممارسات التي يبتدعها أو يختلقها كل مجتمع أو زمرة لحسابهم الخاص في هذا المكان.

نعيم و براديغم

و باعتباره مكان للجسد الفان و الهش و القابل للهلاك، فإن الحمّام يحظى بإجماع كبير على النصح بارتياده لما يوفره من ميزات تتعلق بالصحة و الاسترخاء و العلاج. و هناك اعتقاد يملك دواعي حقيقية، يعتبر أن الحمّام من أنجع وسائل العلاج، فهو في ذات الوقت وقائي و شفائي، و ذو أفضلية على فصاد الحجامة و مكمل بشكل تام لطب التداوي بالأعشاب القديم و المتقن. إنه "طبيب أبكم" كما تقول الحكاية التونسية5. فهو مكان للجسد السليم و النظيف، يزيل عرق الإجهاد و غبار الشوارع6. و يمحو الحمّام السوائل البدنية للإنسان و أوساخ النشاط المديني. و يتخلص الرجال فيه من آثار العمل، و النساء من بقايا دورة الحيض أو الولادة، كما يغسلن فيه الأمهات أبناءهم ويزيلن أدرانهم. كل واحد من هؤلاء يقوم بعملية تجديد لجسمه و يغير ملابسه، إلا أن هذا المكان لا يخلو من مفاجآت إذ يجلب لنفسه القدح الساخر "دخلنا الحمّام بيض مثل أباء سام و خرجنا منه سود مثل أبناء حام" كان يقول أبو جعفر ابن سعيد7.

فهو أيضا مكان للجسد المجهد و المنهك و لذا يوفر حمام البخار الراحة و الشعور بالهناء، و يلائم أيضا و بشكل جيد الذهن المتوتر أو المرهق، فيكسب فعلا الاسترخاء و يجبر على التنهد. إذ يقوم المدلّك بشدّ العضلات و دعك العظام سعيا منه لتجديد قوة الفرد و نشاطه، أما بقية العمل فهي من نصيب حجرة الحمّام التي تخضع حرارتها الجسد و تغيّره و تخفّف عنه الآلام. و بترويضه للبدن يدخل الحمّام السكينة على الروح و يحرر الذهن. و هكذا "تسمو" النشوة العذبة التي يشعر بها الجسد إلى الأعلى و تقود المؤمن إلى الانقياد لأمر الخالق و طلب استغفار الله. إذ يخرج المؤمن من هذا المكان و هو يتمتم عبارة "استغفر الله" عدّة مرات. و باعتباره مكانا للجسد النظيف، فالحمّام أيضا مكان للجسد المطهر، إذ يعرى لينظف و بالتالي ليطهر. و تعتبر عمليتا التنظيف و التطهير مترابطتين على الأقل بالمدينة – مع بقاءهما منفصلتين – بسبب ذهاب الرجال على وجه الخصوص، إلى الحمّام عشية يوم صلاة الجمعة، و هو بالتأكيد يوم لعبادة الله8. إذ يجعل الحديث النبوي من النظافة جزءا من الإيمان و لا يجعل من الحمّام شعيرة دينية، لكن هذا الأخير لا يقل أهمية في عملية الوضوء، إذ يمكن الاستعاضة عن الماء، إذا غاب هذا الأخير فالرمل والحجر يكفيان لتطهير الجسد و إثبات شرعية الصلاة. و تأخذ بعين الاعتبار حركة التيمم، و بشكل دقيق تسلسل الحركة بمقدار ما تراعي حالة الجسد. و قد يفقد إفراز ما أو صدور لريح الأمعاء، التوازن المقنن بين داخل و خارج الذات بالشرع، و عليه لا بد من تجديد الوضوء و استئناف الصلاة. إذ تحيل هذه الطقوس على النجاسة و على القذارة كذلك9 .

و باعتباره مكانا للجسد الجنسي، فإن الحمّام ينظم أسلوب العلاقة بين الرجال و النساء وكذلك الفصل بينهما، كما يرمز إلى هذه الممارسة و يجمع بين أوجهها. و لا يوجد فضاء أخر يؤسس مثله بقوة لاختلاط الأنواع المتمثل في اختلاط الجنسين، و لا يوجد كذلك فضاء آخر يقنن بدقة التوزيع، إذ يدرج و يستبعد بين الجنسين، وفق مبدأ التعاقب الصارم الذي يوطد التكافؤ و يلغي المساواة في الوقت ذاته. فالصباح أي بعد صلاة الفجر يخصص للرجال، و كذلك المساء بعد رجوعهم من العمل، أما فترة ما بعد الظهر، أي بعد الإفطار فهي للنساء برفقة أطفالهن.

و باعتباره مكانا مرتبطا بالجنس، فإنه يندمج مع اللغة و الهيجان العاطفيين، يربي الحواس، يوقظ الرغبة و يعبر عنها، كما يدعو إلى المتعة، و ترضية اللقاء بين الأجساد. و هو كذلك مكان للإغراء و الشهوانية، إذ يجعل لعبة الخفاء و التجلي تطول، و تبرز فن التبيان و الإيحاء، و هو بذلك مكان لاستيهام الجسد. و قد وقع علاء الدين في شركه في إحدى قصص شهرزاد. و كما يبدو لنا، فإن الصورة الفاتنة للحمام ليست من صنع الخطاب الغرائبي للغرب و إنما هي براديغم للمخيال الشرقي.

و عليه فإن كل الدواعي تدفع بالذهاب إلى الحمّام، و يشترك فيها كل محبي ارتياده، لكنهم يختلفون في أهم كيفيات استعماله. يجد فيه الرجال، و هم في لحظة انقطاع عن العالم و عن الزمن، فرصة لاستعادة عافية الجسد و التحضير للشعائر الدينية، بينما تلتقي فيه النسوة للتحدث و تبادل الأخبار و الإصغاء للذات و هي تتنسم البشرة.

و لكونه المكان المفضل للجسد البيولوجي الذي يخضع لقوانين الطبيعة، فإنه كذلك المكان النموذجي للجسد الاجتماعي الذي تتحكم فيه الثقافة التي تتطابق مع القوانين الإلهية. و بحكم تسويته للعلاقات بين الناس، و بمرافقته لفترة التخلص من الطفولة، و بضبطه للصلة بين الجنسين، فإنه يدخل الانضباط على كيفية التعبير عن الأحاسيس، يصحح عيوب الهيمنة و يوجه علامات التمييز و يتدارك مخاطر الفوضى، و لذلك تسهم حجرة الحمّام في توطيد أواصر الرباط الاجتماعي.

و بوصفه فضاء تبادليا، فإنه يتقدم على المسجد و على خدر الدار و يمتد فيهما، كما يضمن الانتقال بين التدين و الجنسوية، و يوفق بين الجسد و الروح، و يتجاوز الفجوة التي تقع بين المدنس و المقدس.

و هو أيضا فضاء للتواصل حيث أنه يدعم تجارة الخيرات و تبادل الأخبار. و هو فضاء انتقالي إذ ينتقل الجسد من النور إلى الظلمة، و يقوده من سطح الأرض إلى العالم الجوفي، من القوى العليا إلى القوى السفلي. و يسهل تعاقب الأعمار و عبور الأجيال، و يهيئ أو يعوض القطائع الموجودة بين الفضاءات العمومية و الخاصة التي تؤسس للتمييز بين الجنسين. كما يسمح، كونه فضاء تفاوضيا، للرجل و للمرأة، للطفل و للراشد، لسكان المدينة القدامى و لسكانها الجدد، باختبار العلاقة مع المعيار و إحكامها.

و بجمعه بين مجموع الحركات المعبرة عن النظافة و عن ممارسة الجنس مع طقوس التطهير، يقوم الحمّام في نهاية المطاف، بإدخال إيقاعه الخاص على المدينة بتأن، و بإلزام سكانها بتعاقبه اليومي و تواتره الأسبوعي، و ذلكم في ظل احترامه للانضباط اليومي للصلوات الخمس. و بأخذه بعين الاعتبار للتوزيع الخاص بأيام السوق و يوم صلاة الجمعة، فإنه يؤطر الزمنية التي لا تنقطع بين الجانب الديني و الجانب اللائكي لكل من المسجد و السوق. كما يطبع المكان و الزمن الخاصين بالمدينة بعلامته، و من خلال ذلك الاجتماعية الحميمية للحي و كذلك وفرة المعاشرة التي تميز وسط المدينة، الذي يسمح بلقاء التاجر مع الفلاح، أو بالأحرى الحضري بالبدوي.

يضمن الحمّام، باندماجه في النموذج الثقافي الإسلامي، نصيبا للحلول المرتبط بجسمانية العالم، في مواجهة السمّو الجذري الذي يحدده المجسد بقبلته للوجهة التي عُينت لهذا العالم. و إذا كان الحمّام يمنح للمؤمن فرصة اختبار عبوره لهذه الدنيا و الاستمتاع فيها، فإنه يمكنه من رؤية أثر التناهي في جسده. يقوم الحمّام، في الديانة الإسلامية، بتعليق الزمن و بإعادة تحيينه، فهو مثل الساعة المائية الفيزيولوجية لهذا العالم.

و لهذا ندرك بشكل جيد الصيغة التي أتى بها عبد الوهاب بوحديبة، و إن كانت تبدو لأول وهلة مغالية و حتى استفزازية، إذ يقدم الحمّام على أنه الوسيلة الأكثر فعالية التي عبأها السكان الأصليون للحفاظ على هويتهم لمواجهة صدمة الاحتلال الأجنبي، إذ يقول : "إن استطاعت المجتمعات الإسلامية الصمود لمدة قرون عديدة، فالفضل يعود، ربما، إلى الحمّام"10.


حيوية أفريقية و فتور مشرقي

بقي الحمّام خلال القرن التاسع عشر في كامل أرجاء المنطقة المغاربية و عشية التدخل الكولونيالي، مكانا مفضلا لدى سكان المدن و علامة مميزة للثقافة الحضرية. و على الرغم من كل التغيرات التي مست بنيته، و زحزحت مقامه و حوّرت في كيفيات استعماله، أو بفضل ذلك، فإن الحمّام قد احتفظ بمكانته إلى الآن.

و من هذا المنطلق، فإن الاختلاف واضح جدا بين المنطقة المغاربية و المنطقة المشارقية. و في هذا الصدد كان الطلبة و الأساتذة الجزائريون في السبعينيات و الثمانينات يندهشون من ضعف نشاط الحمّام خلال إقامتهم بالقاهرة أو بدمشق، بالمقارنة مع تجربتهم في وهران أو في الجزائر العاصمة. و قد لاحظ هؤلاء العدد الضئيل للحمامات بالمشرق، و قلة روادها هذا بالإضافة إلى أن الأهمية التي يوليها المشارقة لهذا الأمكنة هي أدنى بالنظر لما يعتبرونه أساسيا لنظافة الجسم و لمقتضيات الشعائر الدينية و الاعتناء بالصحة.

و على العكس من ذلك، كان المتعاونون المصريون و الفلسطينيون و بخاصة زوجاتهم، يعجبون بالمكانة التي يحظى بها هذا المكان في الحياة اليومية بالجزائر، و لا سيما فيما يتعلق بالاجتماعية الأنثوية. و الدليل الواضح على ذلك، أن نجيب محفوظ لا يقيم أي وزن تقريبا، للحمام في أعماله الأدبية، بينما يحتل ضمنها المقهى، حيث يقضي الروائي معظم وقته، الصدارة.

و يوحي هذا المؤشر على التصور التبايني لعملية المثاقفة المرتبطة بالحداثة و بامتلاك هذه الحداثة بالذات، حيث أن مصر عرفت في ظل حكم الخديوية (1867-1914) و نفوذ الأعيان، تعزيزا للآداب العامة على الطريقة الأوروبية من خلال توصل المرأة إلى بلوغ الفضاء العمومي بشكل كبير، و الشيوع المبكر و المكثف لغرفة الحمّام و للنموذج الصحي الانجليزي. و يثبت هذا الكلام ما نستخلصه من الدراسة التي خصصها أندري ريمون (André Raymond) للحمام بالقاهرة عشية الحملة الفرنسية على مصر. تسمح مقاربته الإحصائية النموذجية بإدراك التناقض الذي عرفه الحمّام، في القاهرة القديمة على الأقل، أي قبل مرحلة سعد زغلول (1919) و لا سيما أثناء مرحلة جمال عبد الناصر في الخمسينات التي عرفت بالقطيعة مع النظام السابق، و هو الأمر الذي يثبت المعطيات التي جعلها إيدمون بوتي (Edmond Pauty)، حول هذا الموضوع و التي تسمح بمثل هذه الاستنتاجات11.


السخاء العثماني و الاعتدال المغاربي

لا يحيل التراجع الذي عرفه الحمّام في مصر و في المشرق عموما على التاريخ القصير و المتناقض لنماذج الهيمنة الكولونيالية، بل يحيل، على الأقل، و بمقدار مساو على التاريخ الطويل للإسلام المتوسطي المتنوع في اختلافاته، حيث تتفاعل بصفة كلاسيكية الأبعاد السياسية، الاجتماعية و الثقافية، فهذا التراجع، هو بشكل ما، متناسب مع السخاء المعروف قديما، و مع إجراءات المبكرة للتثاقف مع الحداثة.

لم تكن الأسر المالكة في مناطق الإسلام الغربي (المغاربي) مكثرة في مجال البنايات الفخمة مقارنة بنظائرها في المتوسط المشرقي، هذا على الرغم مما شهدته مدينتا قرطبة و غرناطة من فنون معمارية و ما أنجزته العمارة المغاربية من نجاح فائق. كانت هذه السلالات المالكة لا تولي اهتماما كبيرا للترف و البذخ في العناية بالجسم و ملذاته، و على الرغم من المهارة اللطيفة التي ميزت سكان فاس في فن الطبخ، و سكان مدينة تونس في انتقاءهم للعطور و إتقانهم لصناعة الملابس، و كذلك روح و فن العيش التي طبعت عظمة الحضارة الأندلسية.

إن المكانة العادية التي حاز عليها الحمّام في مناطق الإسلام الغربي التي تنسجم مع أدنى نفوذ اجتماعي و اقتصادي و سياسي، و مع براديغم ثقافي أو نموذج سلوكي، ماهي إلا ثمرة تحكيم بين الموارد و أنماط العيش ضمن العلاقة الثلاثية التي تجمع بين الدولة و النخب و المدينة حيث تتم تسوية "مدينة الآداب". و في هذا الصدد نجد هنري تيراس Henri Terrasse قد لاحظ هذا الأمر منذ نصف قرن حيث قال : "لقد عَرَفت إسبانيا الإسلامية، و في أثرها المغرب الكبير، حمامات بسيطة بشكل كبير من حيث التصميم العمراني على عكس حمامات الشرق الإسلامي".

فبالنسبة لهذا المؤلف، أن الإثراء النهائي الذي عرفه الحمّام في نهاية العهد الناصري ليس سوى تصحيحا "للموضوع الكلاسيكي و النفعي للحمام الأندلسي تقريبا لا غير "12.

أما المرينيون، و هم من أكبر البناة، فقد تركوا لنا حمامات من الطراز الرفيع، ذات قباب بديعة و ذات جصّ منقوش بتقنية عالية، لكن دون تطوير أو إعادة تفكير في "تقليد أندلسي مرّ عبر المغرب الكبير دون تغيير" حسب ما سجله تيراس Terrasse13 .

لم تعرف أفريقيا الشمالية مدن عملاقة على غرار مدينة بغداد و مدينة القاهرة، و ينطبق ذلك أيضا على الفت (...)

لقد تدعم التعارض المعماري الذي كان جليا في العهد الكلاسيكي، بين الإسلام المشرقي و الإسلام الغربي، في العهدين المملوكي و العثماني بشكل مفارق على الرغم من مجيء الأخوة بربروس إلى المنطقة14. و هكذا بقي المغرب الكبير في ظل الباب العالي، على هامش الإمبراطورية و فقد تدريجيا مكانته الاستراتيجية. إذ أنه أيضا، كان شحيحا نسبيا من حيث الرجال و الموارد، أما الممثلون المحليون للخليفة، الذين تميزوا بعددهم القليل و باستقلاليتهم الدائمة، كانوا يسرّحون عندما يبلغون الحدود القصوى لقدراتهم الجسمانية و الرمزية، هذا بالإضافة إلى رسوخ المذهب المالكي بهذه المنطقة.

و إذا صح هذا الإطار التفسيري، فإن أدنى إمكانية للرؤية التاريخية الكبيرة في الوقت الراهن، قد تكون ملازمة بلا انفصام مع الضغط الذي تواجهه المجتمعات قيد الدراسة، وكذلك مع العبء الخاص بالعمران، وأيضا مع التعارض القديم بين نموذج التباهي العثماني و نموذج التواضع المغاربي15، هذا بالإضافة إلى الكيفيات الخاصة بمسار المثاقفة مع الحداثة.
مدن، قرى و حداثة

جعلت الديانة الإسلامية، التي انطلقت من مكة و المدينة، حيث كانت ممارسة الحمّام مجهولة، من مدينة دمشق عاصمة لها، و هكذا أدمج المشرق بسرعة الحمّام في حضارة آدابه العامة. أما المغرب الكبير الذي اعتنق هذه الديانة بدوره بعد مرور نصف قرن من ظهورها، قد أدخل على نحو دائم تعديلات على هذا المكان وفق أساليب خاصة، منسجمة مع شكل اللياقة الاجتماعية العريقة، التي لم تتزعزع إلا قليلا في ظل الهيمنة العثمانية و هو الأمر الذي يفرض التساؤل بدقة عن وضع الحمّام المغاربي، إذ أن المجتمع الذي تبناه و أسهم هو كذلك (أي الحمّام) في تقويته و تنشيطه، قد وجد نفسه خاضعا بشكل عنيف لإعادة صياغة لأسسه و معالمه الثقافية، في ظرف حقبة قصيرة لقرن حاول فيه الاحتلال الكولونيالي الإعداد و التحضير لإعادة تركيب للمجتمع الوطني؟


المدينة و اللياقة الاجتماعية

لا يمكن اعتبار الحمّام فضاء حضريا ضمن فضاءات أخرى، بل هو المدينة ذاتها، مثله مثل المسجد و السوق. و في هذا الاتجاه فقد رسخ حديثا وليام مارسي William Marçais هذا المبدأ، بعد دراسة معمقة للمصادر الكلاسيكية، في مقالة شهيرة نشرت سنة 1928 قد أنصف التمثل الذي يملكه علماء الإسلام عن المدينة، و من خلاله، السمو المدني بوصفه أسلوبا يحدد الهوية الجماعية16. و في هذا الشأن نجد أن القدامى لا يولون أهمية للاعتبارات النظرية في هذا المجال إلا نادرا، لكن يمكننا أن نتصور أن موضوع الحمّام قد شكل قبل ذلك قيمة هامة لدى أسلاف ابن خلدون أو لدى القراء الذين أتو بعده ولم يألفوا بعد التمييز النظري بين العمران البدوي (الثقافة الريفية) و العمران الحضري (الثقافة الحضرية).

و عليه يبرز إرتياد الحمّام مرتبطا بشكل طبيعي بفن العيش داخل المدينة، بسبب أن هذا الإرتياد ينجز المعادلة التامة بين مبدأ المتعة و الممارسة الطقوسية، بين ضرورة استعمال الماء و الضريبة العينية التي تقدم للبلدية، بين ميراث الناس و هبة الحاكم. فبالنسبة لكاتب الحولية أو لكاتب الصحف، للأديب أو لرجل القانون، سواء كان مقيما بمدينة غرناطة أو ببغداد، يمثل حضور أو غياب الحمّام في الواقع اختبارا حقيقيا للطابع الحضري لأي تجمع سكني. و كما يُعدّ عدد هذه المنشآت و نوعية خدماتها مقياسا لبهاء المدينة17. و قد نتج عن هذا الأمر، شطط خيالي و بعض المبالغة : إذ تبدو الأرقام المقدمة في هذا المجال أنها مؤسسة على سمة التضخيم. و تستغل هذه المعطيات من قبل علماء الجغرافية و التاريخ الذين يولون أهمية كبرى للدقة و للتصنيف النوعي و التحديد الكمي للمدينة، و التأريخ لميلادها أو بالأحرى لتحقيب تاريخها. أما الباحث المعاصر، فإنه لا يسلك طريقا مخالفا، إذ أنه قد يجازف في أهليته في الالتزام بالدقة و المنهجية، لكنه يتساءل في الوقت ذاته، بعيدا عن الجانب الكمي أو أدنى منه حول مستقبل فضاء تعتقد أيديولوجية التقدم و التمدين في الفترة الصناعية أنه أصبح باليا و مهجورا.

فالمدينة العربية المعاصرة الكولونيالية و ما بعد الكولونيالية، قد توقفت فعلا على تمثيل نفسها في الثلاثي الكلاسيكي المشكل من السوق و المسجد و الحمّام18. لقد خضعت للحاجيات الوظيفية التي تقتضيها المحطة و السوق المغطاة، و مكننة الورشات و تكاثر المكاتب، و ضخامة الموانئ و الملاعب. و استجابت المدينة للاهتمام الهوسماني19 التجديدي الذي يرتكز على الحركية خارج المدينة و بين الأحياء، و يوسع و يصلح الشوارع الصغيرة و يحولها إلى شوارع كبيرة، يكسر الأسوار و المداخيل و الأبواب، ليجعلها تنخرط في الوجاهة الملكية أو في الانشغال الفرعوني المفرط بالساحات الكبرى و بواجهة البحر و بالفضاءات المفتوحة على الأفق. كما تنشئ الخدمات البنايات العمومية الكثيفة الحجم، تبني البنك و البورصة و الدكاكين الكبرى و غرف التجارة و تضفي على هذه المنشآت قيمة و رونقا. و بالتالي تمنح المدينة العربية المعاصرة المكانة رئيسية للفضاءات الثقافية الجديدة، المسرح أولا، و السينما ثانيا التي أصبحت صناعة وطنية حقيقة في مصر منذ الثلاثينات من القرن العشرين20.

و مع ذلك فإن الحمّام في شمال أفريقيا قد صمد بشكل كاف، و بخاصة في الجزائر و المغرب، لموارد و تقنيات و ممارسات الحداثة. فقد حافظ الحمّام في هذه المنطقة على وظيفته المتعددة العريقة و دعمها في الفترة الكولونيالية. كان، في القرن الثامن عشر، يؤدي عادة خدمة النزل، أو بالأحرى المهجع الذي يقصده التجار العابرون، و بخاصة عندما لا يجدون مكانا في الفندق المخصص للنوم، كما يؤمه العمّال الموسميون و حتى الفلاحين الذين يأتون للمدينة و لا يستطيعون الذهاب و الإياب خلال النهار. كما يعرف الفندق مع نهاية القرن التاسع عشر و بخاصة مع الثلث الأول للقرن العشرين تراجعا، حيث يتصدر بوضوح مكانته النزل ذي الطراز الأوروبي. و ستشكل المطاعم المتواضعة و المقهى و الحمّام فضاءات مناسبة "للطبقات الدنيا"، فبالنسبة لهذه الأخيرة، فالحمّام هو المكان المفضل للنوم. عرف الحمّام/المهجع و النزل تطورا ملحوظا في الثلاثينات و الخمسينات من القرن العشرين، سواء في مدينة تلمسان أو قسنطينة، بينما تناقص دور الفندق21، بينما اختفى هذا الأخير تماما و منذ مدّة في مدينة الجزائر. كما يتعرض الحمّام إلى التهديد أيضا من قبل ابتكارات أخرى، إذ نجد قبل الحرب العالمية الثانية، أن غرفة الحمّام قد انتشرت، و أصبحت متداولة بشكل عادي عند النخبة، أو بالأحرى لدى الطبقات الوسطى. و فضلا عن ذلك فإن تقدم استعمال ماء الحنفيات في جميع مناطق المغرب الكبير، حيث تغيب غرفة الحمّام الوافدة، قد أفقد الينبوع و الحمّام دورهما وأهميتهما الصحية. و يبرز بشكل واضح هذا التحول في الجزائر، بسبب أن السكان ورثوا في الاستقلال قدرا من التجهيزات الصحية في المنازل و العمارات التي أقاموا بها، و على عكس الاعتقاد السائد فإن استعمال هذه الأدوات الصحية لم يتم تحويله عن وظيفتها بشكل آلي، و بالتالي أخذت المرشة مكانة كبيرة يتزايد استعمالها عند الرجال، بفضل التجنيد العسكري و تعميم الرياضة. و إثر ذلك بدأت، في المدينة، المرشات العمومية المتميزة ذات الاستعمال السريع و ذات الأثمان الرخيصة، باجتذاب الزبائن الذكور من المسلمين22. مع ذلك ظلّ معظم سكان الريف و جزء هام من سكان المدينة الجدد مبتعدين عن نموذج صحي هو في غالب الأحيان غريب عن الأجيال الحضرية القديمة ذاتها. هذا بالإضافة إلى قدم نظام تحويل المياه، و التبذير الفردي و الاستهلاك الصناعي المفرط لها، الذي يقود إلى سحبها من احتياطات السدود التي دائما ما تكون مليئة بالوحل. و قد يهدد هذا الوضع طبقة المياه الجوفية، مما استدعى إلى اعتماد تسيير مديني لهذه المادة الحيوية من خلال توزيعها بالتناوب و قطعها بصفة نظامية مما يجعل أجمل غرق الحمّام غير ذات فائدة.

إذا فالحمّام يقاوم، إذ أقل ما يقال عنه، أنه لا يستمد قوته من الضعف البنيوي للعمران المعاصر بقدر ما يستمدها من فاعليته. إنه يتلاءم مع المنافسة، و بخاصة مع صيغة "الحمّام المختلط" المتداولة في المغرب الأقصى، حيث نجد أن المنشأة ذاتها قد تقترح حماما و مرشاة23، لا سيما و أن الحمّام ظل يستجيب لطلب اجتماعي و لحاجة ثقافية خصوصية بالنسبة للرجال و بشكل كبير بالنسبة للنساء. إن العلاقة التي يضمنها الحمّام بين النظافة و الصفاء تظل حتمية ضمن ثقافة حيث يشكل الديني قيمة مركزية و الشعائر مقدرة بالقدر نفسه مثل العقيدة على الأقل. و هكذا لا يلبث أن يحتل الحمّام مقاما لاجتماعية لا تستبدل داخل مجتمع يحكمه باستمرار التمييز الصارم بين الجنسين و عدم تساويهما المحددان للفصل بين الفضاء العمومي و الفضاء الخاص.


الخدمات و حياة الحي

ومهما كان المخيال القمعي لمتشددي الديانة الإسلامية، و الوسواس الذكوري الساعي إلى مراقبة النساء أو التخيلات الغرائبية و الشهوانية التي تلهم المخيال الشرقي للغربيين، فإن الحمّام سيظل أدنى ما يكون مكانا سحريا، بل هو مكان عادي و مبتذل. و بالإضافة إلى ميزته الجوهرية في ضبطه للجسد، و للعلاقات بين الجنسين، و سعيه لإيجاد التوازن بين المقدس و المدنس، فإنه يضم، إلى جانب الفندقة، سلسلة من الخدمات التي تسهم في تدعيم طابعه المريح و قدرته على تطوير الرباط الاجتماعي. و إن كان، كما يبدو، أن هذا الإسهام الإضافي قد عرف تراجعا في مدينة تونس و مدينة الجزائر في بداية الثلاثينات من القرن العشرين، فإنها، أي هذه الخدمات الإضافية، مازالت تتمتع بالحيوية و الاستمرار إلى حد اليوم. و بقراءتنا (لمغفل مدينة فاس) (l’Anonyme de Fès) (بداية القرن العشرين)24 يمكننا أن نقيس أهمية الاجتماعية الداخلية لحجرة الحمّام و مدى مواصلة الوظيفة الخارجية لحجرة الإحراق، بما تحدثه من آثار ينجر عنها سجل جديد للتبادل الاجتماعي حيث يتقاطع التعاون التقني مع الاهتمام بالمطبخ. و تقوم نار الموقد، بالدرجة الأولى، بالحفاظ على درجة الحرارة الملائمة للحجرة الساخنة، لكنها في ذات الوقت تستغل في ضمان كتيمية المنازل، بفضل الرماد الذي يُستخدم في سد الثغرات الموجودة بالحيطان و السطوح درء لسيلان المياه، و يترك هذا الرماد في متناول الجميع. إذ يجد الكل مبتغاه، داخل هذه الحلقة الفاضلة للتجاور بين سكان الحي و الحمّام. يجد فيها الساكن مادة بناء، و كما يعيد الحمّام تأهيل رماده، و يتخلص الحي من الفضلات، كما تضاف خدمة أخرى للحمام من أجل تدعيم وظيفية المكان، لكن هذه المرة، بدفع مبلغ زهيد حيث ينتفع الناس من الحمّام بوصفه فرنًا لطهي اللحم على البخار و ذلك بدفع بيزيتا و نصف. و إذا كانت هذه العملية ذات أهمية، أو بدفع قرش (نصف بيزيتا) إذا كان الطاجين أكثر تواضعا. و قد يوصي أحدهم صاحب الحمّام بوضع طانجية لحم الثور "حيث تكون النار قوية" كما يطلب منه آخرهم بـ "تهيئة" طانجية لحم الخروف حيث تدفن "تحت نار هادئة"25.

و قد ظلت هذه الممارسات حاضرة في الأحياء الشعبية بالمدن المغربية الكبرى، لمدة تفوق عشر سنوات بعد حصول هذا البلد على الاستقلال. و على العكس من ذلك، فإن هذه التقاليد اختفت تماما من الجزائر و منذ مدة ليست بالقصيرة. و إذا حدث و إن وجدنا أن بعض سكان الأحياء يكلفون ابناءهم بحمل الأطباق للفرن، و بخاصة لطهي الخبز المعدّ بالمنزل و الحلويات التي تحضر استعداد للحفلات، و لكن نادرا ما يكون ذلك من أجل المشوي، إلا أن الفرن أصبح وسيلة خاصة بالخباز.


وكالة تزويج، مكان للقول و لتذكر القريب

كما تتم مراجعة إحدى أوجه حياة الحي الأكثر كلاسيكية أو بالأحرى الأكثر معرفة، من قبل تحديات الحداثة، و يتمثل ذلك في الأمر الذي يجمع بين الجوار المديني و المصاهرة، أي مجتمع القربى و الاجتماعية الأنثوية.

ففي الحمّام، يتم، حسب العادة، الإعداد للزواج، حيث ينجز بوصفه شعيرة من شعائر العبور26 . ففي الحمّام تبحث الأمهات عن امرأة لأبنائهم، و عن زواج ملائم للعائلة، و يبقى على الرجال التكفل بالمصادقة الاجتماعية و القانونية على العرض المقترح للتبادل. و هكذا يتم فحص الفتيات عن كثب، دون علمهن بذلك، وحيث يتعرضن للمراقبة و الملاحظة في أجسادهن و حركاتهن و يختبرن في سلوكهن27. إذ تجمع المعلومات عن الفتاة لدى صاحبة الحمّام، و المدلكة، و الجارات، كما يُستقصى حول ميزات و نقائص الزوجة المحتملة، و حول المكانة الاجتماعية و السمعة الطيبة لعائلتها. فالحمّام هو نوع من الوكالة للتزويج، و في الوقت ذاته، مكان احتفائي و احتفالي، الذي بدونه لا يمكن للزواج و للميلاد أن يعرفا تنشئة اجتماعية تامة. إذ فيه تزين وتهيأ الخطيبة و تقدم التهاني و التشجيعات للوالدة، و يتم ذلك برفقة الأهل و في ظل التفاهم الضمني للأقارب و تضامن الجيران. و إذا كان الحمّام يدخل ضمن شعائر وطقوس الزواج بالنسبة للرجال، فإنه يحظى بمكانة أساسية بالنسبة للنساء بحكم أنه يجمع بين الطهارة والخصوبة و الاحتفالية، بتعزيزه لسعادة الأنوثة.

و في الحمّام، تنتشر عادة، الأخبار بشكل كبير و ممتاز بين النساء، سواء تعلق الأمر بمدينة فاس، أو تونس و الجزائر، فإن الحمّام هو مكان للكلمة بامتياز. فهو مثل المقبرة أو قبر الولي، إذ يشكل مبررا للخروج من المنزل، و مثل رصيف المقهى، فإنه يبيح الحديث. كما يمنح الحمّام للنساء امكانية العيش بينهن خارج إطار جتمعة القرابة و علاقة الحي، و لكن بشدة و بشكل متواتر خلافا لأماكن الجتمعة الأنثوية الأخرى. و في ظل هذا المجتمع حيث تبني علاقة بين كيانين، أي وجها لوجه، فإنه يعزز التعارف المتبادل، و يسهل الشفافية، و أيضا يضمن نقل المعرفة التي تملكها الزمرة عن نفسها. يملك الحمّام علاقة وطيدة مع القصص العائلية مثلما يملك صلة قوية مع ما يحدث في الحي، فهو الموجه الحاسم لهويته ذاتها. وتعرف أقدمهن – من العاملات و الزائرات – كل شيء عن النساء، و بشكل آخر، عن الرجال. و بمعنى آخر فإن الحمّام يمثل مقهى للنساء، و صحيفتهم، بسبب أنه فرصة للتعليق على الآخرين، و حتى على أخبار العالم. و مع ذلك، فإن الحديث عن الحياة العائلية يهيمن على الكلام في هذا المكان، الذي ينجح – كما يبدو بقوة إلى نقل الحميمية إلى الفضاء العام، من خلال جعل حلقة القرابة تتوسع لتشمل مجموع الطرق القروية (نسبة إلى القرية) المؤدية إليه. و بطبيعة الحال، فإن الاختلاط ذاته قد يعيق انبثاق الحميمية، إلا أن اللقاء في الحمّام، خارج الإطار العائلي، يسهم بدرجة كبرى في بناء نوع من الجماعة الخصوصية ذات الطابع الأنثوي، و الأحرى به من أن يبني فضاء عاما تظل طبيعته ذاتها من اختصاص الذكور.

و قد حافظ هذا التصور، في الجوهر على قيمته الحقيقية في أواسط الثلاثينات من القرن العشرين، لكن مع مجيء الحرب العالمية الثانية و التخلص من الاستعمار أثرت الهجرة الريفية و الحركية الاجتماعية و إعادة هيكلة المدينة بقوة على الانسجام التجويفي للدرب (مجموعة من الدور المشكلة حول طريق مسدود)، و كما أثر أيضا على الوحدة الاجتماعية و الثقافية للحي، و هكذا تضررت علاقة الحمّام في مدينتي الجزائر و وهران، بالتاريخ و هوية الزمرة الاجتماعية، كما تجدد نشاطها، بين حي القصبة و حي بلكور (الجزائر)، أو بين حي لامور (الحمري) و مدينة الجديدة (وهران).

و إن حافظ حي البيوت القصديرية على التضامن العائلي و القرابة، فإن ما كان ينقصه، بالضبط يتمثل في الحمّام، و مع ذلك فقد تمت إقامة الحمّام على تلك الأرض غير المبنية، مثلما جرى في صانشيدريان (Sanchidrian)(وهران) نحو سنة 1950، إذ عوض حجر الربط (Parpaing)الصفيحة المتموجة. و أسهمت حجرة الربط الحمّام في استعادة الرباط الاجتماعي للحي، و عدم إضعاف تاريخه بشكل من الأشكال و نقل ذاكرته لا سيما وأن الحمّام قد حافظ على وظيفته التزويجية، و واصل مرافقته لكل طقوس العبور الخاصة بحياة الأفراد (الميلاد، الختان و الزواج...) أما فيما يخص جدارته في تغدية الكلمة الأنثوية و الإشاعة العائلية فقد أخذت بعدا جديدا، من خلال انفتاحها بقوة و باستمرار على أخبار العالم و الصراعات السياسية. إذ استعمله قبل ذلك الرجال مقرا لاجتماعاتهم الحزبية. و مما أضعف القدرة التزويجية للمكان، بعد الحصول على الاستقلال، الامتزاج الذي عرفه السكان و العيش في العمارات و الأحياء، و لكن التمدرس الكثيف للفتيات في السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي هو الذي جعل التعارف المتبادل في المتوسطات و الثانويات يعوض دور الوسيطة في الحمّام، الأمر الذي دفع بـ "بورصة القيم الزواجية" إلى تغيير مكانها و ناقلها. و في المقابل، تحوّل حديث الحمّام إلى الاهتمام بشكل كبير اليوم بالمسائل و النقاشات و المتاعب المتعلقة بالحياة اليومية، هذا على الرغم من قدوم الهاتف و التنافس بين الراديو و التلفزيون، و الحضور القوي للأمهات في الخارج، سواء في السوق أو عند أبواب المدارس لمرافقة أو استقبال المتمدرسين من الأبناء28. و يمكن القول أن حديث الحمّام قد عرف طابعا اجتماعيا جديدا.


من الحرفة الصغيرة إلى المؤسسة الصغيرة

يبدو، و من أول وهلة، أنه بإمكان الشخص أن يكون قهواجيا أو حمامجيا، صاحب محل قائم بشكل جيد، و عضوا في اتحاد مهني عريق يملك تقاليده و وليه الطاهر، و مسؤولا عن نشاط متخصص، تقع عليه المراقبة و معترف به و راسخ منذ قرون ضمن أطر المدينة الإسلامية.

و باعتبار أن نشاط الحمّام هو ذو طابع اقتصادي، و بحكم أنه يتطلب عملا مدفوع الأجر، و يتسبب في نفقات و يضمن دخلا، و كذلك هو ذو طابع تجاري، بما أنه يشكل موضوعا للصفقات، و الضرائب و الخدمات المدفوعة مالا و المثمنة في السوق، فإنه يرتبط خصوصا بوظيفة اجتماعية تُمفصِل بشكل نوعي المدنس و الديني. و إذا كان النذير (الخبير) يجدد كل سنة، مثلما كان يحدث في مدينة فاس عام 1937، ثمن الكراء بوضعه في المزاد العلني، فإنه يقوم بذلك لحساب المؤسسات الدينية29. و عليه فإن المسير يمضي، بينما المؤسسة تظل قائمة، و معها ترصد الموارد من الناحية المبدئية، وفقا لرغبات المانح الأصلي، و مع ذلك قد يحدث دائما أن يعاد تعيين هذا النشاط بمنحه ثمن جديد، و إجراء يتوقف عليه كل شيء، حيث أن سيره لن يكون غريبا عن التنافس و"قانون السوق". إذ أن الزبون قد يغير الحمّام، إن لم يرض عن الخدمات.

و في هذا الصدد يتحوّل مسير الحمّام إلى رب عمل صغير. و خلافا للخياط و الإسكافي، اللذين يسندهما في نشاطهما متمرن أو اثنين، أو بالأحرى الحلاق الذي يشتغل لوحده و يحتل مكانة متواضعة في السوق، أو صاحب المقهى الذي يوظف عادة نادلا واحدا و يكتفي بمحل صغير، فإن مسير الحمّام يشرف على فضاء واسع و يدير فريقا حقيقا من العمال. يتكون أصغر حمام في المغرب من بناية ضخمة، و النموذج العمال. يتكون أصغر حمام في المغرب من بناية ضخمة، و النموذج المعتمد في هذا البلد لا يقل عن أربع قاعات، و باعتباره منشأة مركبة، فإنها تتضمن خدمات متنوعة و متعددة، و هو مكان لنشاط يشتغل حسب الحالات بشكل مزدوج أو ثلاثي يراعي فيه التوقيت المناسب للجنسين.

و فيما يخص الرجال، فإن عدد المستخدمين يرتفع عموما إلى ثلاثة : القلاّس و هو في ذات الوقت حارس و أمين الصندوق، الكيّاس إذ يقوم بالغسل و التدليك و شخص ثالث، غالبا ما يكون شابا، دوره يشتمل على التحرك بين القاعات و حمل الفُوًط لأصحابها، و مساعدة الشيوخ في التنقل، و ترتيب الجو الملائم لراحة المستحم و كذلك تنظيف الحمّام.

و نحصي أيضا ثلاث مستخدمات بالنسبة للنساء : القلاّسة التي تصهر على الصندوق، و قباط الرزام التي تقوم بحراسة الملابس والطيّبة للغسل و التدليك. و قد يرتفع عدد المستخدمين حسب الحاجة. و لابد من ذكر أيضا العمال الذين يشتغلون خارج الحمّام، المستخدم الذي يعتني بالمرجل، بإمداده المستمر للحوض بالماء الساخن. و في هذه الحالة، تقتضي الصيانة، حسب (مغفل l’Anonyme) مدينة فاس توظيف "ثلاثة أشخاص يتناوبون على هذا العمل". و دون أن ننسى الغََُبار الذي يطوف بالمدينة و ضواحيها على ظهر بغل أو حصان لتموين الموقد بالوقود من مختلف المواد. فعدد العمال قد يتأرجح بين تسعة و خمسة عشر شخصا. و الملاحظ أن التاجر الكبير ذاته لا يستطيع جمع هذا المقدار من المستخدمين في فضاء واحد، حتى لو وظف أكثر من ذلك عند اشرافه على تجارة تتكون من فروع متعددة و متباعدة. و لذا قد يصل النساجون الأغنياء الذين توصلوا إلى إقامة ورشات، مع الحظ، إلى تجاوز هذا العدد.

و حتى وإن كان صاحب الحمّام مستخدما متوسطا، و لوفي حالة المنشآت الواسعة، فإن قطاع الحمّام قد احتل مكانة لا يمكن عدم مراعاتها ضمن "سوق العمل" في كل المدن الكبرى التي كان لها دورا في الفترة الإسلامية الكلاسيكية. و إذا كان حقا أن مدينة بغداد أحصت عدة آلاف من الحمّامات في العهد العباسي فإنه تم استخدام عشرات الآلاف من الرجال (و النساء)،و بخاصة لمّا كانت عاصمة الخلفاء تنافس روما القيصرية من حيث ثراء الحمّامات و عددها. و للحديث فقط عن الأبعاد المتواضعة للبلدان المغاربية في هذا المجال، عشية الغزو الكولونيالي، فإننا نقول أن هذا القطاع المتعلق بالتشغيل الحضري، كان يحصى أنداك آلاف الأشخاص.

و إذا كان المسيّر سيدا للحمام، فإن المدلّك هو سيد الجسد، إذ يمتلك هذا الأخير، بوصفه المختص الحقيقي في المجال، التدبير الكافي الذي تعلمه عن أحد الكبار الذي تلقاه عن رجل ماهر مارس هذا الفن قبله بفترات، إلا أن المدلّك قد استطاع أن يكتسب بشكل كامل، هذه الحرفة بالممارسة لسنوات و كذلك بفضل الموهبة.

و لهذا السبب، تكون سمعة الحمّام مدينة بقوة لهذا المدلّك، و لهذا السبب، تكون أجرته أكبر من الأخرين.

و على خلاف الجزائر، البلد المجاور، نجد أن المغرب الأقصى قد حافظ بأفضل الطرق على هذا التقليد المرتبط بهذه المهارة التجريبية العريقة، و بنفس الطريقة التي جعلت ليوطي (Lyautey) يحافظ على الحرف التقليدية.

و قد تمسك الحمّام المغربي في نهاية الستينيات من القرن التاسع عشر بدوره الحفظي لهذه الممارسة التي أصبحت نموذجا لسكان مدينة وهران، الذين كانوا يتوجهون كثيرا للسياحة عند جيرانهم.

و يشكل الحمّام منذ مدة استثمارا و مصدرا للموارد، بتقديمه خدمات للناس و بتوفيره الشغل للمستخدمين. كان ذلك من قبل في القاهرة في نهاية القرن الثامن عشر30، ضمن تمظهر سوسيو-تاريخي يوحي بتراجع مبكّر نسبيا بين "الاقتصاد" و"الدين"31. و قد تطور الحمّام في البلدان المغاربية في هذه النقطة بشكل لا يقل أهمية عن غيره من البلدان، و لوبصفة متأخرة في المغرب الأقصى خلافا لجيرانه الجزائريين و التونسيين. مثّل الحمّام منذ الفترة الكولونيالية و فيما بعد في القرن العشرين قطاعا ينتمي للمؤسسة الصغيرة مما يدل على الصعود الجديد للطبقات الوسطى.

و في هذا الشأن، لا تأتي المبادرة فقط، من قبل المماليك في أواخر عهدهم بالقاهرة، أو من تونس في عهد خير الدين، أو من القطاعات الميسورة لـ"لبرجوازية الحضرية" أو من علاقة دنيوية مثلما حدث في الجزائر في عهد الدايات (ما بين القرن السادس عشر و القرن الثامن عشر)، بين قطاع نشاط فاعل و بين جماعة متميزة، أي الجماعة الميزابية و ذلك بالتزامن مع هذا السياق. و تعكس هذه الحالة، و لا سيما في الجزائر، إصرار و جهود المدخرين الصغار المنحدرين من الطبقات الاجتماعية الحضرية السفلى، و تبرز أيضا بواسطة الحركية الجغرافية الداخلية أو بدونها، و بواسطة الهجرة نحو فرنسا32

و مثال ذلك المستخدم البسيط القائم على تسخين الماء، و المتخرج سنة 1930 من المدرسة العمومية، و الذي أصبح مديرا لحمام نحو عام 1950، إذ يبني في وقت قريب أجمل حمام في مدينة الجزائر الكبرى. وتقوم ابنته، التي تملك مؤهلات علمية أكثر منه، بضمان التسيير و الإشراف على سجلات الزبائن المخلصين33، لكن معركة الجزائر أثناء الحرب التحريرية، تقضي على جهود تلك المؤسسة العائلية، بينما يتكيف آخرون بأفضل ما يُستطاع مع هموم الحرب أو الاستفادة من الظروف الملائمة لنشاطهم و التي وفرها الاستقلال بشكل غير متوقع. و لا شك أن الاستثمار في الحمّام يبرز بوضوح كيفيات إعادة ترتيب اجتماعي و بلوغ مرتبة البرجوازية الصغيرة و الوسطى، إلا أن الأكثر فعالية و ابتكارية في هذا المجال هم المقاولون الفاسيون و السوسيون. فهؤلاء قد جددوا في الحمّام و بخاصة بمدينة الدار البيضاء (المغرب)، في بداية الثمانينات من القرن الماضي بإدخالهم عليه مواد و خدمات جديدة (المرشات، الجاكوزي) و دفع بهم الأمر إلى حد إلحاق قاعة حلاقة بالحمّام34، مستلهمين ذلك من الفضاءات الباريسية الجديدة التي تعتني بالجسد (مراكز الخاصة بالجسد، و قاعات تطبيب الأرجل) غايتهم في ذلك حسن التدبير الذي يجمع بين التقليد و الابتكار لفائدة زبائنهم.
ترييف و تمدين الحمّام

لم يُبرز الحمّام، في المجتمعات المنبثقة عن الاستقلال، هذه الفعالية الحضرية بهذه الكيفية أبدا، إذ لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، من حيث استعداد هذا المكان للتكيف مع المستجدات التي عرفتها البلدان المغاربية و بخاصة المغرب الأقصى. و هذا بالإضافة إلى توافد سكان القرية إلى المدينة و انتقال الحمّام إلى القرية، فإن هذه الحركية تتمظهر بوصفها أسلوبا آخرا ملائما لإعادة امتلاك يتسم بأشكال المتعددة لممارسة استحماميه عريقة هي في ذات الوقت مهددة و مصونة ومتجددة.

إذا كان السيني و"الحمّام الصغير" قد تمت دراستهما من قبل أريالا روتيرق Ariella Rothberg باعتبارهما خصوصيتين ريفيتين مغربيتين، و قديمتين بلا شك، أو على الأقل بالنسبة للأول35، فإن ترييف الحمّام يتساوى بالمقدار نفسه بالنسبة للجزائر، أو بالأحرى بالنسبة لكل البلدان المغاربية. فهذا النوع من الحمّام قد تطور بعد الحرب العالمية الأولى. و نجد أن كل شيء قد تم تبسيطه، ضمن هذا النوع، من المبنى إلى العدة، مرورا بالإدارة و الخدمة. كل شيء كان مقتصدا فيه أيضا، بما فيها القاعات، و الأدوات، و الزخرفة و حتى الثمن. كان يُجهل آنذاك استعمال الحصائر و المقاعد و التدليك، إذ كان يكفي لتشغيله في شكله الريفي البسيط، شخص أو شخصين فقط. و مع أن ثمن دخوله كان أدنى من نصف ما يدفع بالمدن، إلا أن ذلك لم يمنع الناس الأكثر فقرا من العزوف عنه.

و عندما يتعلق الأمر بالحمّام في المغرب الأقصى، فإن هذا البلد يبرز للعيان بمساره المبكر، إذ أنه عرف التغيير في بداية القرن العشرين، هذا إذا سايرنا ما تعتقده الذاكرة المحلية36. و في انتظار إنجاز دراسة أكثر صرامة، قد يغرينا، مع ذلك اعتبار هذا المؤشر نفيسا، إذ يسمح بمراجعة أو على الأقل إظهار الفوارق الدقيقة في فكرة التفاوت بين الجيران المغاربيين و بخاصة إعادة النظر في الاعتقاد السائد بـ "التأخر المغربي" في هذا المجال. إن التقدم المبكر الذي أحرزه الحمّام في البيئة المغربية الريفية يوحي بتحول غير مرئي بعد و لكنه ملموس، بين المدينة و القرية، و قد تم ذلك في نهاية عهد الملك مولاي الحسن، و بالتأكيد عشية الحماية الفرنسية (سنة 1912).

كانت الجزائر و تونس تملكان، على مستوى التغيير الاجتماعي، حظوظا كبيرة لإبراز مقامهما في هذا الصدد. و بفضل ديناميكيتها الداخلية التي أدت في حقيقة الأمر إلى تمرد الجنوب، و أيضا إلى توجه النخبة نحو الإصلاح، فإن تونس قد باشرت بانقيادها لأفكار وزير متنوّر، هو خير الدين بالذات، في إدخال إصلاح عميق في المدارس و في القيام بتبادل مقلد، ليس مع النماذج الأوروبية فحسب، بل مع مبدعي مدينتي بيروت و القاهرة، تم ذلك بالرغم من المراقبة المسلطة على السكان من قبل الحماية الفرنسية (سنة 1881). أما البلد الثاني أي الجزائر، فإنه قد تملك الأطر الجديدة للحداثة الغربية وفق ظروفه و انتظام عاداته، نتيجة لضغط كولونيالي أكثر شراسة، و بعد نصف قرن من العمليات العسكرية، و تجريد كامل للسكان المحليين من الملكية العقارية و حصارهم إداريا. و في هذه الحالة الأخيرة، نجد أن ترييف الحمّام قد نتج عن إدماج متزايد للفلاحين ضمن المراكز الكولونيالية، و لكن أيضا بفعل المؤثرات المجتمعة لنظام التجنيد و للحرب و للهجرة المزدوجة في الداخل و الخارج، التي كانت أكثر حدة في الجزائر خلافا لما عاشه الجيران في تونس و المغرب37.

و مع ذلك يجب إنصاف المظاهر المحلية و الجهوية و التشديد على التفاوت بين الآثار المؤجلة. كنا نتوقع على سبيل المثال، أن نجد الحمّام الريفي بالجرجرة، و بالصمام و القرقور بالجزائر، حيث نشأت العوامل المساعدة مبكرا و بقوة (مراكز مدرسية، أسواق جديدة، محطات السفر (بواسطة الحافلة أو القطار)، لكن شيء من هذا القبيل لم يحدث. و ذلك بحكم أن سكان القبائل يذهبون إلى المقهى، و هو أمر جديد بالنسبة للكثير من سكان الريف38، لكنهم لا يذهبون إلى الحمّام، لاعتقاد الكثير منهم، في فيما بين الحربين العالميتين (و فيها بعد كذلك)، بوصفه حضري و"عربي"39 ،بينما هو كذلك معا. و يعود سبب ذلك العزوف عن الحمّام في هذه المنطقة إلى أسباب ذات طابع أنثروبولوجي. إذ أن سكان الجبل، لم يدمجوا بعد الحمّام في عاداتهم و ممارساتهم، و هم الذين يعرفون منابع الماء الساخن و يتعاطونها، و لا يمكنهم ذلك إلا إذا غادروا القرية و تكيفوا مع الأجواء الجديدة التي توفرها النماذج السلوكية المفروضة من قبل الثقافة الحضرية برضى أو بإكراه. و يمكننا ملاحظة، و بصفة معبرة و على أساس تحقيقات ميدانية، أن النساء المنتسبات لمختلف القرى، أنهن لم يعرفن الحمّام إلا في الثلاثينات أو الأربعينيات من القرن العشرين، و ذلك بمرافقة أزواجهن أو أباءهم إلى المدن أو إلى الأحياء "العربية" أو "المعربة" الواقعة في ضواحي المدن. و يتعلق الأمر بمدن مثل الجزائر و سطيف أو قسنطينة في الحالة الأولى، أو بمدينتي برج بوعريريج أو البويرة في الحالة الثانية. و تجدر الإشارة إلى أن تعاطي الحمّام في مدينة تيزي وزو يظل رديئا إلى حد اليوم ، أو بالأحرى، فإنه لا يقتصر إلا على أسر الموظفين الذين أتوا إلى هذه المنطقة و استقروا بها. بينما هناك العديد من الممارسين لنشاط ما أو ممن يمتلكون ريعا ما، الذين يبنون إقامة ثانية أو مسكنا جديدا في القرية، لدى عودتهم من مدينة الجزائر أو من فرنسا، لكن نادرا ما يقرر أحدهم تجهيز منزله بحمام خصوصي، و لوفي بناية ضخمة ذات ثلاثة طوابق، و ذلك على الرغم من توفر إمكانية تحويل الماء40.

بينما يختلف الأمر كليا في الغرب الجزائري، حيث أن سهل ملاتة مثلا، الذي أعيد تسجيله منذ 1794، ضمن حركية المدينة الكبرى التي تم استعادتها من الاحتلال الإسبان.

كان يتردد سكان الريف بهذه المنطقة، مثلهم مثل باقي سكان البلاد، على منابع الماء الساخن و على الحمّامات الرومانية القديمة، لكنهم قد جلبوا أيضا الحمّام إلى القرية، في الثلاثينيات من القرن العشرين بالتأكيد أو على الأرجح في العشرينيات من القرن نفسه. و لم يتوسع ذلك إلى جميع القرى، بل بالعكس إذ نجد قرية عين الأربعاء مثلا، و الكائنة عند سفح جبل تسالة، أنها قد استضافت الحمّام قبل نشوب الحرب العالمية الثانية بكثير، و هو لم تقم به فريتا طفراوي و تمازوغة، كما لم تعرف قرية عين الكيحل ذلك بعد، على الرغم من حلول سنة 1985. و لعل الإنشاء المبكر نسبيا للحمام القروي، يحيل في الحالة الأولى (عين الأربعاء)، و في جزء واسع منها، على شكل إدماجه ضمن العلاقة الجديدة التي تمت بين المدينة و القرية الخاصة بهذه الجهة.

كانت قرية عين الأربعاء، التي تم تأسيسها في القرن التاسع عشر في منطقة قبيلة الدواير، على مستوى طريق الرابط بين مدينتي وهران وعين تموشنتن و قرب سوق ريفي قديم لا يزال يقدم خدمات إلى حد الآن، تمثل مركزا كولونياليا تم تحويله إلى بلدية تملك جميع الصلاحيات و تشتغل بصفة كاملة، و لفترة وجيزة، ثم تحويلها إلى مركز لمحافظة جهوية. و على الرغم مما عرفته هذه القرية من ترتيب إداري أدنى مما كانت عليه، إذ تم ترقية قرية مجاورة عوضا عنها، لم تتوقف قرية عين الأربعاء عن نشاطها المتعلق بزراعة الكرم، و عن كثافة تبادلها، مما استدعى إقامة خدمات الحياة الحضرية، و كانت هذه الخدمات موجهة في الأصل إلى الأوروبيين القاطنين بالقرية41.

و تجدر الإشارة إلى أن زراعة شجرة العنب، تقتضي و جود اليد العاملة و هوما و فّرته قبيلة الدواير، التي أصبح أفرادها عمالا زراعيين في مزارع الكولون. وسعى هؤلاء إلى جلب أسرهم، المنحدرة من الدواوير المحيطة، إلى قرية عين الأربعاء و قد التحق بهم المهاجرون الجدد من المغرب الأقصى. و لعل قرب الموقع القديم لحمام بوحجر و تأثير الحاضرة الكبرى قد ساعد على اتمام هذا التوجه نحو هذه الممارسة الصحية. فحاضرة الغرب الجزائري الكبرى و القطب الموحد لكامل الغرب الإسلامي منذ الثلاثينات من القرن العشرين، أي مدينة وهران، لا تبعد إلا بخمسة وستين كيلومترا.

و في الواقع، كان الرجال يتوجهون إلى المدينة، بأعداد متزايدة و باستمرار، و بخاصة مع توفر القطار ومن ثم الحافلة : لبيع منتوجاتهم، أو العمل في الميناء، و لحضور مباراة لكرة القدم. و أضحى يتم هذا الأمر، منذ نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، حيث كانوا يجدون في أقربائهم الذين استقروا بمدينة وهران، وحيث تعلموا تعاطي الحمّام وتذوق الاستحمام خلال ترددهم على المدينة، إلا أن قدوم الحمّام إلى القرية قد استرعى اهتمام النساء اللواتي لا يتحركن كثيرا مقارنة بالرجال. أما بالنسبة للواتي عدن إلى القرية، بعد استقرارهن مع أزواجهن في المدينة، فنجدهن ثابتات على طلب يدعمه التعاطي السابق لمنابع الماء الساخن.

و قد استجاب أحد الأعيان الصغار والمنحدر من العائلات القليلة التي أصبحت لها مكانة رفيعة، لذلك الطلب، ببناء سنة 1930 أول حمام بالقرية. و قد بقيت الحاجة إلى الحمّام أو الرغبة فيه أقل حدة، في بعض الحالات، حيث الطلب دون العرض. و بما أن التحول الاقتصادي و الاجتماعي لا يملك تأثيرا آليا و مباشرا على الممارسات الثقافية و على ثقافة الحمّام على وجه الخصوص، فقد فرضت هذه الحركية نفسها و توطدت، وفق منطقها و إيقاعها و حسب احتياجات و اختيارات الزمر الاجتماعية المحلية.

و لهذا تطرح مسألة التحديد الدقيق للتاريخ و كذلك للمكان و للظروف الفعلية التي أسهمت في ظهور الحمّام الريفي، بالبلدان المغاربية الرئيسية الثلاثة. و إن توفرت لدينا الدواعي الكافية للاعتقاد بأن مسار تأصيل هذه الممارسة متشابه بصفة عامة بين هذه البلدان و هو معاصر بها كذلك. و قد وجدت هذه الممارسة نقاط الارتكاز، بالبلدان المذكورة، بين منعطف القرن التاسع عشر إلى حدود سنة 1930. إذا يرتبط ابتكار الحمّام، و بغض النظر عن جميع التفاوتات و الأماكن و الأساليب، بالتحول اللامعكوس في العلاقات بين المدن و القرى، و بكيفية من بين الكيفيات بالمثاقفة مع الحداثة. و هكذا، نجد أنه بواسطة الحمّام، و المقهى، و بمكتب البريد وخدمات الحافلة، فإن المدينة هي التي تأتي إلى القرية و إن كان ذلك بحكم ترييف الحمّام، فإن هذا الأخير يسهم بالمقابل في ذهاب الريف إلى المدينة42.
تميّز اجتماعي و تقسيم للجنسين

يشكل الحمّام فضاء اجتماعيا معقدا، بحكم أنه خصوصي لكبار القوم و الأثرياء، و عمومي بالنسبة للناس البسطاء، حيث يتم التوفيق بين التساوي الديني مع التميّز الاجتماعي و عزل المرأة وي عوّض ذلك بخروجها إلى هذا المكان تحت حراسة مشددة. و الملاحظ أن هذه السمات التي تمتعت بالحيوية في أواسط الخمسينات من القرن العشرين بمدينة الجزائر أو في السبعينيات بمدينة الرباط، قد أُعيد تنظيمه منذ بداية القرن إلى حد المرافقة أو التدعيم، في الراهن، و ذلك لإعادة تأسيس شامل للتفاوتات في المكانة الاجتماعية و لأشكال التواصل، و للسلوكيات التي تطبع التفريد و التميّز عن الآخرين.


أثرياء و فقراء أو التسوية بواسطة الجسد

لا غرو في أن نذكر، أن الحمّام بوصفه فضاء عموميا لا يضاهيه في مسألة التساوي الاجتماعي أي فضاء، و لا يمكن استثناء المسجد من ذلك ، هذا ما تنقله على الأقل الأفكار السائدة في أدب الرحلات، و التي نجدها متداولة في الأعمال الفكرية و مثمنة من قبل خطاب الأهلي. فهو الفضاء الذي يسوي بين الناس حيث تلتقي و تختلط كل الطبقات الاجتماعية، بل جميع الأعراق أو الإيثينيات، و جميع الديانات أيضا، حيث لا تُلزم الجماعات الأخرى للاغتسال فيما بينها بشكل واضح، و بعيدا عن الأخرين، و هذا نادرا ما يحدث43. و في هذه اللحظة، نجد أن عملية العري ترهن الجسد تماما، باستثناء "أعضاء الاحتشام"، و هي الأطراف التي تعزف، فضلا عن ذلك، النساء على حجبها لمّا تقتسمن الأجواء المرحة للحمام. و لهذا نجد أن ذات الجسد تحيل على جسدها الخاص بها، مهما كان الفرد ثريا أو فقيرا، إذ يختصر المُغتسِل في فرديته البدنية و في إنسيته الأصلية، سواء كان تاجرا غنيا أو فلاحا عابرا. إنه التفاوت التام، فهو بيولوجي بالنسبة للبعض و رباني بالنسبة للبعض الآخر، و في كل الأحوال فإن الحكم الجمالي و شبه الدقيق للحمام، الذي أصبح متواضعا عليه من الناحية الاجتماعية و بخاصة في العالم الأنثوي، قد يجعل التفاضل شديد القسوة، إذ يتم ذلك وفق ما يبرزه جمال المرأة وسنها44.

بينما قد لا يحمل أي شيء على الإطلاق الزيف، مثلما يحمله هذا الخطاب المساواتي. فالأمير لا يخالط الوضيع، إلا في رواية بيبرس، عندما يصطحب معه، و في غفلية تامة، "زهرة الشحاذين" إلى الحمّام، بالقاهرة المملوكية الكبرى،45..

فالأمير يملك بصفة شخصيا العديد من الحمّامات و يتصرف فيها مثلما يتصرف في البلاط و الحريم، و في الفضاءات الاستحمامية المخصصة لراحته46.

و الشيء نفسه ينطبق على الأثرياء و الأعيان والقضاة، حيث يتعارض المقام مع الاختلاط المبتذل. كانت النخبة الحضرية (أو الخاصة)، في العهد الكلاسيكي، تتمتع في كامل المغرب الكبير و كذلك في المشرق، بالحمّامات الخصوصية التي تنحصر في حفظ حميمية الدار و أصحابها47. فالخاصة و العامة لا تختلطان. كان ذلك صحيحا في المغرب الأقصى في عهد اليوطي(Lyautey) و في تونس خلال عهد لوسيان سان(Lucien Saint)، و أيضا بالنسبة للأسر التلمسانية التي كانت، فيما بين الحربين العلميتين، منشغلة بالحفاظ على تمايزها، تؤجر الحمّام كليا ليوم كامل أو لأحدى الليالي48، و ذلك بسبب عدم إمكانية بناء الحجر الساخنة ببيوتهم. كان الأمر ساري المفعول في الثمانينات من القرن الماضي، إذ أنه أصبح من المعتاد أن يظهر الأثرياء الجدد تألقهم الاجتماعي للجيران و للأقرباء، بإضافتهم الحمّام و حتى المنبر، للبذخ البارز على المسكن البارز49.


تحديد أماكن الاستحمام

و أبعد من ذلك التمايز الاجتماعي يشكل وجود الحمّام أو غيابه، مؤشرا جيدا لقياس التفاضل الفضائي و الوظيفي لأحياء المدينة، إذ أن عدد هذه الأماكن و نوعية أدائها تمثل جزءا لا يتجزأ من هويتها. فأجمل الحمّامات و الأكثر ارتيادا قد تكون غالبا الأكثر قدما و الأكثر قربا من المركز، أو المدمجة في القطب الاقتصادي و الثقافي السائد – مثلما كان ذلك بالقاهرة في عهد الجبرتي - بموجب منطق يعتمد التمايز المتمركز الذي يعتبر نزوعا كلاسيكيا50.

و مع ذلك يمكن القول، أن لا شيء يبقى ثابتا، إذ نعلم، أنه قبل التأثير الذي مارسه التنظيم العمراني الجديد المميّز للقرن التاسع عشر، فإن بعض المدن اشتملت على أحياء دون حمامات، و أحياء أخرى مجهزة بها، و ذلك بغض النظر عن التركيبة الاجتماعية و المهنية أو الجماعاتية لسكانها. و تستجيب مدينة ندرومة الموجودة في الغرب الجزائري لهذه الحالة النموذجية، إذ حافظت إلى حدود سنة 1930 على الصورة البيانية للتنظيم العمراني و على التكوين السوسيولوجي الذي ميّزها منذ سنة 1830، و اللذين أضعفتهما قليلا البلدية في العهد الكولونيالي، فقد تم الابقاء على أحياءها الأربعة القديمة، التي لا تتساوى من حيث التجهيزات الثقافية (الكتاتيب القرآنية، المساجد، إلخ.) و البعيدة عن بعضها البعض وفق المبرر الثنائي للمبني على الأصل الانقسامي و التراتبية الاجتماعية51

إذ كانت كل وحدة سكنية تشتمل على الأقل على حمام واحد. و بقي المجال مفتوحا على ذلك في السبعينيات، على الرغم من التحولات الاجتماعية الناجمة عن الاستقلال، و مع "الترييف"، الكثيف للمدينة، و مع التقدم الذي أحرزته الأحياء القديمة و مع التجهيزات التي اكتسبتها الأحياء الجديدة المبنية خارج أسوار المدينة القديمة حيث ظهر الحمّام. و مع ذلك فقد تعرض، التنظيم المتمركز للعمران، للضرر قبل الحصول على الاستقلال، من خلال تكاثر المدن الكولونيالية، و مع إعادة الهيكلة الجارية للعواصم الكبرى، بعد تلك الفترة. ففي مدينة الجزائر الكبرى بتعداد سكانها الذي يصل إلى ثلاثة ملايين، و في مدينة الدار البيضاء بسكانها الذين يبلغ عددهم خمسة ملايين، نجد أن المركبات الاستحمامية الجديدة تبعد عن المدينة القديمة و تسهم في إعادة انتشار حضري متعدد المراكز.


تراتبية المواقع و التمايز الاجتماعي

و يمكن أخذ بعين الاعتبار جانبا ثالثا من التفاوتات يجعل من صورة استعمالات الجسد و من رهانات المكان، معقدة بشكل كبير. و لا تتميز الحمّامات، مثلها مثل المقاهي بمكانتها في تراتبية الأحياء فقط و بنوعية محيطها و بموقعها، أو بجمال أشكالها العمرانية، بل تتمايز أيضا، بوظيفية تجهيزاتها، و بجودة الخدمة، و بالمكانة الاجتماعية و الفخامة التي تميز الزبائن الذي يترددون عليها و كذلك بمستوى أثمانها. و لذا تكون بعض الحمّامات كبيرة، مريحة و تمتلك إضاءة جيدة و مجهزة بالأحواض و الحجر، و المزيّنة بالأعمدة و الحنفيات، و الغنية بالجبس و الرخام، و المزودة بالزرابي و المقاعد، بينما تكون بعضها الأخرى، صغيرة و مظلمة و أحيانا قديمة و وسخة و غير مجهزة بكل ما يُمتع من عدّة تجعل الفارق واضحا. و تكون الأثمان في الحمّامات الأولى مرتفعة نسبيا و رخيصة في النوع الثاني.

فالتماثل شديد بين طبيعة الموقع، و نوعية المنشأة و درجة التردد على المكان، إذ يتوقف الاختيار، ضمن الحي ذاته، و في المحيط ذاته و على الثمن ذاته، على النجاح المحقق.

و يعبّر ذلك، إن قليلا أو كثيرا، عن علاقة التقدير "التقنية" القائمة بين العرض و الطلب، لكن هذا الجانب النوعي الأولي لا يكفي لتفسير انسياب هذه الممارسة و التعقيد الذي يميز هذا السلوك. إذ يتوقف الاختيار و التفضيل لهذا الحمّام أو ذاك على الشأن العائلي، الذي تتدخل فيه العادات القديمة، و روابط التضامن و الوفاء المتعلقة بالقرابة و المجاورة، و بالصلة الاصطفائية، و إلا بالانتماء لجماعة دينية. و قد ازداد هذا التوجه حدة و تميّزا في العهد الكولونيالي و بعد الاستقلال. إذ واصل سكان مدينة الرباط و مدينة فاس و القاطنين بالمدينة الأوروبية في الثمانينات، بمواصلة ارتياد حمامات المدينة القديمة52. و الأمر نفسه يحدث بمدينة وهران و في الفترة نفسها، إذ يمكن لشخص أن يقيم قرب دار الولاية الجديدة، لكنه يتردد على "حمام الساعة" الكائن "بالحي الزنجي"53 القديم. و قبل ذلك، أي في الثلاثينيات، كان بإمكان أحد مستخدمي الترامواي و القاطن بمدينة الجزائر، أي بأعالي حي بلكور أن يتمسك بعاداته التي نشأ عليها في حي القصبة، أو الذهاب إلى حمام بحي البحرية للقاء أصدقائه الرياضيين و الموسيقيين، و عكس ذلك، قد نجد أن تاجرا بسوق القيثارة القديمة يفضل الحمّام الجديد الكائن بحي سان أوجين على الحمّام القديم الموجود بالشارع عبد الرامس العتيق54.

و لا تستنفذ هذه المؤشرات التعقيد الاجتماعي الذي يوسم هذا المكان، إذ لو دخلنا الآن إلى داخل إحدى المؤسسات الاستحمامية المفتوحة لكل أبناء الحي الذين ألفوها، تمكننا الملاحظة من الاعتقاد على أنه فيما يخص النساء، يخضع "صراع الطبقات" بهذا المكان إلى "صراع المواقع"55. و نجد هنا، فضلا عن ذلك دواعي تتكرر دائما لنسج القصص و الحكايات المتعلقة بالحمّام، و هي موجودة قبل ذلك في النصوص المعروفة في الثلاثينات56. و يحدث، أيام وساعات تدفق الزبائن على الحمّام، نزاعا حادا حول المواقع المستحسنة و المرغوب فيها، حيث يتخاصم الزبائن و يتدافعون إزاءها. و يسّوغ ذلك تبعا لدرجة الحرارة الصادرة عن نار الموقد، و للمسافة التي تفصل عن حوض حيث يتم غطس الدلو، و لا سيما الموقع الذي يبعد عن مجرى المياه المستعملة من قبل الجيران، حتى يتسنى لهن تحاشيها و بخاصة و أنه تم تنظيف الفضاء الخاص بعناية فائقة. و يؤشر على المواقع بواسطة الأغراض، و بصف من الدلاء على وجه الخصوص و يتعلق الأمر بالتأشير على إقليم تم الفوز به و الدفاع عنه، و هما عملان يحثان على إقامة سنن علائقي خصوصي، سواء تم التعبير عنه أو لم يتم. و الواضح أن الشخصيات القوية هي التي تفرض نفسها، مثلما يحدث في أي تنافس، حيث لا يختفي أبدا أفق القوة أمام رفعة أدب المعاشرة57.

هل هذا يعني أننا ننزلق من السوسيولوجي نحو النفسي؟ هذا صحيح غير على الإطلاق، لأن هذا الفضاء المفتوح للجميع يظل مضبوطا من الناحية الاجتماعية، و السلوك المعتمد في أرجائه متمايز بوضوح، إذ أن أحسن المواقع تكون من نصيب الباشا آغا ستي، أو إلى لالة حليمة أو إلى السيدة أمباركة، بموجب ما تملكه من صفة اجتماعية مميزة، هذا إذا سمحت اللواتي التي تنتمين إلى هذا المكانة الراقية لنفسها بالتردد على هذا المكان58.

و قد تكون هذه المرأة من عائلة مرابطيه أو من نسل شريف، بينما قد تكون تلك زوجة لأحد الأعيان أو لأحد القضاة. يخصص لها بالضرورة موقعا محددا، حتى و لو أنه يمكن أن تؤدي العادة إلى مثل هذا التقسيم، لكن بمجرد أن تطأ قدما إحداهن هذا المكان، حتى يبادر المستخدمون و تتكيف العاملات داخل الحمّام مع الوضع، لكي تحظى التراتبية بما تستحق من قيمة بشكل آلي59.

و يسري ذلك الأمر على الرجال، و إن كانت درجة حدته أقل بكثير، إذ كان يخصص موقعا، بمدينة ترودانت في جنوب المغرب الأقصى في الخمسينات من القرن العشرين، لإمام المسجد بأحد الحمّامات بأحد الأحياء. و قد تكون هذه الشخصية الاجتماعية التي و رثت منزل أحد الأوروبيين قد هيأت لنفسها بمقر سكناها حجرة حمام60. و لعل امتلاك حمام خصوصي يمنع صاحبه من التردد على الحمّام العمومي، لأنه بوجوده في هذا المكان يقحم وظيفة تَمثُلية تخصه.

و إن كان الاختلاف و الاعتبار يستحسنان أيضا لدى الرجال، فإن إبرازهما مسألة تتعلق، على وجه الخصوص بالنسوة و بشكل كبير. و إذا كان الجنسان يذهبان إلى الحمّام من أجل اسعاد و إراحة الجسد و الطهارة لأداء الشعائر الدينية، فإن النسوة بالمقارنة مع الرجال، يذهبن إليه من اجل العناية بالذات و الاضطلاع بالمكانة. و لا يضيفن، إلى هذه الأسباب النبيلة، المهمة الأكثر جحودا المتمثلة في غسل الأولاد فقط بل يذهبن إلى الحمّام بهدف رؤية الآخرين و الظهور أمامهم، و إن كان العديد منهن لا يقتسمن هذا الانشغال حاليا، فقد تحررن منه بشكل صريح. و يتجلى من ذلك، أن كل العمليات المرافقة لارتياد الحمّام هي مناسبة و مبرر للتمايز، فالمرأة، و هي في طريقها إلى هذا المكان، تسترعي الانتباه بفضل ما ترتديه من غطاء و من حذاء أنيق، من حقيبة أو صرّة ملابس، و ما تبديه من تحفظ أو من عدم التروي. و على خلاف ذلك، أصبحت رائدة الحمّام، منذ مدة تجلب أنظار المارة بما تُبين عنه من جرأة في هيئتها، و في طريقة تنقلها و نوعية مرافقيها. كان يتم ذلك من عهد قريب برفقة الزنجيات من خادمات، و بمعية العائلة بالأمس أو الجيران و الأولاد، أما اليوم فإن التنقل يتم بواسطة السيارة رفقة الزوج، أو لوحدها أو مع الصديقات. قد ظل الاختلاف إلى الآن، داخل هذا الفضاء، يلعب دورا و يُختبر.

و لا يمكن لها أن تمرّ، في القاعة الأولى حيث تنزع الملابس أو تلبس، دون أن تجلب النظر و الانتباه برقّة القماش الداخلي و الفساتين و الحايك التي تلبسها، و جمال المجوهرات و أناقة المساحيق و معدات الحمّام التي تستعملها، و أريج العطور الذي ينبعث منها. كما لا تخفى داخل البيت الساخن بالذات، عدد و نوعية الدلاء المستعملة، سواء كانت مصنوعة من حديد أو من نحاس، و"الطاسات" بلاستيكية كانت أو من معدن فضي، و أيضا قفازات أو أحجار حك الجلد، كما لا يغيب عن الملاحظة الغاسول أو منظف الشعر أو الصابون و مرهم نتف الشعر، و هي كلها علامات يمكن لأية فتاة أن تتحقق من نوعيتها و أن تصنفها بكفاءة61.

و لا توجد امرأة في الحمّام، بعيدة عن اهتمام الأخريات، فهي تلفت النظر بسبب شخصيتها، أو بسبب طريقة تموقعها ضمن ثلاثية الأدوار (فتاة، أم الزوج أو الزوجة) أو بسبب تمايز المكانة، كما يتعذر أن لا يسند أي شيء أو يقرأ أي سلوك تقوم به المستحمة من منطلق ما تتبوأ من مقام و ما تستجلبه من مداخيل، و حتى عندما توجد الحمّامات الأكثر تواضعا و بساطة في الأحياء الأكثر فقرا، فإنها لا تفلت من التفاوتات المميزة للعالم الاجتماعي و تسهم في إثارة "الطبقات الدنيا" و استرعاء نظرها.
ريفيات وحضريات، دزيريات و وهرانيات

ظل الحمّام في اشتغاله الدائم على تمايز الأماكن و السلوك و المكانة، يخضع إلى الآن، لمسار معقد لمثاقفة متواصلة بحكم الهجرة الريفية و ترييف الحمّام، و لكن، أيضا بسبب الحركية الاجتماعية، الجهوية و الحضرية التي تحث على ذلك وتعيد صياغة هذا المسار.


مدرسة الحمّام

تتمايز الحضريات الجديدات، اللواتي تذهبن بصورة دورية إلى عائلاتهن الأصلية و تصبحن متميزات بما ترتدينه من ملابس، بالعدة الخاصة بالحمّام، إذ ترتضين بحمام القرية إن و جد، إذ يمثل بالنسبة لهن بعدئذ، مكانا فظا وخشنا. وهن بذلك يعكسن تجاربهن الخاصة، أي عندما تحلّ القرويات بالمدينة وتستقرن بها، فهن مدعوات لارتياد الحمّام، إذا أردن الاندماج بسهولة في الحي. إذ تُجبر القادمات حديثا إلى المدينة على احترام الأعراف و العادات التي تميز بنات البلاد (أي فتيات المدينة)، على الرغم من ادعاء الوافدات أو عدم ادعائهن الانتماء إلى مقام اجتماعي معين، أو ديني (مرابطي)، أو اقتصادي مميز (كأن تكون المرأة زوجة تاجر صغير أو موظف صغير)، وحتى و إن تعلق الأمر باللواتي تحضرن في فترة قريبة جدا. تظل اللواتي قدمن إلى المدينة منذ مدة بعيدة تحافظن على سلوك بسيط ومسنن قليلا، و بذلك تُسهمن في إعادة التوزيع الحضري لتراتبية جديدة للأماكن ولسجل جديد للتصرف.

و إن تميزت الصدمة بالقسوة أحيانا، فإن المسار ليس متطابقا في كل الأحوال، إذ أنه يتغير حسب أشكال الهجرة و الثقافات المحلية و الجهوية. فالنساء المنحدرات من منطقة "القبائل الصغرى" و بما فيهن الشبات المتعلمات و الحاصلات على الشهادات، و اللواتي تشكلن عددا نادرا ابتداء من الحرب العالمية الثانية، اضطررن بمدينتي برج بوعريريج وسطيف، الى ارتداء الحجاب و البقاء في المنزل و تبني السلوك المحلي المهيمن في الحمّام62. أما في العاصمة و خاصة بعد الحرب العالمية الأولى نجد أن العائلات القادمة من منطقة "القبائل الكبرى" قد تواجدت بعدد كبير بحي القصبة، أما اللواتي و فدن من جبال الجرجرة فإنهن تكيفن مع بروتوكول جسدي و ثيابي أكثر صرامة و تلطفا. بينما تختلف المسألة بالنسبة لحديثات العهد بمدينة وهران الوافدات من المراكز الصغرى من منطقة ملاته، أومن الدواوير الموجودة في السهل الكبير أو من الزمالة (عشائر المخزن القديمة)، باعتبار أن ارتداء الحجاب و العزل المنزلي قد حدثا من قبل، أي خلال الهجرة السابقة من الدوار إلى القرية. و بالمقابل، فقد قمن بالتكيف مع شكل ملائم من أجل الإسهام الذاتي، في اقتصاد جسدي أقل صرامة و في أجواء أكثر تحررا. و لم يعدّ التقدم، الذي أحرزته حركة الإصلاح الديني التي كانت واضحة منذ سنة 1936 وأكثر جلاء منذ سنة 1945، النظر في هذه الممارسات، كما لم يرجعه النظام الأخلاقي الذي نتج عن حرب الاستقلال و أُعِيد نشره من جديد بعدئذ. كانت الدزيريات، في السبعينيات من القرن العشرين يتفاجأن و يشعرن بالعار، لمّا يشاهدن الوهرانيات الشابات يتنقلن بلا مراسم مثل حواء في أقصى درجة حرارة حجرة الحمّام. و في الواقع، فقد شرعت هذه النسوة في تنظيم عادات و أساليب التعامل الاجتماعي و سعين في ادخال تكيفات لاحقة، و إن شكل الحمّام مدرسة بالنسبة للفتيات، فإن مناهج تعلمه تبقى مع ذلك مختلفة و تتغير حسب الأزمنة و الأمكنة و مع مرور الأجيال. و سواء بالنسبة للقرويات أو للحضريات فالحمّام إذا، ليس اختبار أو ممارسة تنتهي بانتهاء المماثل و المطابق.

رجال و نساء : دين، جنس و سياسة

تبنت "المجتمعات العربية" كغيرها من "المجتمعات السامية" أسلوبا للتفريق بين الرجال والنساء و هو الأمر الذي يجعل هذه المجتمعات قريبة من الثقافات المتوسطية اليونانية و الرومانية، التي كانت تحبس الجنس اللطيف في الحريم، لكنها تبعد عن هذه الثقافات كثيرا في العلاقة التي تقيمها مع الجسد و العري.

و في كل الأحوال فقد طُرحت مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية و المادية و الرمزية. و هوما يدفعنا للتساؤل حول موقف الديانة الإسلامية في البلدان المغاربية من هذه الأمور؟. و إن ارتبط الدين بالجنس، في حقيقة الأمر، بسبب أن مبادئ العقيدة و الشعائر تتم صياغتها و تأديتها من قبل الرجال حصرا. فماذا عن النساء المغاربيات و عن دخولهن المتعاقب و المقيد لأماكن الجسد و أماكن العبادة؟

الواضح ان الكنيس أو المسجد غير ممنوعين على النساء، لكنهما يظلان بالأساس صرحين خاصين بالرجال، حيث يتم الإبعاد بين الجنسين بعناية فائقة. و لا تملك الأمهات و الزوجات أي سبب للتوجه إليهما خارج أوقات الصلاة، و هي الفترة التي يسمح بوجودهن، شريطة أن تبقين، في المسجد على الأقل، خلف بساط يفرقهن عن الرجال أو يخفيهن عنهم، بسبب أنهن يزعجن : فلا بد أن يبقين محتشمات و حتى متواريات عن الأنظار. و خلافا لذلك نجد أن الكنيسة تظل مفتوحة لهن، و بخاصة خارج صلوات الطقوس. و أفضل من ذلك، فإنها تشجع مشاركة الزوجين في الشعائر، في شكل من أشكال التذكير بالعلاقات الزوجية غير القابلة للفسخ، و لو، أن في ظل هذه الديانة، هناك بعض الاختلافات التي تتميز بالتزمت أو بعض العادات المحلية التي بإمكانها أن تفرق بين الجنسين : صف للرجال وصف للنساء. و هو الأمر الذي يجعلنا لا نتصور، حقيقة، قيام صف للرجال يؤدون الصلاة خلف صف للنساء أو أمامهن في المسجد، و إن شكل ذلك الأمر استثناء في فترة الحج. و لا شك أن الكهنوت وظيفة مخصصة للرجال، مثل الحاخامية و الإمامة، لكن المسيحية، خلافا للديانتين التوحيديتين الأخيرتين، تشتمل على الراهبات الحبيسات للدير.

و تقدم الديانات الثلاث، العديد من النماذج النسوية اللواتي برزن على المستوى الممارسة الصوفية و التبشير الاجتماعي، لكن الاستثمار في مثل هذه الأدوار من قبل النساء يبرز بشكل متواتر و بشكل قوي في الجانب المسيحي، و لكن حتى في هذه الحالة الأخيرة، فإن الدين، يبقى مع ذلك، مسألة تخص الرجال. و يعود ذلك إلى أن تسيير المقدس يتعلق بالقانون و النظام، و هما مفهومان ذكوريان بأرفع مستوى. تبدأ مراقبة الفوضى المحتملة و المرتبطة بالجنس و الرغبة، بممارسة السلطة داخل الزمرة العائلية، و هي عملية تقع في صميم مسألة لا تميز بين النظام البشري و النظام الإلهي، و حتى و إن كان من المسلم به أو من الضروري التمييز بين الله و القيصر.

بدأت الأمور تتغير في المنطقة المغاربية منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، تحت الضغوطات المترافقة للدنيوية الحضرية، و التنشئة الاجتماعية المدرسية و الإصلاحية الدينية المستلهمة انطلاقا من القاهرة و المتأثرة بتعاليم الشيخ محمد عبده63. كما تغيرت الأمور في أبعادها بعد الحصول على الاستقلال، و خاصة بعدما شهدته هذه البلدان، و في الجزائر على وجه التحديد، في العقدين الأخيرين، من تمدرس شامل بتأثيراته المؤجلة،64، حيث شهدت العلاقة القائمة بين النساء و الشعائر و أماكن العبادة تحوّلا عميقا، و لا سيما بعد صعود الحركات الإسلامية في السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي، في الجامعة في البداية و انتقالها فيما بعد إلى جزء هام من الطبقات الشعبية الحضرية و تحوّلها إلى حركة شعبية بعد سنة 1988. إذ قادت هذه الحركة الفتيات المتحجبات إلى التظاهر في الشارع، و إلى الملاعب الرياضية أيضا، كما شجعت الولوج الواسع أو بالأحرى الكلي للمسجد من قبل النساء، و إن تم ذلك في إطار مراقبة صارمة. و يقتضي ترتيل النص المقدس و التقيد بالشريعة، ذهنا متيقظا و واعيا أو بالأحرى عالما، حسب تصورات الإصلاح الديني. و لذا كان الجيل الجديد، الذي استفاد من التمدرس الواسع في لغة الضاد (حرف متميز و مقدّر في حروف الهجاء الخاصة باللغة العربية)، بإمكانه أن يقرأ مباشرة القرآن الكريم، مجددا بذلك المبدأ الأولي للديانة الإسلامية القائم على العلاقة التعبدية مع الله دون وساطة، غير أن فضاء الكُتّاب و الشعائر الدينية ذو الامتياز يبقى مكانا ذكوريا بالأساس. و بطبيعة الحال فإن تراجع الضغط السياسي للحركة الإسلامية لا يعود بالبلدان المغاربية إلى حالة الأوضاع السابقة، بل بالعكس، فإنه يفتح الباب أمام إعادة تحديد مسالمة للممارسة الدينية و إلى شكل جديد من أشكال انخراط النساء في المجال الديني. و على الرغم من تواجد نسوي أكثر ضمانا و أكثر كثافة بالمسجد، فإننا لم نشهد بعد أسلوب للتكافؤ بين الجنسين في استغلال وظائف المسجد.

و عكس ذلك، أي بالحمّام، حيث تمتلك النساء كليا هذا المكان، و قد أصبح ذلك يطرح مشكلا، بحكم تحوّل الحمّام من جديد إلى رهان للمراقبة و للسلطة داخل الجسد الاجتماعي. و لهذا السبب، فقد تحفظ الرسول (ص) قبل ذلك بشكل كبير – كما يبدو- على ذهاب الرجال إلى هذا المكان، و قام بتحريمه على النساء65. و لا شك أن هذا الحديث قد يكون غير صحيح، أو أن التأثير القوي للماء و جاذبيته في هذا الصرح، أصبحا ضروريين للنساء. و مهما يكن، فإن التحريم لم يتصدر و لم يحظ بالانتصار في هذه الحالة، على الرغم من الارتياب الذي يشعر به المتزمتون من المسألة. و لذا ندرك لماذا جعل الشباب الراديكالي التابع للإسلام السياسي، منه مبررا قويا لمعركتهم، كون أن ارتياد الحجرة الساخنة تصطدم بتصوراتهم حول الجسد و تعيق تسييرهم للجماعة بواسطة الجسد. و من هذا المنطلق، أفتت الجماعة الإسلامية المسلحة بمدينة الجزائر سنتي 1994-1995 بتحريم الذهاب إلى الحمّام و أقدمت بإطلاق الرصاص على إحدى الحمّامات.

و قد جرى ذلك في ظل تجاهل تام لمقاومة النساء، و حتى وإن كن من المتعاطفات مع الجبهة الاسلامية للإنقاذ، فقد قاومن مصادرة حقهن في هذا الفضاء الذي أحرزن امتلاكه منذ البدء، كما تم تجاهل الطابع العادي – لكنه حيوي – للعناية بالجسد في ظل مدينة تعرف مثل باقي المدن الأخرى انقطاعا في التموين بالماء. إذ نتجت آثارا سلبية عن توظيف الشريعة (قانون ديني يفترض أنه غير قابل للتعديل) من قبل المناوئين الجدد الذين يشددون الحراسة على كل شيء.

ربح هؤلاء معركة الحجاب، و هي أساسية في نظام العلامة، لكنهم خسروا معركة الحمّام، و هي معركة مصيرية تخص الجسد في قدرته على الجمع بين الحميمي و الاجتماعي، التحكم في الذات و مراقبة الفضاء العمومي.
التأكيد الأنثوي و الاهتمام بالذات

ينخرط الحمّام إذا، في نظام يرتبط بعالم مضطرب، يخضع بدوره لإعادة مساءلة جديدة. و هكذا يتحوّل الحمّام إلى رهان اجتماعي، من الناحية العملية و الرمزية، و يتوقف عن كونه يُختزل إلى موضوع مبتذل و مرتبط بالنزاع العائلي، إنه يحيل، بالنسبة للنسوة، على إعادة تحديد لأدوارهن و مكانتهن، بدءا من التحكم الاجتماعي في الجسد، ضمن نشاطه السيميائي و حركيته، بإحساسه و بحركته الحسية. كان ارتياد الحمّام عاديا منذ عدة قرون، لكن قوته الإدماجية لعادات و لطبع القاطن للفضاء الحضري، قد جعلت منه عرضة للانتقادات في أوقات الأزمة. إذ أن الحمّام كان غير مرئي منذ مدة طويلة، في ظل الأداء اللامعكوس الخاص بالتحولات الاجتماعية، إلا أنه قد أصبح يشكل فجأة قضية لكونه يقع في صميم التمثل المعياري للتصنيف بين الرجال و النساء. فأضحى الحمّام مزعجا، أو بالأحرى غامضا، بموجب قدرته على إعادة بناء عالم للنساء يتمتع بحرية و باستقلالية كبيرتين.

ترتبط صورة الحمّام و كذا التوجه إليه، و بدرجة عالية، بالفكرة التي يحملها الرجال (أو تحملها ديانتهم) عن النساء، و ما تحمله هذه النسوة من فكرة حول النظرة الذكورية لهن، و خاصة بالوعي، الذي يزداد احتدادا مع الوقت، عن ذواتهن. يمسّ، تصوّر الجسد و ممارسته، و أيضا تمثلات و استعمالات المكان، المكانة الاجتماعية للمرأة و بدرجة متكافئة رغبتها، و يهمّ ذلك هويتهن الفردية و الاجتماعية، على وجه الخصوص.

باشرت النساء في العالم الريفي، و على غرار الرجال، منذ قرن، بالتنقل بشكل مختلف إلى الأماكن الأخرى66. فقد ظلت النسوة معنيات بالحج (إلى مكة المكرمة) منذ السبعينات على وجه الخصوص وإن شاركن دائما في المواسم، و هي محاج تقديسية و احتفالية لقبور الأولياء. كانت تلك الزيارات راسخة في الثلاثينيات و الأربعينيات في الجزائر، و في الستينيات و السبعينيات في المغرب الأقصى. و إن كانت النسوة لا تزلن متمسكات بالتحفظ في تصرفاتهن في السوق غداة الحصول على الاستقلال، فهن متمسكات إلى الآن، بالوفرة خلال الحفلات العائلية (الأعراس، الختان)، و التي ينتقلن بمناسبتها إلى أبعد مكان بفضل فعالية وسائل النقل. و كانت تعنينهن بالدرجة الأولى، إعادة الهيكلة المكثفة التي شهدها العالم الريفي القائم حول المدن الداخلية الصغيرة و حول المراكز الكولونيالية. و إذا كان الحمّام يقبل إليهن في القرية، ففي المقابل كن يذهبن إليه بالمدينة حيث يستقر الأقارب67، و حيث يتحققن بدقة من التحولات المدهشة و الكبيرة، التي تحدث بالمدينة. و قد مسّ أنداك ،التغيير و التحوّل أشياء كثيرة، و منها أشكال و أماكن و أزمنة العمل، و ظروف السكن و التنقل و الإقامة، و أساليب الترفيه و كيفية ممارسها، و مكانة ودور المرأة، و قد تمّ ذلك، بخاصة في الفترة الكولونيالية، كما اشتدت و تعمقت هذه التحولات على أكثر من صعيد بعد انبثاق الدول الوطنية (1950-1960).

لم يحدث تزايد العمل المأجور في المدينة تأثيرا خفيا على ايقاع الحياة اليومية للنساء فحسب، بل كان تأثيره عميقا، بحكم تقيّد الرجال بضرورة احترام الوقت من خلال برامج و ساعات العمل. كما تم احكام هذا الإيقاع بعد الحصول على الاستقلال، للتوافق مع انتظام الأطفال المفروض من قبل المدرسة، الأمر الذي جعل البرنامج الزمني لاشتغال الحمّام و كذا الذهاب إليه يأخذ دلالة مختلفة، و بشكل مفاجئ لدى النسوة

طبعا، ظل الأزواج، الآباء و الإخوة يذهبون إلى الحمّام أو يعودون منه، كما يشاءون، بسبب أن الذكور غير ملزمين بتقديم الحساب لأي كان، سوى للتراتبية الداخلية الخاصة بهم. و مع ذلك ظلّ يفرض العديد من الأزواج على زوجاتهم طلب الترخيص قبل الذهاب إلى الحمّام. و تظل المراقبة الأسرية الواسعة و المتعددة العلاقات، للنسوة، و للفتيات و هن في طريقهن إلى الحمّام، أو إلى المدرسة، ممارسة يقوم بها الصبيان بوصفها "عملية تمسّ الشرف"، و تحرز هذه العملية أو اللعبة الخفية بين الأزواج و النساء، الإخوة و الأخوات تقدما في المعاملات من خلال بعض الحيل الصغيرة و البريئة و المرونة في التبادل. و أفضل من ذلك، فقد باشرت الكنائن في مدن مثل تونس و الجزائر و وهران و الرباط، في التخلص من مراقبة أم الزوج، و لا سيما و أن البون قد ازداد اتساعا أكثر فأكثر بين الأمهات و البنات من حيث المكانة، و بتواطؤ بينهن من أجل اكتساب استقلالية جديدة. و بحكم أن الأمهات كن، بالمدن الكبرى، أميات، باستثناء أقلية صغيرة و"عاطلات عن العمل"، ماعدا الفقيرات منهن، نجد أن البنات، حتى اللواتي ينحدرن من أصول بسيطة، يملكن الآن، نشاطا مؤجرا.

إذ تذهب الفتيات منذ الستينيات من القرن الماضي و على الأقل بالمدينة، إلى المدرسة العمومية للتعلم، كما تشتغل الكثير منهن، في انتظار الزواج، و قد تحصلن إثر ذلك على مستوى معين من الانعتاق والتحرر بفضل المؤسسة المدرسية. و عليه قامت الفتيات والنساء بالاستثمار في التعليم الجماهيري، و لو أن الفجوة القائمة بين الحرفة و الشهادة تظل كبيرة بالنسبة للأخوات و أيضا بالنسبة للإخوان. و فعلا، فقد اكتسبت المرأة، داخل العائلة، مكانة غير مسبوقة تمنحها لها المعرفة و الأجرة، و هو أمر كان مقتصرا، منذ مدة، على الرجال. و يمكن القول أنه خلال أقل من عشرين سنة، قد فرضت ثورة اجتماعية و ثقافية نفسها، مما تثير ثورة أخلاقية مضادة، أو "ثورة محافظة" أفصحت عن نفسها بواسطة التزمت الجديد و الحركة الإسلامية الجذرية68. و إن لم يُنتج هذا تحولا آليا في ممارسة الحمّام و كذا آدابها فإن مكانة هذا المقام قد تعرضت للضرر، حيث مسّ التغيير كل شيء، في ظرف قصير. كانت الأمهات تذهبن إلى الحمّام تحت المراقبة و الإكراه، ونجد اليوم أن بناتهن، حتى و إن كن عازبات، يتوجهن إلى الحمّام دون استئذان أحد، وأحيانا لوحدهن، و غالبا مع صديقاتهن. كانت الطالبات بالمدرسة العليا للأساتذة، في السبعينيات من القرن العشرين، تلتقين في مكتبة الأفلام، و أيضا في الحمّام، و ليس بالضرورة ذلك الحمّام الذي تذهب عادة إليه العائلة، حيث تواجهن مراقبة الأولياء و الآباء ضمن أسلوب واضح و شفاف و محكم بين الأقارب و الجيران، لكنهن يقبلن على ذلك الحمّام الذي تم اختباره بصفة شخصية لكونه مكان للمواعيد و للراحة69.

كما تغيّرت أيضا الممارسة "لما بعد الحمّام"، إذ يتم تمديد هذه الفسحة لتتجاوز بساطة الفرح العائلي و حسن الحوار، التي تجعلها ممتعة أخبار الحي و مشاريع الأقارب في الزواج، بل يتعدى ذلك إلى نقاش حر حول أحداث الساعة و تبادل الآراء حول موضوعات متنوعة، و يشكل أيضا البوح بالأسرار و الحديث عن المشاكل الخاصة و الحميمية.

إن الحمّام الذي كان بالأمس مكان يجتمع فيه الأقارب و الجيران، تمّ تعوّيضه اليوم بوظيفة أخرى تتمثل في لقاء الصديقات و الزميلات.

و كما يبدو، فإن الأمر لا يعدو أن يكون فقط إدماجا للحمام في المؤانسة الاجتماعية الجديدة الخاصة بالترفيه، و الملائمة للتعميم الجماهيري المتزايد لعادة تناول الطعام في الغابات و الحدائق، و الذهاب إلى الشواطئ، أو تضاعف مقاهي الشاي و القشدة70، بل بوضع معالم جديدة ضمن مجتمع العصر و ببناء فردانية أصيلة.

يظل الذهاب إلى الحمّام بالنسبة للجيل الجديد من النساء، اللواتي عرفن المدرسة بشكل كثيف و اندمجن في عالم الشغل المأجور منفذا، لكن هذا الخروج إلى المؤسسة الاستحمامية قد اتخذ معنى جديدا. إذ أنه لم يعد ذلك الملجأ لمسار مقيّد بمجموعة من العلامات، و المحكم بالتحريم و المسيّر بالاحتشام. كما لم يعد الحمّام. يمثل تلك الوقفة السعيدة لمسلك ملزم يجبر نساء الحريم للبقاء في التحفظ الثلاثي، للحمام و للمقبرة و للضريح. ظل الحمّام يحافظ على المتعة التي ميّزته منذ زمن مضى، لكنه اتخذ أسلوبا آخرا في تجلّيه لدى النسوة، اللواتي، على الرغم من تميّز العملية الاستحمامية بفضائل مزيلة للإرهاق المتراكم لديهن بسبب الالتزامات الثلاثية، العائلية و المنزلية و المهنية المتكفل بها من قبلهن. و لهذا يشتد لديهن جانب التعويضي و اللهوي للحمام71، تعيد، بواسطته، النساء تشكيل الحياة الأنثوية، و المجتمع النسوي، بابتكارهن لنشاطات جديدة أو بتكيّفهن لإجراءات قديمة خاصة بجنسهن.

يجعل الحمّام النشاط غير الرسمي للسوق الذي يتكاثر في الساحات و الشوارع يمتد، إذ ينخرط مثل الفجوة في دائرة إعادة البيع بالتجزئة و التجارة الموازية للذهب و النسيج، هذا من جهة. و من جهة أخرى، نجد أن هذا الفضاء يلائم ملائمة تامة للعناية بالذات، بتوفيره للحظة و للمكان حيث التمتع بالوقت و للشعور بالذات و للالتقاء بالأحباب. ينفتح الحمّام، بوصفه مكانا لتجديد الممارسات النسوية الجماعية، و كذلك لاستقلالية أكثر جلاء للذات و تُبّث ضمنه، قيم الاستعمال و التبادل، كيفية اندماج أصيل بين المتعة و السوق، في ظل ضغط غير مسبوق بين الحرية و الإكراه. يرافق الحمّام بطبيعة الحال، حركة المجتمع، و دون أن يكون خاضعا، مثل الأمس، إلى نظام الاختفاء، إنه ينفتح على أماكن أخرى خاصة بالأنثى، مثل قاعة الحلاقة، و محل الأزياء و قاعة الرياضة. و هكذا، فإن إصلاح الذات الأنثوية بواسطة الجسد، في الحمّام و عن طريقه، تُدعم دخول النسوة في فضاء عمومي أُعيد تشكيله من جديد، و لا تحضرهن للانزواء خارج الحياة الدنيوية، و إنما تُعدّهن لاجتياز هذه الحياة بشكل تام.

يثبت الحمّام، إذا أخذناه في ديمومته الطويلة و ضمن المجال الجغرافي الأوسع، و على قياس الأطر الأنثروبولوجية لحضارة ما، قدرته على عبور خمسة عشر قرنا من التاريخ. استطاعت الحضارة الإسلامية بدءا من الأمويين و مرورا بالعثمانيين من إعادة ابتكار نموذج استحمامي يتكيّف مع عقيدتها و شعائرها انطلاقا من النظام الاستحمامي الإغريقي و الروماني العتيق.

يبرز الحمّام في الدول المغاربية، إذا حددناه بالفضاء الضيق للمجموعة الجهوية ذاتها و للزمن القصير المفعم و العنيف للتاريخ المعاصر مع ذلك، قدرة مذهلة للمقاومة بوصفه واسما هوياتيا، و أيضا للتطور بوصفه براديغما اجتماعيا، دون أن تُفرض صيغة واحدة بالذات في كل أطراف هذا الاقليم. كما برهنت هذه المؤسسة الاستحمامية بالمغرب الأقصى على حيويتها المتميزة، إذ كان سلطان الشرفاء – على ما يبدو– المكان الجدير بالامتياز للقاء الذي تم بين ثقافة الماء البربرية و النموذج الأموي للحمام، و كذلك الفضاء الذي حافظ على هذه الميزة. وأسهمت قوة منطقة الأطلس و القرب من مدينة غرناطة من تثبيت تشكيل استحمامي أصيل، و مناسب لتركيب دائم بين الحمّام المغاربي الحضري و بين الحجرة الساخنة الريفية التي لا تُختزل في المنبع الطبيعي الساخن، و هذا بعيدا عن التصور المشترك للمجموعة الإسلامية المتوسطية. كما توطت ثنائية ريفية - توفيقية ومدجنة – على شكل السيقني (signi) والحمّام الصغير، غير المعروف في البلدان المجاورة، كان ذلك عبر ديمومة طويلة حول مدينة مراكش، ودون أن يتعرض للضرر قبل الربع الأول من القرن العشرين من قبل التقدم الذي أحرزه النموذج الاستحمامي الحضري. و إن كان هذا الأخير أي التقدم يمارس نفوذا حقيقيا على الأقاليم الأكثر ترّيفا في البلدان المغاربية، فإن الحمّام المريني العتيق لا يزال يتمسك بالمدينة القديمة دون أن يهجر الحاضرة، مثلما يحدث بالرباط.

و الشيء ذاته نجده بالجزائر، لكن بشكل مختلف، أي بعد إدماج واضح للحمام في إطار نماذج التراكم الاقتصادي ذي الاعتبار لدى الطبقات الوسطى الجديدة في الريف أو في المدينة، التي برزت قبل و بعد الحصول على الاستقلال. و عرف المدّخرون البسطاء الذين تحوّلوا فيما بعد إلى مقاولين صغار، كيف يرافقون توسّع النموذج العمراني العتيق بالاعتماد على المراكز الكولونيالية و الأحياء الريفية الكبيرة بوصفهم محطات تعاقب و تبادل بين العشائر القديمة و"القرى الزنجية"، إلا أنه و في العقد الأخير، برز توتر حاد بين مقام الجسد و مقام العبادة، و قد سمح ارتياد الحمّام في الوقت ذاته بتدعيم إعادة الانتشار للذات الأنثوية و لتأكيداتها.

و في المقابل، ظل الحمّام في تونس مرجعية حضرية أساسية. كان، في الحقيقة، صناعة مرهفة و فاخرة خاصة بالمدينة الحفصية، بمسجدها الجامعة، أو تلك التي برع فيها الدايات المراديون و الحسنيون، كالمقهى، في جهة من الجهات المغاربية التي تتميز أكثر من غيرها بأدب المعاشرة العريق الذي تعاقب في ظل سلطان الواسع للقياصرة و للخلفاء، دون تجاهل ما قدمته بيزنطة في هذا المجال، مما يدفعنا إلى الاعتقاد أن ما يجعل الاهتمام بهذا المكان في هذه المنطقة يملك دواع فكرية و ثقافية الأكثر تميزا، إذ نجد أحد التونسيين، و هو الأول، الذي سلط الضوء على الحمّام من وجهة نظر علمية و بقي الوحيد يدرس هذا الحقل ولمدة طويلة. كما قام تونسي آخر، و هو سينمائي، بنقل آلة تصويره إلى حميمة الحمّام، مصوّرا بذلك التيقظ للجنس من قبل طفل يقطن بحي حلفاوين الشعبي72، و خصصت أيضا مجموعة من الفنانين التونسيين أغنية لهذا المكان، تضمنت مجموعة من الحكايات و القصائد المستلهمة من مؤلف أدبي خصصه أحدهم للحمام و هو رسام على الخشب73.

لبث الحمّام في البلدان المغاربية الثلاثة، فيما بين "الفترة السعيدة"، أي مطلع القرن العشرين، و الانهيار المصرفي لوال ستريت، و هي الفترة التي بلغت فيها السياحة الكولونيالية ذروتها، إذ بقي الحمّام مؤسسة ذات اعتبار لدى رواد السوق و تجاره و كذلك لدى رجال الدين و الثقافة البسطاء. و بحكم توازنها و تمتعها بالحس الوظيفي، ظلت هذه المؤسسة تستجيب للحاجيات الأساسية للطبقات الاجتماعية الأكثر شعبية، أي عامة الأمس و الفئات الاكثر بساطة في العصر الراهن. توفر ممارسة الحمّام للبعض حرفة و للأخرين خدمات، باعتبارها ممارسة "طقسية" و مبتذلة، فاتنة و عادية، كما تمنح للجميع فضاء للفرح و للاجتماعية، و لا يزال هذا الأمر ساريا في أيامنا هذه، لكن كل شيء تغيّر. و إذا صمد الحمّام، في البلدان المغاربية، و على الأقل في الجزائر و في المغرب الأقصى، أكثر من غيره في البلدان المشرقية، للصدمة المزدوجة للاستعمار و لنزع الاستعمار، و إذا واصلت ممارسة الحمّام غايتها في تعزيز حيوية الحي و في تضامن سكانه، فإنها تبحث عن توازن جديد بين الجنسين، خارج أطر المدينة القديمة و السوق، و عن أسلوب آخر في إقامة العلاقات بين الأعمار و الأجيال، و عن تكامل غير مسبوق بين المدنس و المقدس.

يتوصل الحمّام المغاربي مرة أخرى إلى التكيّف مع تحدي الحداثة ذاته، و في امتلاكه، بحكم أنه أي الحمّام مكان للماء، للجسد و للطقوس، و فضاء اقتصادي، اجتماعي و ثقافي. و لكن إلى متى يظل كذلك؟ قد تأخذ تونس طريق الزوال الذي عرفه الحمّام المشرقي، بوضع شكل من أشكال الامتلاك المتحفظ لهذه المؤسسة، أي تصنيفها ضمن التراث الثقافي، ليس إلا. أما في الجزائر، على عكس ما سبق، حيث صمدت النساء من خلاله للتحدي الإسلاموي، فيظل الحمّام مجالا حيويا تتوافق ضمنه الحاجة و المتعة، و حيث يُبتكر بناء الذات الفردية داخل الجماعة التي يُعاد صياغتها من جديد. و في هذا الإطار، نجد المغرب الأقصى الذي عمق بشكل نشيط إعادة امتلاكه لممارسة عريقة، أنعشتها الحيوية التي تميّز مدينة الدار البيضاء، و دفع بها إلى الأمام إصرار المقاولات و كذا البحث دون عقدة عن صيغة استحماميه جديدة و حديثة لثقافة عريقة من خلال جعلها تتوافق مع ذوق العصر. فالاختلاف المغاربي هو تمايز مغاربي أيضا، يبحث ضمن إعادة ابتكار المكان عن توازن جديد لرباط الاجتماعي.



1 و يشمل هذا الاعتقاد بعض الطلبة المتقدمين في أبحاثهم و العديد من الزملاء الجامعيين و أولئك الذين يدرسون العلوم الاجتماعية أيضا، إذا يتجاهل أو يتناسى هؤلاء جميعا، اسبقيه الرومان في هذا المجال. يستدرك البعض هذا الخطأ ويصححه، إلا أن الإجابة العفوية حول هذا الموضوع تدل على شيوع هذا الاعتقاد الخاطئ.

2 Sourdel-Thomine, J. (1954), Hammam, Encyclopédie de l’Islam, p. 142-147.

3 على شكل قصص ألف ليلة و ليلة، و هي قصص أدبية أخذت عن النموذج الهندي وتمت إعادة صياغتها.

4 Vigarello, G. (1985), Le propre et le sale. L’hygiène du corps depuis le Moyen âge, Paris, Le Seuil.

5 Millet, L. de Tunis (1950), « Les hammams de Tunis », Bulletin économique et social de Tunisie, 36, p. 63-70 ; ibid., 37, p. 65-73.

6 إن اسمه يدل عليه كثيرا أو يتعلق الأمر بالغطس، و ليس الغسل فقط. و يحيل جذر الكلمة إلى عملية التسخين، أي الغسل بالماء الساخن.

7 Cité par Rothberg, A. (1987), Rôle et fonction du hammam en milieu urbain et rural marocain. L’exemple des Oules M’ta, thèse de 3e cycle, Paris, EHESS.

8 مع التحفظ، حيث أن المسلم المغاربي قد يجمع في مكان واحد مدنس، لكنه ينفتح على المقدس، ما لا تقبله الديانة اليهودية في المنطقة المغاربية، باستعمالها للحمّام من أجل المتعة المدنسة و الميكفهmiqveh للشعائر الدينية. و للاطلاع أكثر على انتقال طقوس الحمّام عند اليهود المغاربيين بباريس في الستينيات، ينظر إلى الدراسة الجميلة التي قامت بها:
Hidiroglou, P. (1996), « Du hammam maghrébin au Miqveh parisien », in Journal of Mediterranean, 4, p. 241-262

9 Douglas, M. (1971), De la souillure. Essai sur les notions de pollution et de tabou, Paris, Maspero.

10 Bouhdiba, A. (1972), La sexualité en Islam, Paris, PUF, p. 212, du même auteur, (1964), précisément, consulter l’article intitulé « Le hammam », in la Revue tunisienne des sciences sociales, 1, p. 4-14.
و في هذا النص التأسيسي الذي بقي لمدّة طويلة يحتل المشهد البيبليوغرافي بوصفه صيغة نادرة، يضفي عالم الاجتماع التونسي على هذا المكان المتواضع لأول مرّة طابع التميز في مجال البحث، إذ يجعل منه موضوعا جديرا بالدراسة، و يوظف علم النفس التحليلي في دراسته المذكورة

11 Raymond, A. (1969), « Les bains publics au Caire à la fin du XVIIIe siècle », in Annales islamologiques, VIII, p. 729. Sur les soixante et onze bains recensés pour cette période, moins de vingt étaient encore en activité en 1969. Voir Pauty, E. (1933), « Les hammams du Caire », Ministère de l’Education nationale, Mémoires publiés par les membres de l’Institut français d’archéologie orientale du Caire, Le Caire, t. LXIV.
إن التحديث "الهوسماني" للمدينة، أو على الأقل للمدينة القديمة، الذي قام به وأشرف عليه بالتتابع كل من الخديويين و كرومرCromer لا يكفي لتفسير هذا الانهيار الذي عرفته الحمّامات.

12 Terrasse, H. (1950), « Trois bains mérinides du Maroc », in Mélanges William Marçais, Paris, Maisonneuve, p. 319-320.

13 Ibid., p. 319.

14 لم تعرف أفريقيا الشمالية مدن عملاقة على غرار مدينة بغداد و مدينة القاهرة، و ينطبق ذلك أيضا على الفترة التي بلغ فيها الموحدون مجدهم بمراكش، و لا نتحدث في هذا الصدد عن مدينة أشبيليه الأندلسية. ففي هذه المنطقة لا يمكن التفكير في بناء مسجدا مركزيا يرفع التحدي الذي تمثله كنيسة سيكستينSixtine الصغرى، و على عكس المعماري سينان الذي كان همه تجاوز كنيسة القديسة صوفيا Sainte-Sophie، إن الأمر كان يتوقف في أفريقيا الشمالية عند الأناقة الرزينة التي كانت تميز مدينة فاس المرينية أو مدينة تلمسان الزيانية و العواصم الشريفية و الحفصية. و لا يتجاوز الأمر شكل الهيمنة الفخمة التي برزت من خلال قلعة المماليك و قصر طوب قابي للسلطان الأكبر، و هذا على الرغم من المظهر الجميل الذي كان يميز المدينة المحرمة للقصور السعدية.

15 Dakhlia, J., Valenci, L. (1991), Communication au colloque « Soliman le magnifique », Paris.

16 Marçais, W. (1928), L’islamisme et la vie urbaine, Paris, Institut de France, Comptes rendus de l’Académie des belles-lettres et inscriptions arabes. Repris dans Articles et conférences, Paris, Maisonneuve, 1961, p. 66-67.

17 Sourdel-Thomine, J., « Hammam », art.cit,. Marçais, W. L’islamisme…, op.cit.

18 لم ينتبه وليام مارسي للدور المركزي الذي تلعبه المقهى في الحياة الحضرية الجديدة في الدولة العثمانية، و ذلك باعتماده على كتب كلاسيكية.

19 نسبة إلى الحاكم هوسمان Haussmannالذي جدد مدينة باريس في نهاية القرن التاسع عشر (المترجم).

20 Carlier, O. (1988), « L’espace et le temps dans la recomposition du lieu social », in Urbanité arabe, hommage à Bernard Le petit, Paris, Sindbad, p. 149-224. Le café résiste mieux ; il s’accorde davantage aux « activités » et au « temps de la ville et de la vie moderne ; cf. Carlier, O. (1990), « Le café maure. Sociabilité masculine et effervescence citoyenne (Algérie XVIIe – XXe Siècles) », in Annales ESC, 45-4, p. 975-1004.

21 مؤشرات متفق حولها و قد تم جمعها في هذا النص بعد العثور عليها في العشرية 1976-1986 بمناسبة بحوث ميدانية تم القيام بها لإعداد أطروحة حول التنشئة السياسية في الجزائر فيما بين الحربين. إن تاريخ الاستعمالات الضيافية لهذه الأماكن يحتاج إلى بحوث أخرى.

22 مقابلات مع الأستاذين عمر لرجان و لحضر معقال، باعتبارهما يعرفان بدقة أوضاع الحمّام بالجزائر العاصمة، هذ بالإضافة إلى ملاحظات شخصية قام بها الباحث.

23 مقابلات مع ساسية بن عبدادة، مؤرخة بجامعة فاس، ربيع سنة 1997.

24 Colin, G. (1939), Chrestomathie marocaine, Paris, Maisonneuve.

25 Ibid.

26 Zirari, H. (1993), Quête et enjeu de la maternité au Maroc : étude ethno-culinaire, thèse, Paris, EHESS.

27 و في هذا الصدد، لا يمكن اعتبار مس الشعر مزعجا و كذلك فحص الأسنان، وجس الأعضاء و تقدير امكانية الخصوبة، مثلما تحدثنا بذلك العديد ممن قابلناهن، حول هذه الممارسات، أو عن محاذير التي لا زالت قائمة إلى حد الآن، و لم تختف تماما حسبهن.

28 يقتضي إطار تطور ممارسات الحمّام، التي رسمت هنا ابتداء من متن متواضع للمقابلات التي تفحص ثلاثة أجيال، أن يخضع، بطبيعة الحال، للمراجعة على ضوء بحث ميداني حقيقي في مجال التاريخ الاجتماعي.

29 Colin, G., Chrestomathie..., op.cit.

30 Raymond, A. « Les bains publics au Caire… », art.cit.

31 و يبدو أن النسبة المئوية للحمّامات التابعة للحبوس أقل بكثير في بلاد النيل منها في الجزائر في هذه المرحلة (ينظر):
Shuval, T. (1994), La ville d’Alger vers la fin du XVIIIe siècle : population et cadre urbain, Thèse de doctorat, Université d’Aix-Marseille

32 و هكذا تمكن تاجر في الخضر ينتمي للأحياء الفقيرة بمدينة وهران من افتتاح حمّام بحي المدينة الجديدة نحو سنة 1938 (مقابلة مع عبد القادر طهراوي، 1985)، كما يمكن ذكر ذلك العامل القديم بميناء مدينة الجزائر الذي قام بالعملية نفسها بعد عشر سنوات وفتح حمّاما بحي كلوس-سلامبي بمدينة الجزائر (مقابلة مع هني داكي، 1985).

33 مقابلة مع السيدة ب. بمدينة الجزائر سنة 1988.

34 كما تتمكن السيدة ح. بشخصيتها القوية وخبرتها في العمل المقاولاتي، من الدخول بقوة المجال حيث تقوم سنة 1993 بإنشاء مؤسسة متعددة الخدمات، تضم إلى جانب الحمّام قاعة للرياضة وقاعة للتجميل. (و أشكر دورية شريفاتي، أستاذة في علم النفس الاجتماعي، بجامعة الجزائر، على المعلومات القيمة التي قدمتها لي حول هذا الموضوع، جويلية 2000)

35 السيني – و هو مؤشر مهم، إذ أن أصل الكلمة بربري- و هو نوع من السلة المقلوبة المغطاة بالجلود الموجهة في الأصل للمحافظة على البخار الناتج عن الماء التي تم صبها على الحجارة الساخنة، و ذلك لكي يستحم شخص واحد، تم تثبيته في الساحة. و تعرف ثقافات تقليدية أخرى، بعيدة و غريبة عن الدول المغاربية و المتوسطية كسيبيريا على سبيل الذكر، أيضا هذه التقنية التي تتجاوز على ما يبدو ألف سنة. أما الحمّام الصغير، الذي هو أيضا خاص بالمنزل العائلي، يتمثل على العكس من السيني في كونه عبارة عن غرفة موجودة في زاوية من زوايا الساحة، و تسخن انطلاقا من جدار الخارجي و قد تضم العديد من الأفراد الذين يقيمون بالمنزل. و نحيل القارئ على الأطروحة القيمة لأريالا روتبيرق (Ariella Rothberg) بخصوص هاتين النقطتين.

36 و حسب التاريخ الذي أوردته أريالا روتبيرق انطلاقا من المعلومات التي جمعتها عن مخبرتها القديمة، فإن إنشاء أول حمّام بمنطقة أولاس أمتا يعود إلى حدود سنة 1900.

37 Carlier, O. « L’espace et le temps… », art.cit.

38 Carlier O, « Le café maure … », art.cit.

39 أشكر شكرا جزيلا السيدة زوبيدة حدابن على هده المعلومات المأخوذة من تحقيق ميداني شفوي تم بمنطقة "القبائل الصغرى" و في منطقة برج بوعريريج.

40 ملاحظات تم تسجيلها ميدانيا في منطقة جرجرة، الصمام، و القرقور في الثمانينيات، و مقابلات تم تسجيلها بالجزائر العاصمة مع بعض الزملاء من تيزي وزو سنتي 1998 و 1999.

41 و بعد المدرسة و المقهى و الحانوت و تجار الألوان و التجار الحرفيين الصغار الأخرون، تأتي محطة القطار و محطة البنزين و مكتب البريد، و أخيرا الملعب الرياضي غير المجهز تجهيزا كافيا و الصيدلية، و ذلك في انتظار قاعة السينما و الطبيب الدائم بالقرية.

42 Carlier, O. (1995), Entre nation et djihad, histoire sociale des radicalismes algériens, Paris, Presses de la Fondation des sciences politiques, notamment le chapitre consacré au nord-est constantinois, 1ere partie, chap. 3, p. 91-123.

43 على موقع لحمّامات رومانية قديمة تقع في "الشمال الشرقي لمدينة مليانة"، يلاحظ الدكتور شاو الفرق بين الحوض الكبير المخصص للمسلمين و"الحوض الصغير الذي يستعمله اليهود حيث لا يسمح لهم بالاستحمّام مع المسلمين" (من تسطير المؤلف). ينظر
Shaw, Voyages de Mr Shaw MD dans plusieurs provinces de la barbarie et du Levant, trad. De l’anglais, 1743, t. 1, p. 81
الملاحظة لا تأخذ بعين الاعتبار في هذا المقام الثنائية التي تميز الحمّام بالنسبة للجماعات اليهودية المغاربية. وإذا كانت الإسرائيليات تذهبن بدون مشكل إلى الحمّام، على الأقل في تونس، و منذ مدة طويلة بدون شك، فإن ممارسة الطقوس الدينية تقتضي منذ القدم استعمال مكانا خاضا لتلك الممارسات يتمثل في المكفيه le miqveh. ينظر Mercier, G. (1922), La civilisation urbaine au Mzab, Alger,، الذي يشير إلى وجود المكفيه في غرداية باعتباره ملحقا بالكنيس يحمل اسم المكوي makoui، ينظر أيضا:
Hidiroglou, P., Du hammam… , art.cit.

44 مقابلات مع نساء مسنات من مدينة تلمسان و الجزائر العاصمة و وهران في أواسط الثمانينيات.

45 Le roman de Baibars, (1986), 2, Fleur des truands, Paris, Sindbad.

46 Badia Y leblich, A.-B, (1814), Voyages d’Ali bey el Abbassi en Afrique et en Asie, Paris.

47 Léon, l’Africain, (1956), (Hassan ibn Mohammad al Wassan al Fassi, dit Jean), Description de l’Afrique, Paris, Maisonneuve.

48 مقابلات مع نساء مسنات من مدينة تلمسان و الجزائر العاصمة و وهران في أواسط الثمانينيات.

49 ملاحظات شخصية بمدينة وهران والجزائر العاصمة في نهاية الثمانينيات.

50 Raymond, A. (1985), Les grandes villes arabes à l’époque ottomane, Paris, Sindbad.

51 Grandguillaume, G. (1979), Nedroma, L’évolution d’une médina, Leyde, Brill.

52 مقابلة مع ساسية بن عدادة، ذكرت سابقا.

53 ملاحظة مأخوذة من تحقيق شفوي تم بحي المدينة الجديدة بمدينة وهران في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، بمساعدة عبدالقادر طهراوي على وجه الخصوص.

54 مقابلات مع بعض عمال الترامواي المتقاعدين والقاطنين بحي المرادية بمدينة الجزائر العاصمة، ينظر:
Carlier, O. (1989), « Les traminots algériens des années 1930, un groupe social médiateur et novateur », Le mouvement social, 146. Témoignage d’Ahmed Henni, coiffeur, rue Marengo, dans la basse Casbah des années 1930

55 Rothberg, A., Rôle et fonction, thèse citée.

56 Colin, G. Chrestomathie…,op.cit.

57 Bouchentouf-Siagh, Z. (1969), « Le hammam, espace de parole et signe du bain », in Khadda N., Siblot, P., Alger, une ville et ses discours, Montpellier, Université Paul Valéry, Montpellier III, p. 311–320.

58 مقابلة مع السيدة مكي في فصل الربيع من سنة 1992، حول الثلاثينيات و الخمسينيات من القرن العشرين، و مع السيدة ت.ب. في صيف 1999 حول الثمانينيات من القرن العشرين. كانت الباشا آغا ستي تمثل الشخصية الأنثوية الأكثر بروزا بمدينة وهران في الأربعينيات و الخمسينيات من القرن العشرين. فالشخصيتان الأخرى، و هي تخييلة، كان لها نقاش بلاغي أثناء الحديث.

59 و ذلك ما لاحظته بمدينة وهران القريبات و الزميلات الوهرانيات في الفترة نفسها، بخصوص النساء اللواتي تزوجن مع الوجهاء الجدد الذين برزوا في الأيام الأخيرة.

60 مقابلات مع حسن البوداري، الذي أشكره جزيل الشكر على ملاحاته و على اقتراحاته الثمينة.

61 في العشرينيات و الثلاثينيات من القرن العشرين، بذأت بعض الأمتعة الأنثوية الاستحمّامية تتعرض للمنافسة وخاصة بالجزائر العاصمة، من قبل مودة المنتوجات القادمة من باريس، سواء تعلق الأمر بالصابون أو المناديل أو العطور. مقابلات بالجزائر العاصمة مع السيدتين ف. و م. في نهاية السبعينيات من القرن العشرين. كانت للحرب و للهجرة اللتين لا تعنيان سوى الذكور تمارسان مع ذلك "تأثير عكسي "أولي على عالم النسوة. فحركية العائلات و النساء و التنقل قد أعطا بعدا أخرا لهذه النزعة في الستينيات أي بعد الحصول على الاستقلال.

62 أشكر جزيل الشكر السيدة زوبيدة حداب، على المعلومات الدقيقة المتعلقة بمدينة برج بوعريريج ومدينة سطيف، وعلى تذكيرها بمميزات فترة ما بين الثلاثينيات و الخمسينيات من القرن العشرين.

63 و قد أشار بذكاء جاك بيرك قبل أربعين سنة في كتابه:Le Maghreb entre deux guerres, Paris, Seuil, 1962

64 Carlier, O. (1992), « De l’islahisme à l’islamisme. La thérapie politico-religieuse du FIS », in Cahiers d’études africaines, 126, p. 186-219.

65 Marçais, W., L’islamisme et la vie urbaine…, op.cit.

66 Carlier, O., « L’espace et le temps… », art.cit.

67 مقابلة مع السيدة زوبيدة حداب، حول مدينة برج بوعريريج ومدينة سطيف، وحول مميزات الفترة الممتدة ما بين الثلاثينيات و الخمسينيات من القرن العشرين.

68 Carlier, O., « De l’islahisme à l’islamisme », art.cit.

69 مقابلة مع السيدة فاطمة الزهرة سطامبولي التي أشكرها على شهادتها الجميلة، كما أشكر السيدة خيرة تيوريرين وزميلاتها المدرسات بالجزائر العاصمة على المعلومات الاضافية حول تجاربهن الاستحمّامية.

70 Carlier, O., « Le café maure… », art.cit.

71 كانت السيدة فطومة ب. ممثلة و مطربة تذهب رفقة صديقاتها إلى الحمّام من أجل الغناء.

72 فيلم فريد بوغدير، حلفاوين، طفل الشرفات، سنة 1990.

73 Le hammam d’Othman Khadraoui, Tunis, Ceres production, 1992.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى