موسى غافل الشطري - بدرية

ذات صباح هادئ النسيم ، كانت الشمس ترسل بشعاعها و دفئها إلى المزارع و سفوحها . و لم تزل قطرات من بقايا زخّات المطر تترقرق ، مثل حبيبات اللؤلؤ ، بين ثنايا العشب والقصيل . و كانت أغاريد و زقزقة الطيور تتردد كأنها في سعادة غامرة.
و تماثلت الطبيعة لتضفي غزلاً في ذلك الصباح مخبوءاً تحت ما تُوْهِبْ من ابتسامة أسرة . لكن ذلك هيمن بنوع من التوجس و الحذر . فظل ينسل كالدبيب بين ثنايا أضلاع (بدرية) الحلوة ، الزاحفة في عمق النهير الجاف ، للقاء الحبيب ، متحدية المحذور .
بدرية الفاتنة ، ذات الطول الرشيق ، و الابتسامة الآسرة و الضفائر المنسرحة ، يحتضنان نهديها من تحت شالها الشفيف. كان كل ما فيها عذب و جميل . وكانت دموعها التي تهمي هي خليط بين الفرح و الخوف من المحذور .
و كانت تقر بأنها تَقْدِم على فعلة تنذرها بخطر جسيم . و إنها قد مضت في هذا الطريق الذي طالما تداعى على قلبها باللوم جزافاً . هي تدرك إن قيادها بين خافقي قلبها . و إنها غادرت حكمة العقل .
أشد خشيتها و حذرها مما عليه الحال من علاقة عدائية بين عم حبيبها (بشار) لكونه ، ابن أخ الشيخ بريسم حيث بَلَغَ الأمر إلى حد التربص ، و بين قريبها الشيخ حرب . لكنها تنقاد كالعمياء مستثمرة هذا الخلو من الرعاة و الحطّابات و أصحاب الحقول ، و ماضية إلى حيث ما تلقاه .
كانت خطواتُها ، تطأ الأعشاب التي نهضت لاستقبال لطف أشعة الشمس، لتترك آثار قدميها واضحة. بينما تلوح خطوات حصان بشاربإيقاع مسموع على مسافة أثقلت قلبها ، كأنها قد نأت عنها بعيداً . مع ذلك تحس هي : بأن لقاءها الذي يقترب شيئاً فشيئاً ، بات كما لو أنه يُضْفَر كالضفيرة مع هذا الهدوء المتلفع بالدفء و الخطر الجسيم .
تابعت بدرية وهي تتلفت بحذر شديد ، خشية من وشاية واشٍ ، و هي ماضية في انتظارها الحبيب الجميل . و كتم هو كل حواسه لما عداها حينما ظلت تنتظر ، بينما استمر في تأنّيه في اقترابه . و ما كان غافلاً عن حذره من مجازفة اللقاء ، في وضح هذه اللحظات الزاحفة مضياً إلى الضحى . ربط حصانه و تلكأت حنجرته أن تطلق زفراتها . فتأنت و أباحت لعينيه و قلبه أن يتدبّرا الأمر .
كان مضيّه أن ينحدر إلى عمق النهير الجاف هو بمثابة نداء القلب تعمد أن يغريها لكي تنساق نحوه ، متحدية المحذور . لكنها أبت أن تخطو خطوة واحدة . و ظل يراقب الطرق مضطرب الخافق ، كما هي عليه من حال . زحف بهدوء و بطء . في حين بقيت هي ماكثة بحذر شديد ، فلم يتسارع في لقائه سوى قلبها و كمنت لانتظاره حتى يأتي . وقد انتابها إحساس بأن الوقت قد طال . و يا لحاله من قلق و شوق . فلاح لها و هو يقترب ببطء .
حين التقيا ، كانت شفتاها ضامئتين ، كما لو كانتا تدركان جسامة الأمر . و تجسد لها ما لم تذعن له من تحذير لوَّحن لها به صويحباتها ، من كون هذه العلاقة ، ستؤدي بهما إلى الهلاك .
قرفص الاثنان . بدت جدائلها المضمخة بالحناء ، تنساب على صدرها المتأجج أنوثة. و كان قرطاها الذهبيتان و أزرارها الذهبي يتلألأن من خلف شالها . و قد بدا بلعومها كأنه يبتلع شيء ما ، رغم أنها لم تنثن . و كان الوشم الذي انحدر من أعلى و أسفل شفتيها و أجهر بزرقته المثيرة ، فتداعت ضربات قلب الحبيب ، و لاح له كل ما يحيطه من ردع و خطر لا مبرر له ، و لا هو ولاهي طرفاً فيما يثار من خلافات . بل و جد الاثنان : أن كل تلك الخلافات قاسية ، أشد قسوة من الموت على قلبيهما . إنهما لا علاقة لهما بالخلافات ، لا من بعيد و لا من قريب . و أحس بنفسه ، تجتاحه رغبة أن يضمّها إلى صدره ليس لغاية سيئة ، بل تعاطفاً مع قلبها الذي يعرّض حياتها لخطر و أي خطر .
و ظل مشدوهاً هائماً لفترة غير قصيرة ، أسير النظر بعينين أثقل جفنيهما العشق فتملّى بجمال جدائلها ، و بهاء ابتسامتها الجافلة ، التي احتبست من قلق جعل شفتيها ترتجفان ، و عيناها تتذرعان .
ـ بدريه مرتاحه ؟ فرحانه بجيِّتي ؟
ـ فدوه تروحلك بدريه .
ـ بدريه .. ليش ترجفين؟ وين ذاك الوجه اْلمورّد، غير احنه مجتمعين ؟
ـ بشار أنت ما تعرف السبب ؟
ـ أعرف بدريه بس آنا شنهي الشايفه ، غير الذي حلله الله ؟
ـ ليش بشار موش آنا هاذي ؟ ياهو الجابني .. غير هذا الذي بين ضلوعي ؟
ـ بدريه...
ـ فدوه تروح لعيونك بدريه .
ـ آنا ما أطلب هوايه , بس خلّيني ألزم الضفاير باصابعي.
ـ ياحيف عليك بشار . ياحيف والله . إحنه موش تحالفنا .. حب منه لله ؟
ـ بدريه .. بوسه لا تنطيني ، وقبلِتْ ، أحْرِمْ روحي و لا أذل أهل بدريه . هاذي الاصابع الحلوات حرام الزمهن ؟ الضفاير حرام اشم عطرهن . هذا حب بدرية ؟ هذا يسمّونه حب ظالم .
ـ شبيدي عليك بشار .أنت ما تشوف الواني تغيرت ؟
ـ بدريه ...
قالت له :
ـ لا تلمسني، أروح لكْ فدْوه ، لا تلمسني . خلّينا طاهرين .
كان صوتها يرتجف و كانت تقترب للبكاء .
قال بحسرة :
ـ مثل ما تشتهين .. و لو صعبة علي . موش آنا تقدمت ْ و طلبت الزواج ؟ ليش هذا الظلم ؟ موش ردته على سنة الله و رسوله . هذا الظلم ليش بدرية ؟
بكت :
ـ بشار .. سالفتنا حيل صعبه. هاذي آنه لوين وصّلْتك ؟ و الله خوفي عليك أكثر من خوفي على نفسي . شلون ظالمه آنا .
كان شالُها المنمنم يعلو و يهبط . و كان صدرها الناهد يرتجف من البكاء .
قال بألم واضح :
ـ لا توجعين مهجتي.. تره ما ظل عندي صبر بدريه . موش ردناها على سنة الله و رسوله؟
قالت بكلمات كأنها تنطلق بكل سرعتها :
ـ آنا خايفه .. حيل خايفه .. على يا ساعة ننذبح ..(حرب) ظالم بشار. وانت تعرف قضيته وَيْ عمك بريسم . (حرب) ذيب .
ـ بدريه .. عدنا ذنب لو بايعينها بيضه ؟
ـ بشار يا بيضه هاذي؟ هذا ظالم . آنا خايفة بشار ، كلش خايفه .
صمت لفترة غير قصيرة . كان يتأمل بملامحها بينما كان قلبه يذوب وجداً. فهو يعرف عسر مجازفتهما . و أكيد هو يعرِّضْ نفسيهما و أهلهما إلى مصيبة لا حدود لها .
ـ بشار أهلي أمرهم بيد حرب . بس يحس بينا يدفع اخوي يذبحني . هاذي ليش آنا ما سمعت نصيحة الناس ؟ لأن روحي مربوطه بيك بشار .
و بعد أن تريث و قلبه يخفق قال :
ـ أحسن شي ... نشرد بعيد . بعد غير هاذي ما ترهم ..
لطمت خديها، و كأنها استيقظت لتدرك ما يداهمها من خطر مرعب :
ـ بشار .. هاذي السالفه شلون عندك عقل و فكرت بيها ؟ تريد تندهر سمعتي و سمعة عائلتي ؟
و انهدّ بكاؤها بحدة . و كان الوقت الذي قضّياه، محض دموع و أسى و حيرة . ووشالة أمل شحيحة .. و لم يخرجا بمخرج . فقد أُغلقت كل المنافذ أمام تطلعهما. و أضحى ما يبتغيانه مجرد ملامح من سراب ، يطلان عبرها على معالم موهومة . و لا يرتجى منها أي نفع . و قد مضى فيهما الوقت مسرعاً إلى قرار أشد ظلمة من الظلام .
كان قلب الشاب ينزف مع ما تذرف بدرية من دموع. وما حدث بين عمه بريسم ، و حرب الذي هو قريب والدها ، مجرد سوء حظ تراءى لهما ليطغى بأجيج سعير نارهما .
* * *
لم يعلم (بَدُرْ) عن السبب الذي دعا عمه حرب لاستدعائه . ولم يفهم ما دافع هذا الجمع الذي يحيط بالشيخ من رجاله و عبده . و لماذا هم صامتون متبلدون ؟ إنه خائف . إنه يرتجف . لا بد من مصيبة قد طوقت عنقه . ما هي ؟ الله أعلم . كان حرب مكفهر الوجه و شفتاه ووجنتاه ترتجفان .
فصاح فيه بصوت مهين و حاد :
ـ تعرف اختك وين ؟ إختك بحضن بشار بن اخو بريسم .
كان الشاب بالكاد يتدارك انهياره نحو الأرض .
أمره حرب :
ـ هذا مسدس روح اغسل عارك .
و سرعان ما راح ينهب الأرض على ظهر أحدى خيول الشيخ . إنه ينقاد بقوة خفية . لا يعرف و لا يرى . و لا يفكر ، سوى أنه يندفع بدافع لا يفهمه . فقط يعرف : أنه طعن من خلفه و أهين أمام حشد من رجال الشيخ . لم يفكر أكثر من بلوغ المكان الذي عينه الشيخ ، حيث تتواطأ شقيقته مع غريمها . دون أن تفكر بسمعته . دون أن تقول : و أخي ما هو مصير سمعته ؟ غير هذا الذي يدور برأسه لا يعرف شيئاً : أن يقتل الاثنين . أن يغسل العار . بالأحرى أن يهرب بعد أن يلقي فيهما بين يدي الشيخ غارقين بدمائهما . بدا يَتَخيّل ان بدرية عارية مستلقية بشكل فاضح تحت جسد بشار : "ليش بدريه ليش ؟ ليش اْتذليني جدّام اليسوى و الما يسوى ؟ "
و كان عليه أن يوقف و يستأصل ما يحدث من عار . إنه لا يرى سوى أن الطريق قد طال كثيراً . و إنه متبلد عن أي إحساس آخر .
* * *
جفل بشار حين لاح الخَيّال من بعيد ، مسرعاً يواصل تقدمه و صاح محذراً بدرية :
ـ هذا خيّال ، جاي طافح بدرية ...
فالتفتت إلى الخلف و لتقول بذهول :
ـ هذا اخوي بدر . إشرد بشار، اشرد . ترى اخوي يغدرك.
فقال :
ـ و انتِ... ؟ خلّينا نموت سويه .
و هيأ مسدسه.
صاحت :
ـ و تريد ترمي اخوي ؟ يا حيف و الله . روح بسرعه و خليه وَيّاي ياخذ حيفه. روح اشرد . آنا أولها و تاليها ، مَيْته ، ميته .
قال رافضاً :
ـ أعز نفسي علـى بدرية ... ؟
صرخت به :
ـ ما ظل نفاه .. اشرد ...
ركب حصانه منطلقاً بأقصى سرعته ، في حين لاحقته اطلاقات بدر، دون أن تلحق به الأذى . و تمنع عنه بعيداً.
قال بدر لاخته عندما أوقف حصانه أمامها .
ـ ليش بدريه ؟!؟! شنهي هاذي الفضيحة بدريه ؟ ما فكرتي بسمعتي ؟
قالت بدرية متوسلة:
ـ هاذي آنا بين اديك . بس آنا اختك ما عملت منكر ...
ـ ليش انتِ ويّامَنْ تسولفين ؟
كانت تتملّى بطلعته ، بوجه غاض دمه ، كأنها تستسلم لمواجهة مصيرها المحتوم ، و تتمنى أن يطلق رصاصه .
و كان يمسك بقبضة المسدس . هي نفس اليد التي يضعها على قلبها و يغفو .
أطلق طلقتين . واحدة استقرت في قلبها و الأخرى في فمها .
ثم حملها بين يديه. و وضعها على الفرس . كان جسدها يهمد ، و الدم ينضح . احتضنها بذراعه اليسرى كي لا تقع . و اعتلا السرج . لم يكن من بدٌّ إلاّ أن يحتضنها . و يطبق بظهرها على صدره. لم يحس بأي نبض . فقط كان الجسد ما زال يحتفظ بحرارته و رأسها يتدلى على صدرها . كانت تبدو له صامتة على غير ما عهدها عليه . و كان الفم الذي شوهته الطلقة ينزف دماً هو الآخر . و كانت كلماتها الأخيرة تتردد بوضوح ملئ أُذنيه .
و انطلق إلى حيث ينتظره الشيخ حرب . و دعا جسد أُخته يتهاوى إلى الأرض قِدّام الشيخ ، دون أن يترك شيئاً يبدو من جسدها حتى قدميها حتى قمة رأسها .
قال حرب لأخ القتيلة :
ـ عفيه بالسبع رُفَعِتْ راس عشيرتك . روح اْبن اخوي للحكومه ، سلّم نفسك .
قال بدر بهدوء عجيب :
ـ أمرك محفوظ . بس عندي شغلة ما أريد اخليها وراي .
ـ شنهي هيّه ؟
أخرج المسدس من حزامه ، فمد الشيح حرب يده ليسترجعه منه . لكن بدر أطلق آخر طلقة على جبهته و خرّ صريعاً .

موسى غافل الشطري


* قصة مستقاة من احداث رواية الياقوتة السوداء



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى