بهاء المري - الثمن.. قصة قصيرة

دَرجَ على استثمار أمواله لا تَجميدها في أُصُولٍ لا تُدِرُّ ريعًا أو كان ريعها ضئيلاً، حتى نَصيبه ميراثًا في منزل والده باعه فور مَوتهِ لاستثمار ثمنه، كان هذا هو دأبه منذ تَخرَّج في الجامعة وانفصلَ عن قريته واستقر بالمدينة.
أما نَصيبه في الأرض الزراعية التي ورثها مُحمَّلة بالمستأجرين، فلم يَقنَع بقيمتها الإيجارية المُتدنية، يقولُ إنها ثروة مُعَطلة لا يَجني خيرها سوى المستأجر المُستبد كما يَحلو له أنْ يَنعَتَه، ولكن ماذا يَفعل وعقد الإيجار مُؤبدًا يتوارثه الزُّرَّاع جيلاً بعد جيل، والإيجار زهيدٌ حدَّده القانون نفسه.
تلك الأرض صارت مشكلةً تُؤرقه، فهو يَعلم مَقدرة نفسه على جَعل قيمتها أضعافًا مُضاعفةً لو كان يَملك حرية التصرف فيها، ولكن مَن ذلك المستأجر الذي يَقبل أن يُبارحها وهو يَدفع مقابل استغلالها مليماتٍ تُسمَّى إيجارًا؟
لم يتوقف عن التفكير في أمرها حتى وقَرَ في نفسه أمرًا؛ فاستَدعي ابن أخيه الشاب المحامي النابه الذي يُمكن إنابته فيما ورَده من أفكار.
التقى الشاب وكلَّفه بالتفاوض مع المستأجر الذي يَحظى بالمساحة العُظمى من الأرض ليُنهيَ معه عقد الإيجار، ضحكَ الشاب مُوضحًا أنَّ مَطلبه بعيد المَنال، وأنَّ محاولاتٍ مُماثلة كم بُذلت مع مستأجرين آخرين وباءَت بالفشَل، بل رفضوا شراء الأرض بأي ثمن، ومع ذلك وعَده بالمحاولة.
وما تَوقعهُ الشاب فقد حَصل، تَبسَّم المُستأجرُ ضاحكًا من قوله مُتسائلاً في سُخرية ظاهرة: كيف أتركُ الأرض يا بُني؟ ولماذا؟ أليس بيننا وبينه عقد إيجار؟
استطالت المُناقشات من دون جدوى، بَيْدَ أنَّ الشاب استطاع إقناع الرجل بالشراء، ورأى أنَّ نجاحه في ذلك يُعدُّ إنجازًا سَيرُوق لعَمّه، فهذا أول مُستأجر يَقبل أنْ يُجَمِّدُ مالاً في أرض مثل هذه تحت يده أصلاً ويَنعم بخيرها.
أبلغ عمّه بإنجازه الكبير، يسأله عمّه:
- كم ثمن الفدان؟
- ليست المشكلة يا عَمّ في الثمن، السِعرُ مَعروفًا لا يَخفَى على أحد، ولكن.....!
- ولكن ماذا؟
- ولكن العُرف استقرَّ على دفع نِصف الثمن!
يَنتفضُ العَم وهو يُجيب: هذا حرام، إنه سُحت، أين سيذهب هؤلاء من الله؟ أيأكلون مَالاً حرامًا تحت زَعم العُرف؟ لن أبيع.
- سأتفاوض معه يا عمّ لزيادة الثمن عن النصف.
- المسألة ليست التفاوض على الزيادة، ولكن المبدأ، والأخلاق، والدين، هذا حرامٌ حرام، فلا أتخيّل بَخس الناس للناس أشياءهم هكذا، وبهذه الجُرأة على الحقوق.
كان والد الشاب على عِلم بما يَدور، انفرجَت شفتاه عن ابتسامة حين عَلِمَ بتحريم شقيقه مَسألة بَيع الأرض المُستأجَرة بنصف الثمن، قرَّر أن يَغتنم هذه الفرصة، تَحدَّث مع ولده:
- حَدِّث عمّكَ يا ولدي في أنْ يَشتري ما يَخصُني من الأرض.
- ولكنها مُؤجَرة يا أبي.
- يَملك الرّقبة ويحصل هو على الإيجار، فهو يُحب اكتناز المال، وسيأتي اليوم الذي ينتهي فيه تأبيد الإيجارات، الحكومة تُعلن عن هذا.
- وهل سَيَقبَل يا أبي؟
- ولمَ لا يا ولدي؟ صَحيحٌ أنه لا يَودنا، ولكننا نَسمع أنه صَوَّامٌ قَوَّام، والبعض هنا في القرية يقول إنه كم تَبرَّع للأعمال الخيرية، وسمِعتُ أنه يُحسِن إلى بعض الفقراء وإنْ كانوا ليسوا من فقراء عائلتنا، فهو إذن رَجل صالح، ورؤيته للبيع بنصف الثمن سُحتًا دليلُ صَلاح أنتَ شاهد عليه.
أطاع الابن أباه واتصل بعمّه:
- يا عَمّ، إنَّ والدي يرغبُ في بيع أرضه المُستأجَرة لكَ.
يُجيب:
- وأنا جَاهز، ولكن كالعُرف بنِصف الثمن!!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى