سعد الشلاه - سائحةٌ في بورسيبا.. شعر

هناك ما بين الحلة والكوفة
ليس بعيداً عن أمِّها الطاعنةِ في الحبَّ بابل
عند سهوبِ الرارنجية العذراء
المطرّزةِ بالأزهار البريّةِ وأشجار النخيل
حيثُ الآجرُّ يأكلُ بعضُهُ بعضا
رأيتُها وكأنّها تستمعُ لحديثٍ شيّقٍ ولذيذ
بانَ على عينيِها الهائمتين في الآفاق
وعلى شفتيها المنفرجتينِ بابتسامةٍ هادئة
جنسيتُها عقلُها ودينُها محبة
كانت تستمعُ لحديثِ مقامِ إبراهيم
لم يخبرْها عن هوية الذبيح ولا هي سألت
المقام الذي كان أبيضَ ثم صار أزرق
وربما سيكون ذهبيَ القبّةِ والمنارات
أو إيّ لونٍ آخر ذي رايةٍ خضراء
تستمعُ عبرَ رؤوسِ أصابِعها الناعمة
تجسُّ نبضَ جدرانِها المتآخيةِ مع الزمان
المتماهيةِ مع تراتيلِ الإلهِ (نابو) وموكبهِ المهيب
وأظنُّها كانت تبثُّ لهُ تباريحَ عشقٍ أو غرام
في خلوةٍ أشبهُ ما تكون بخلوةِ الصوفيين
رأيتُها تختمُ الطابوقَ المفخور بالبرد والسلام
واحدةً تلوَ الأخرى وتسِمُهُ بابتسامةٍ ميساء
ثم تلملمُ ما بقيَ من نظراتِ الملوك والكهّان
بعد عودتِهم وجنودِهِم من صخبِ الاحتفالات
تلملمُها بمنظارِها الثاقبِ العدستين
الذي يقرِّبُ الأسرارَ وما خفيَ من جمال
تلملمُها لتنسجَ من بريقها قبّعةً خضراء
قبعةً تَقيها من الدهشةِ وتُشعرُها بلذّةِ السحر
وما زادَ منها تحفظُهُ في حقيبتِها الكونية
لتعرضَهُ لاحقاً في متحفِها الحروفيّ العظيم
هناك في مدينتِها البعيدةِ جداً
وترسمَ عليها وبالخطِّ المسماريّ العريض
هنا بابل الحضارة
ثم تكتبُ بكلِّ لغاتِ الأرض
بعد أن آمنتْ دون أن ترى شيئاً بعينِها الزرقاء
سوى الكِسْرِ والتلالِ الممعنةِ في الأنين
كتبت بصدق العارفين
هنا بدأ تأريخُ الكون هنا في بابل..

23 / 6 / 2016
أعلى