أمل الكردفاني- في حياة أخرى- أقصوصة

يحتشد الإستقلال بالسياح العابرين جيئة وذهاباً، والموسيقيين والرسامين، والعاهرات والقوادين، والمقاهي بنصف مقهى ونصف حانة، يغني الأتراك وهم يرتدون بدلاً كاملة برابطة عنق والفتيات ذوات الأفخاذ العارية الضخمة يرفعن أكواباً ممتلئة بخمر أبيض ويغنين مع المغني بضحكات واسعة.. إنه إستقلال حقيقي. على اليمين يقبع إستار بكس، وعلى ناصية الشارع المثلثة هناك مطاعم، والطبقة المسحوقة من الأتراك تعمل وتكدح فيها مع همجية لا تخطؤها العين. تعبر فتاة بفستان طويل من قطعة واحدة عاري الأكتاف، قرمزي اللون، ومن شق صغير على جانبه تبرز سيقانها اللامعة، وعلى قدمها حذاء عالي العقب. تخطو بسرعة ورشاقة، وعلى عينيها نظارة شمس من طراز السبعينات، فيطير شعرها وفستانها إلى الخلف ويحدد الهواء خصرها النحيل، تعبر بسرعة، دون أن يلحظها أحد سواي في ذلك الزحام. أنهض وأتحرك خلفها ببطء، ثم أراها تتوقف في الميدان ثم توقف تاكسياً وترحل لتغيب عن الأنظار.
أعود وأسير ببطء، مات كثيرون ليصلوا إلى هنا ثم ليهربوا إلى اليونان أو بلغاريا ومن هناك إلى أوروبا الغنية. لكن ما هي أفضل خيارات الإنسان ليشعر بأنه مستقل وأنه حر، حب فتاة كهذه أم عبور الحدود، أم البقاء في إصطنبول، والعمل مع الرعاع المسحوقين. ماهي خيارات هؤلاء المهاجرين في الحياة، لتكون لديهم حياة؟ هذه دائرة مغلقة.
يرتفع شارع الإستقلال للأعلى، ويمكنك رؤية الحشود وهي تهبط منه كالحجيج، بمختلف الأشكال والألوان. لكنك لا تستطيع الإندهاش بجمال الأنثى كثيراً، لأن هناك وفرة في الجمال، تماماً كمائدة مكدسة بالأطعمة التي تربك الجائع فيقنع ببضع لقيمات، إن العين يملؤها الجمال.
صباح اليوم التالي، كان الشارع خفيف الحركة، المحال نصف مغلقة ونصف مفتوحة، كان الشتاء قد ودع الأرض قبل أيام فقط، فنشرت أشعة الشمس بعض خصلها الذهبية. إنه وقت مناسب للتأمل، غُصت في أزقة إصطنبول المرصوفة بالقرميد المتعاشق الأسود، والذي تزيده الأمطار لمعاناً، الأزقة ذات رائحة عطرة، تعلو الأرض وتنخفض، أصعد وأهبط، وحذائي العسكري طويل العنق يتشبث بالأرض، هناك كلاب ضخمة بحجم دب، تنام وادعة بسلام. أمر بقربها بحذر حتى لا أوقظها، ثم أعبر إلى زقاق آخر، وهناك أرى فتاة الأمس. ترتدي قبعة كبيرة، وفستاناً أبيضَ تتوزع عليه نقاط ذات ألوان كثيرة، ترفع ذراعها وتمنع قبعتها من الطيران، فأرى إبطاً لامعاً وجزءً صغيراً من ثديها يبرز من تحت حمالات الفستان. تمد يدها اليسرى إلى حقيبة جلدية وتخرج نظارة شمسية بإطار عاجي، ترتديها، ثم تُخرج أصبع أحمر شفاف تديره على شفتيها ثم تطبق شفتيها وتفتحهما مرتين أو ثلاثة، ثم ترفع فستانها وتعتلي دراجة هوائية رياضية صغيرة وتحرك دواساتها وتعبر بثبات في تلك الأزقة الضيقة. أسير وراءها، وتبدو الحياة مختلفة تماماً عن تاريخي فيها. هناك حياة أخرى، عالم مختلف. تقود دراجتها وهي تمسك قبعتها حتى لا تطير، فيهفهف عطرها في الهواء. ماذا كان يمكن أن اكون لو لم أكن انا ما انا عليه الآن؟؟؟ عازف جيتار، تاجر مخدرات، سجين في جريمة قتل، رسام، عامل في منجم، عامل موسمي يحصد الطماطم، مليونيراً؟ وفي كل الأحوال، وبكل التصورات المنطقية، فإنه ما كان بإمكاني أن ألتقي بهذه الفتاة لو لم أكن ما أنا عليه الآن وهو اللا شيء. إن اللا شيء يمنحك الكثير، يمنحك الصدفة السعيدة لترَ شيئاً ما كنت لتراه لو كنتَ شيئاً.. وهكذا تبدو مفترقات الطرق الموحشة مغمورة بالغموض، ولكنها ستفضي لشيء ما، لا بُدَّ أن تفضي لشيء ما. أن ترى عصفوراً دهسته سيارة مسرعة، فتعرف أن الأزمة كونية. أو تشاهد إنفجار الأزهار بالطلع، عند الفجر، فتعتقد أن العالم متكامل على نحو مثالي. لكنك في كل الأحوال سترى شيئاً مختلفاً يخبؤه كل طريق عن أنظار العابرين في الطرق الأخرى. وهذه هي الحياة...
توقَّفَتْ والتفتت نحوي وقالت بقلق: هل تلاحقني؟
ألجم الرعب لساني، نعم كنت ألاحقها، ولكني أشعر بأني أضأل من أن أخبرها بأنها تمثل بالنسبة لي كائناً مطلق المثالية. تجمدتُ في مكاني: صوتها كان كثيفاً يخرج من حنجرتها بنعومة أنثى وعواء ذئب. صوت هوائي، كصوت مغنية فرنسية.
رمقتني بنظرة محذرة، وأدارت قدميها على دواسات الدراجة وتحركت مبتعدة، فبقيت متجمداً...على يساري كان هناك محل صغير متخصص فقط في بيع صابون الحمام بأنواعه المختلفة. كان الشاب جالساً داخله، وهو يبدو كموسيقارٍ غجري بشعره المسدل على أكتافه. اشتريت صابونة وغادرت..عدت إلى شارع الإستقلال...هبطت مع الحشود وأنا أمسك بالصابونة. لماذا اشتريت هذه الصابونة بخمس ليرات؟ رفعتها إلى أنفي وشممتها، لم تكن لها رائحة، لقد اشتريتها فقط لأتجاوز لحظة جمودي المرتعب من حديث الفتاة. نعم، أي شيء يمكن أن يعرقل مسير ذكرى سيئة في دماغي. فربما تغير مجراها، وقد لا تغير مجراها، المهم أن أحاول. عندما تحدجك فتاة معجب بها بتلك النظرة المرتابة القاسية، فإنك تشعر كمن أدين بجريمة لم يرتكبها. غير أن عقوبة تلك الإدانة، لا تحتاج لأجهزة بوليس تنفذها، لأن العقوبة تقع فوراً، يقوم قلبك وعقلك بتوقيعها عليهما، كراهب بوذي يعذب نفسه ليصل إلى الإندماج مع الكون. نعم..عقوبة لذيذة، ينتفض قلبك وأنت تتذكرها وهي تنزل نظارتها وتحدجك بعينين زرقاوين نصف خائفتين ونصف متحديتين...لو لم تشعر بك لما توقفت ولما أزاحت النظارة عن عينيها، ولما رأيتَ تلك العيون الجميلة. وجه إيجابي من الوجه المظلم. أقف أمام فرقة من عازفين بوهيميين، يعزفون لحناً سريعاً ومرحاً، الفتاة التي معهم حافية، وكذلك الولدان الآخران، وهناك واحدة ترقص وهي تتلاعب بشريط من الساتان الأحمر فيتراقص في الهواء..تضرب الفتاة على أوتار آلة غريبة، مدورة وصغيرة، فيخرج اللحن لعوباً وضاحكاً، فينبض قلبي حين أرى نظرات عينيها الزرقاوين داخل تفاصيل اللحن الهازج. أذناي تصابان بالصمم حين أجتر تلك اللحظة.. توقِف دراجتها فجأة، تتكئ بقدمها اليمنى على الأرض والقدم الأخرى على دواسة الدراجة، تلتفت نحوي نصف التفاتة، وبيدها اليسرى ذات الأصابع الناعمة والأظافر الملونة، تمسك إطار النظارة العاجي، وتنزله قليلاً لأسفل، ومن فوقه تحني رأسها قليلاً، تحدجني بتلك النظرة، والتي أعتقد أنها كانت ساخرة، نعم، لم تكن كما تصورتها نظرة خائفة، أو مهددة، بل ساخرة، نعم، إن المرأة الخائفة لا تنزل نظارتها نصف إنزالة وترمقك من ورائها. إذاً؛ فلم تكن خائفة، بل كانت تسخر مني، تلك النظرة التي تبهج قلب كل منبوذٍ، يرى فيها إكتراثا ما بما في قلبه ولو على سبيل السخرية.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى