أمل الكردفاني - الفيزيائي.. قصة قصيرة

"يقولون أن الأجسام ما دون الذرة تأخذ طبيعتين، طبيعة موجية وحين تراقب تتحول لجسيم ثم تعود للموجية عندما لا تراقب. إنها كائنات خجولة على ما يبدو، ترتدي رداءها عندما توضع تحت النظر، وتتعرى حينما تكون وحدها. أقول كائنات، لأنها متماثلة عند الأحياء والجمادات، أليس هذا غريباً، أيؤكد ذلك وحدة الوجود، وينفي الإختلاف، حينما نتصور -بناءً على ذلك- أن الوجود كله من جوهر واحد. أنا والبعوضة شيء واحد، نتماثل عند نقطة الإنوجاد..ثم نتفرع كما تتفرع الغصون حاملين هموماً مختلفة..ثم تؤلمني وأؤلمها، تقرصني فأسحقها، أو تهرب فتنجو بنفسها من شر توأمها.. ربما؟!".
يقول الفيزيائي ذلك، وهو يمسك بقدم بعوضة نافقة ويقربها لعدستي نظارته، ثم يتأملها بعمق، يقلبها بين أصبعيه، يديرها، يحاول إكتشافها كما لو كانت شيئاً لم يره من قبل.
- قدمك تزن ثمن وزنك الكُلِّي..
يجري حسابات تجريدية. ويبدو مرتعشاً قليلاً..فينهض والإرهاق ينعكس على نظراته الخائرة. وحين يمشي، يجري عمليات حسابية لخطواته، ويستخلص معادلة بين السرعة والمسافة، ثم يستخرج الوزن، وحين يرتمي على السرير لينام، يقيس درجة مطاطية المرتبة بالنسبة لثقل وزنه، ويبحث في فرضية حدوث تداخل بين حقل جسده المغناطيسي وحقل مكونات المرتبة. إنه يرى في كل شيء ذرات وإلكترونات ومسافات وسرعات، وقوانين، وترابطات منذ أن رسب في امتحان الفيزياء فلم يتأهل لدخول الجامعة، وهو يتبحر في تأملاته الفيزيائية. يخلع نظارته ويوجهها نحو الشمس، ثم يتأمل الضوء الخارج من العدسات، يحتسب زاوية السقوط، والإنكسار...هذه هي البؤرة.. والضوء يسلك سلوكاً موجياً..يستيقظ عند الفجر، لأنه لا ينام، يستيقظ أي يقرر أنه قد استيقظ، وحين ينظر لوجه أمه الحزين، لا يراه بل يرى حركة جفنيها الخاليتين من الرموش، يضع افتراضاً للمؤثرات التي تدفع بجفنيها للحركة، ثم يتنبأ بالحركات المستقبلية للجفنين مطبقاً قانوناً استخلصه من المراقبة المستمرة محتسباً الطاقة والكتلة والشحنة والقوة...وعدد الخلايا والذرات والالكترونات..
تظل أمه ترمقه بحزن، ويظل هو في جموده، تسأل نفسها عما يفكر فيه وهو في حالة صمته المزمن منذ سنوات. هل هو ميت؟ أم حي؟..أتقتله لتخفف من عذابه، أم أنه لا يتعذب؟. تخرج للعمل، وهي مكتئبة النفس. ثم تعود لتجده ساهماً وهو يتأمل قشة صغيرة، أو صرصاراً مسكيناً وقع في يده.. أو تجده وقد أدخل رأسه في المرحاض ناظراً للماء والبول ليكتشف عملية إستحلاب، وأحياناً كثيرة تجده يتأمل منافذ الكهرباء، يغلق عيناً ويضع العين الأخرى داخل الفتحة المظلمة..إبنها الوحيد يحيا في عالم بعيد عن عالم البشر..فتأخذه لشيخ. ينظر إليه الشيخ، أما هو فيبحث عن قانون ينظم العلاقة بين اللحية والأسنان المعوجة، وحين يفتح الشيخ فمه، يحتسب الفراغات، ويتأكد من وجود خلل في المعادلة. فيهمس: هذه علاقة وليست معادلة؟ ما هو الثابت هنا؟ لا شيء، وما هو المتغير؟ لا شيء..يضربه الشيخ، ويحرقه بالنار، فيحسب هو درجة الألم بحسابات معقدة، يتساءل: هل هناك درجات للألم، ألم قوي وألم ضعيف، أم أن الألم هو الألم..هناك عمليات فيزيائية بين النواقل العصبية التي ترسل وتستقبل إشارات الدماغ الخاصة بالألم...يفشل الشيخ في إستخراج الجني الهندي لأنه جن مؤمن وعنيد. تحمل أمه مساحيق البخور والماء المقروء عليه وتغادر منزل الشيخ. تنصحها إبنة جارتها بالذهاب به إلى طبيب أمراض عقلية. فتتوجه به إلى طبيب. وهناك يقيس هو حركة التفاحة في حلق الطبيب، التفاحة ذات رأس زاوية منفرجة، هناك جيب تمام وظل تمام وروابط عدة بين عضلات الحلق والأوتار الصوتية، الصوت الرقيق، يحتاج لأوتار مشدودة، على سلم سي صغير، دو ري مي فا، يتأمل الطبيب ويهمس: دو ري مي...يعقد الطبيب حاجبيه،...يكتب وصفة طبية، فتأخذه الأم إلى المنزل، تبخره وتجعله يجرع الماء المقروء عليه ليبتلع به قرص الدواء. تقول: ليحصل القرص على بركة الماء المقدس والبخور. يتصاعد البخور، بكثافة معينة، وزن الدخان أخف من وزن الهواء لذلك فهو يتصاعد ولا يقع، ولكن ما هو الهواء إن لم يكن جسيمات، جسيمات ذرية وأدنى من ذرية، ودخان البخور كذلك..يرى الدخان يتحول لموجات، تدور حول عنق والدته، يراقبها، تتحول لجسيمات، تتساقط الجسيمات كالمطر. يشيح عنها، فيراها تعود لموجات مرة اخرى، كيف يراها إذا كان قد اشاح عنها؟ يراها لأنه هو نفسه مماثل لها في الجوهر... يبتسم حين يشعر بأنه يتحول لدخان، يصبح أخف من الهواء، ثم يشيح بنظره عن ذاته، فيتحول لموجات، يعود ليراقبها وتتساقط جسيماته على حجر أمه..وتختلط بجسيمات دموعها حين تراه يتبعثر، تحتضنه الحضن الأخير، وتراقب ابتسامته وأسنانه البيضاء، وعينيه المفتوحتين نصف فتحة...تبكي وتتحول لموجات بدورها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى