يوسف القعيد - مشاهد / متشائل

مهما تقدم بي العمر... فإن صورة هذا الخطاب تبقى أنصع ما في الذاكرة... وكلما أوغلت في السنوات ازدادت صورتها بهاء وحضورا... يومها انصرفت من المطبعة وأنا حزين لأن صاحب المطبعة عندما استأذن مني لم يعد إليّ بعد ذلك. وبالتالي لم أطلعه على الرسالة... وقد عدت إلى وحدتي العسكرية وقلبي ينوء بالفرحة الكبيرة وحده.
كان الزحام حولي من كل جانب... لكن كل هذا الزحام كان يعني بالنسبة لي: لا أحد... كان من المستحيل عليّ أن أوقف أحدهم أو إحداهن لكي أطلعه أو أريها الرسالة. وفي الوحدة... كنا مجموعة من المجندين الذين استبقوا بالخدمة وفكرتهم عن الأدب والأدباء تكاد تكون معدومة... وأنا - بسبب ظروف الجيش المنضبط - كنت أعتبر الكتابة والقراءة والنشر سراً خاصاً بي.
كانت الرسالة الوحيدة التي وصلتني إذناً بعد روايتي الأولى... هي رسالة جبرا إبراهيم جبرا. الذي رد عليّ في رسالة مطولة، من يومها ونحن نتبادل الرسائل. ونشأت بيننا على البعد صداقة من نوع غريب... بل إنه أرسل لي وطلب قصة قصيرة نشرها في مجلة: العاملون في النفط.
وكان اسمها مطبوعاً على المظروف الخارجي للرسالة الأولى التي وصلتني من جبرا. أكتب هذا الكلام بعد سنوات طويلة من الذاكرة، وأرجو أن تستجيب ذاكرتي بشكل دقيق ولا أتذكر أموراً لم تحدث... فهذا يجري معي كثيراً في السنوات الأخيرة.
وقد أرسلت له قصة من بواكير قصصي، ونشرها، وكان حريصاً على أن يرسل لي مكافأة نشر القصة وإن كان قد نسي أن يرسل لي المجلة التي نشر بها القصة.
كنت في القاهرة مجنداً بالجيش ولم يكن لي عنوان. كان من رابع المستحيلات أن أراسل أحدا بعنواني في وحدتي العسكرية... وما بالك إن كان هذا الأحد خارج مصر. أي خارج الحدود.
وكانت الحدود كلمة تخض من ينطق بها ومن يسمعها في تلك الأزمنة البعيدة... لأن الحدود تعني حدود الوطن، والوطن يعني الدفاع عنه ضد المعتدين.
وأنا كنت مجنداً في الجيش ومستبقياً بالخدمة لاسترداد الأرض المحتلة من العدو الإسرائيلي.
ولم يكن من الطبيعي استمرار مراسلتي له عبر عنوان المطبعة. لأنها كانت مسألة متعبة... ولهذا كتبت له عنواني الذي كنت أراسل الناس من خلاله، في تلك الأيام البعيدة.
وهو عنوان قريتي: «الضهرية. مكتب بريد التوفيقية... مركز إيتاي البارود، محافظة البحيرة - الجمهورية العربية المتحدة»... كان هذا الاسم لمصر لايزال سارياً ومدوناً في أوراقنا رغم مرور سنوات ثمانٍ على الانفصال بعد الوحدة «المصرية - السورية». لكن حتى رحيل عبدالناصر كان اسمها الجمهورية العربية المتحدة.
عندما قابلت جبرا في بغداد بعد ذلك بسنوات طويلة... حدثته عن هذا الخطاب. ولم استفض في شرح معانيه ودلالاته. فالكتابة أسهل من الحكي، ثم سألته عن طريقة وصول روايتي إليه.
تركني وعاد إلى الوراء. ثم قال انها حضرت له بالبريد من مصر... وكان ذلك غريباً... صاحب المطبعة لم يفعل هذا. لأننا تسلمنا جميع النسخ منه. والرواية ليس لها ناشر حتى يقوم بإرسالها إلى جبرا.
وأنا لم أرسلها لأن كل ما كنت أعرفه عن جبرا وقت صدور روايتي أنه مترجم رواية فوكنر الشهيرة: الصخب والعنف. وكلما قرأتها جاءني إحساس أن الترجمة العربية لابد أنها أفضل من النص الإنكليزي الذي لم أقرأه.
ولم يكن جبرا ضمن القلة ممن أرسلت لهم الرواية من النقاد العرب، الذين زودني بأسمائهم وعناوينهم غالي شكري. كما سبق أن قلت.
قال لي جبرا بعد فترة من محاولة التذكر... لابد أنك أنت الذي أرسلتها لي... فعلاً أنت. في البداية كان لديّ يقين أنني لم أرسل الكتاب إليه... لسبب بسيط أن جبرا لم يكن ضمن الأسماء القليلة التي أعطاها لي غالي شكري.
وقد اختصرتها بعد أخذها منه إلى أقل من النصف... لأن ظروفي وإمكانياتي لم تكن تسمح لي بذلك الترف. مع مرور الوقت. بدأت أتصور وأتخيل أني الذي أرسلت الرواية إليه... وصل هذا الخيال لحد اليقين مع أنه يكاد يقف في منتصف المسافة بين الحقيقة والوهم... ويرقد على أرض الأسطورة. لدرجة أني كلما قابلته بعد ذلك في القاهرة أو بغداد أو عمان أو تونس أو المغرب كنت أحاول العودة إلى موضوع الرسالة... أستجمع معلومة من هنا- وجزئية من هناك. حتى رحيله المفاجئ عن عالمنا. ورغم السؤال والجواب كانت معلوماته شحيحة وتذكره للأمر ضبابياً ولم يفدني بشيء أساسي.
عندما سافرت إلى بغداد، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي... كان من أهم وأول مشروعاتي أن ألتقي به، وقد فكرت في هذا اللقاء وأنا لا أزال في القاهرة قبل أن أشد الرحال. وتم اللقاء.
وتكرر اللقاء، ولم يكن من حديث في هذه اللقاءات سوى عن حال عرب سنة 1977... وأشهد أنه كان متفائلاً... فهو عائد من رحلة طويلة إلى الجانب الآخر من عالمنا... عائد من أوروبا وأميركا... أما أنا فمغروس هنا في الواقع. كل يوم أفطر على خلافات وتمزقات وشتائم العرب، كانت نظرتي متشائمة.
ولكنه كان متفائلاً إلى أبعد الحدود. بل قال لي إن المستقبل في عصرنا للعرب دون سواهم. وأعتقد أن تلك كانت حالته أيضاً عندما عاودت اللقاء به في بغداد بعد ذلك... وربما بعيداً عن الأضواء. حياته جادة ولا أعتقد أن فيها ما هو أكثر من العمل المستمر. وفي الحقيقة إن نشاط جبرا إبراهيم جبرا في ميدان أو ميادين الأدب ملحوظ بصورة غير عادية. له في الرواية، «صراخ في ليل طويل» و«السفينة» روايته الثالثة: «البحث عن وليد مسعود»، وروايته الأخاذة: «السفينة». وكتب القصة القصيرة: صدرت له «تمزق». وكتب الشعر، له أكثر من ديوان شعري جيد. منها: «عرق». وكتب الدراسة النقدية: له «الرحلة الثامنة»، «النار والجوهر». هذا فضلا عن الترجمات الكثيرة. ترجم رواية وليم فوكنر «الصخب والعنف»، وترجم مسرحيات «شكسبير». وصدر له كتاب أرمند ويلسون «قلعة أكسل».
هذا فضلاً عن رواية له كتبها بالإنكليزية، وصدرت في لندن منذ سنوات، وترجمها الدكتور جابر عصفور، وصدرت بالعربية لأول مرة.
لا يمكن في هذا المقام أن نغفل اهتمامات جبرا بالفن التشكيلي، له كتاب عن الفن التشكيلي المعاصر في العراق، ودراسته الشهيرة عن نصب الحرية للفنان جواد سليم. جلست معه... كان عائداً من أميركا تواً. من رحلة طويلة إلى الجانب الآخر من عالمنا.
أعلى