نزار حسين راشد - خارج الحدود.. قصة قصيرة

رفعت رأسها عن شاشة جهاز الحاسوب المنتصب أمامها، وأعلنت عبر نافذة الحاجز الزجاجي:
- أنت نظيف كصفحة بيضاء.
ثُمّ أشارت لي بأصابعها أن أنتظر!
في مطار أوروبي، وكعربي مسلم، عليك أن تنصاع للأوامر، مغبّة الوقوع في إشكالات، فهم هنا حَرفيون، لدرجة لا تصدّق، عرفت ذلك من واقع خبرتيش سابقة.
اختفت من وراء الحاجز الزجاجي، ولم تمض إلا دقائق حتى وجدتها منتصبة أمامي وعلى فمها ابتسامة ودودة، تأملتها قليلاً، وسرت في أوصالي رعشة ما، كانت أقواس جسدها تنطق بحياة انبعثت للتو، لم تمهلني كثيراً، قالت:
- لك عندي مكافأة صغيرة.
ألجمتني الدهشة، وتركتها تسترسل:
- سأقلّك إلى حيث تريد أن تذهب، سأوفر عليك أجرة التاكسي! ما رأيك؟
قلت مقلداً نبرة مارلون براندو في فيلم العرّاب:
- هذا عرض لا أستطيع رفضه!
لم تتمالك من الضحك على طريقتي في الإلقاء، وأردفت:
- اتفقنا إذن!
وهكذا سرنا معاً إلى حيث موقف السيارات، واستويت جالساً إلى جانبها، وانطلقنا على الطريق الخارجي العريض، ولم تسألني حتى عن وجهتي، مما حفزني بعد برهة صمت، أن أسألها ببراءة مصطنعة تخفي وراءها شيئاً من المكر:
- ما سبب كل تلك الحفاوة يا ترى؟
تلاعبت على شفتيها ابتسامة، وأجابت دون أن تلتفت نحوي التزاماً بقواعد القيادة الجادّة:
- ببساطة لقد انجذبت إليك، لقد مضى وقت طويل دون أن أنجذب إلى رجل، أحبطتني تجاربي الخائبة معهم، بياناتك تقول إنك أعزب، وقلت في نفسي، يا فتاة جرّبي شيئاً جديداً!
والآن ما رأيك ؟ إما أن أوصلك إلى فندقك، ونفترق هناك وينتهي الأمر، وسأكون آسفة أو نتفق على ترتيب ما!
بالمناسبة : ألم أقل لك؟ إجازتي تبدأ منذ الغد، وأنا الآن حُرّة، بسطت راحتيها في جذل تاركة المقود للحظات قبل أن تعيدهما فوقه من جديد، التفتت إلي التفاتة خاطفة، والآن ماذا تقول؟
أجبت مداعباً:
- سيدخلني الله في التجربة!
أطلقت ضحكة ظافرة وعقّبت:
- أتدري تعجبني طريقة إجاباتك، مرحة وعفوية، لقد توقّعت أن تنجح خطتي، المرأة إذا لم تخطط،لن تحصل على شيء على الإطلاق، ولكن الأهم من ذلك، هو تلك الجاذبية التي تولد من اللحظات الأولى، من نظرات العينين، إيقاعات الجسد، والأحاديث المقتضبة المشحونة برغبة غامضة.
أوقفتني على باب الفندق وشرحت لي الخطة بإيجاز وتبادلنا أرقام الهواتف، تحسباً أن يحدث طاريء ما، وختمت بالقول:
- سآتي لأقلّك في الصباح، معك الليل كله لتستريح، لا تسهرها؟
كان صباحاً مشرقاً وبهيجاً، وحين أرحت جسدي على المقعد إلى جانبها، لم أمهلها كثيراً وقلت قبل أن أفقد شجاعتي:
- سأقدّم لك عرضاً إما أن ترفضيه أو تقبليه!
هزّت رأسها مستفسرة بشيء من الدهشة:
- ماذا؟
- سأتزوجك قبل أن نفعل أي شيء!
طفت في عينيها نظرةُ مَنْ ذهب في تفكيرٍ عميق، قبل أن تسأل في حيرة لم تخفيها:
- ولماذا؟
- إكراماً لك،امرأة مثلك لا ينبغي أن أحصل عليها مجاناً هكذا، لا بد أن تكون لك عندي مكانة ما، صفة تدعو إلى الإحترام!
ارتفع حاجباها في شيء من الدهشة:
- هل أنت جاد!
هل يتعلّق الامر باحترامك لي ومكانتي لديك؟
- نعم بالتأكيد! على الأشياء ألا تفقد قداستها، وإلا تحولت إلى شيء رخيص!
ربما كان ذلك أكثر مما تطيق، فانحرفت إلى المسار الأيمن وأبطأت سرعتها وركنت إلى جانب الطريق، وألقت برأسها على المقود قبل أن ترفعه لتنظر في عيني نظرة قرأت فيها إعجاباً ممزوجاً بالامتنان لتعلن بكل ما فاضت به مشاعرها:
- حقّاً أنت أكثر نبلاً مما توقّعت!
على جانب ذلك الشاطيء الخالي تقريباً من الروّاد، تلاطمت أمواجنا طارحة حذرها جانباً ومقرقرة بكل معاني الحُب بين رجل وامرأة، كانا قبل برهة من زمن غريبين عن بعضهما تماماً!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى