حنان حلبوني - الشماعة.. قصة قصيرة

قصيرة
بتثاقلٍ وصعوبة، بعجزٍ وكسل، زحفتْ بجسدٍ ثقيلٍ هرمٍ لفتاةٍ شابةٍ في مقتبل عمرها. استغرقت في الانتقال من السرير وحتى طاولة المكتب من الوقت ما يكفي للانتقال من ساحة الأمويين إلى ساحة العباسيين.
بالكاد جلست على كرسيٍّ واطئٍ بلا مسند، فتحت جهاز الحاسوب، فرقعت أصابعها ثم نشرتهم فوق لوحة المفاتيح استعداداً لكتابة نص الرسالة الالكترونية الذي سترسله إلى أصدقائها الافتراضيين، والمختصين النفسيين والاجتماعيين، ستقدم شرحاً وافياً عن معاناتها، وستطلب مساعدتهم وآراءهم، وستبكي كثيراً أثناء كتابة الرسالة، وقد تضحك ولكن ضحكةً ساخرة متهكمة، فمعضلتها عميقة، معقدة؛
" مشكلتي بدأت منذ اللحظة التي ولدتُ فيها، بل قبل ذلك، حين كنتُ جنيناً متربعاً في بطن أمي، في الحقيقة لم أتربع هناك، ولم أذق طعم الهناء أو الراحة حتى في رحم أمي الدافئ، تلك المعاناة التي لا يمكن لمخلوقٍ تصورها، إحدى العجائب المؤلمة والمروعة، ذلك القدر الذي اختارني من بين ملايين البشر ليلصق بجسدي جسد أختي التوأم، اختارني لأحتمل البؤس والألم والعذاب، ولأصبح شابةً معطلةً عن الحياة بكافة أشكالها، وأتعايش مع الإخفاق والفشل. أختي التوأم التي يعتقد الجميع بأنني أحبها ولا أستطيع الانفصال أو الابتعاد عنها كما هو الحال مع باقي التوائم، لكن في الحقيقة أنا أكرهها ولا يمكنني البوح بذلك، بل أتظاهر عكس ذلك تماماً.
وُلدنا بجمجمتين ملتصقتين من الخلف، وكبرنا ونحن على نفس الحال، لا أنا أستطيع رؤية وجهها، ولا هي تستطيع رؤية وجهي إلا بوضع مرآتين متقابلتين، ولن يتمكن أمهر جراحي هذا العالم من إجراء عملية فصل، بسبب تداخل الأعصاب وتشابكها، فخيار الفصل الجراحي غير واردٍ إطلاقاً، بل هو خيارٌ مستحيل.
حين كنا معاً في رحم أمنا أذاقتني الويل، وحين خرجنا إلى هذا العالم حرمتني من الحرية ومن الراحة ونازعتني السرير والوسادة، ولاحقاً الألعاب وحنان الوالدين، ثم مقعد الدراسة ومقعد باص المدرسة، ربطة شعري، أو بالأحرى شعري، وأشياء أخرى كثيرة لا يمكنني تذكرها أو تعدادها.
مأساتي تكمن في أن لا شيء يجمع بيننا؛ فأنا جميلة وهي قبيحة، أنا ذكية وهي غبية، أنا أحب الليل وهي تحب النهار، أنا أحب الصيف وهي تحب الشتاء، أنا أحب الموسيقا الكلاسيكية وهي تحب شعبان عبد الرحيم، أنا أحب عطور كريستيان ديور وهي تحب عطورات الغبرة، أنا ماركسية وهي ليبيرالية، أنا أحب ارتداء اللون الأسود وهي تحب ارتداء اللون الأبيض، وعندها نبدو تماماً ههه (المضحك المبكي) كقطيع حميرٍ وحشية.
باختصار، لا شيء يجمع بيني وبينها سوى تلك البقعة اللعينة الملتحمة في رأسينا.
ولا تقف حدود مأساتي هنا، بل هناك أكثر من ذلك بكثير؛ فأنا مضطرةٌ دائماً للسير بطريقةٍ غبية، والوقوف بشكلٍ مشوه؛ إذا سرنا، سرنا كالسلطعون، وإذا جلسنا، جلسنا كتمثال بوذا، وإذا نمنا، نمنا كأمّ أربعٍ وأربعين، وكل ذلك يسبب لي آلاماً في العمود الفقري.
كل تلك المعاناة احتملتها بفمٍ ساكت، ولكن الذي لم أعد أستطيع احتماله هو حرماني من المنحة الدراسية إلى باريس، فرغم تفوقي الدراسي خسرت المنحة المجانية التي يحصل عليها الطلاب الثلاثة الأوائل في الجامعة من أجل متابعة دراستهم العليا في جامعة السوربون، وذلك حين اطلعت الجامعة على سيرتي الذاتية، وأرسلت لي اعتذاراً عن قبولي.
قطعةٌ من الجحيم التصقت بي وحولت حياتي إلى جحيمٍ حقيقيٍّ لا يطاق أبداً، أنا أؤمن بأنني لا أستحق ذلك أبداً، بل أستحق أن أعيش كغيري وأسافر وأحب وأكمل دراستي في أفضل جامعات العالم، ثم أعمل وأتزوج وأنجب كأيّ أنثى في هذا العالم، لكنني ابتليتُ بأختي التي حرمتني من كل ذلك.
أطلب منكم المساعدة، كل من يملك نصيحةً أو طريقةً تساعدني في الخروج من هذا السجن، أو في إيجاد عملٍ يناسب وضعي المأسويّ أرجو منه أن يساعدني.
أؤكد لكم أصدقائي أن أختي هي السبب في جميع إخفاقاتي، ولولا وجودها في حياتي إذن لتربعتُ على عرش النجاح، ولأمسكتُ المجد من جميع أطرافه.
المعذبة (ف.د)"
أنهت فريدة الرسالة وهمّت بإرسالها، لكن قبل أن تضغط زر الإرسال دخلت أمها إلى الغرفة ووجدتها كالعادة مقابل شاشة الحاسوب، جنَّ جنونها وأخذت تصرخ في وجهها؛
لا أراكِ إلا وراء هذه الشاشة اللعينة، جدي لنفسكِ عملاً ينفعكِ، انظري إلى نفسكِ في المرآة، قفي على الميزان، اخرجي من سجنكِ إلى العالم الواسع، حطمي قيودكِ، ألم تملّي من هذه الحياة السلبية؟ لمَ لا تكونين مثل أختكِ؟ كل يومٍ تخرج في السابعة صباحاً، تنتهي من عملها في المدرسة ثم تذهب إلى الجامعة، ولا تعود إلا في السادسة مساءً، وأنتِ .... آه منكِ تقتلين الوقت إما بالنوم وإما وراء شاشة الحاسوب، لا أدري بماذا سينفعك هذا الكسل، هذا موتٌ بطيء، قومي قومي هيا.
وضعت فريدة يديها على أذنيها وأغمضت عينيها وصرخت بأعلى صوتها؛
كفى يا أمي ... كفاكِ دروساً ومواعظ، مللتُ من أسطوانتكِ المشروخة، كل يوم، كل يوم نفس الحديث؛ أختك، أختك، أختك، اتركيني وشأني، أنا أعرف ماذا أفعل، اتركيني وشأني.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى