جمعة شنب - فيرازانو 1 - مقطع من رواية قيد الكتابة

كانتِ السّاعةُ قد شارفت على التاسعةِ ليلًا، حين قتمت روحي تمامًا، فخرجت من القبو الذي أقطنُه، تحت بيت السيّد Gus وزوجته الإغريقيّة السيّدة آفردويت.
كانتِ الأرض ملفّعةً بالأبيض، والسّماء غائبةً، وكأنّما لم تعد موجودة، وكان كلّ مابينهما محايدًا باردًا، وبالكاد عثرتُ على سيّارتي، مطمورةً بالثلج، مع أنّه قد توقّف عن الندف منذ ساعات الظّهر، ما زاد في انقباضي..
أنا أمقت الحياد بكلّ صوره، لكنّ حيادَ الطبيعة عند زاوية الشارع 68 مع الجادة 7 قد خلع قلبي من صدري..إن ّ الحديقة العامّة المطلّةَ على قبوي، والممتذّةَ على مساحةِ مربّعين سكنيّين، محايدةٌ أيضًا: لا أثر لمروّجي المخدّرات، ولا لبنات اللّيل هناك، حتّى الكراسي الخشبيّة محايدةٌ حيادًا منبوذًا، وممدّدةٌ باستسلام مقيتٍ، استسلام توابيتَ أنيقةٍ لبيت جنائزَ إيطاليّ، ومن ورائِها لم أتبيّن أضواءَ مطعم Diner كما اعتدتُ من قبل، حيث صديقتي النّادلة المجتهدة جنين، التي تزيد قهوتي كلّ خمس دقائق، في لياليّ الطويلة الموحشة..
أخرجت من جيبي بخّاخًا صغيرًا ورشستُ كلّ ما فيه في ثقب المفتاح بباب السيُارة، فأفسح الجليد مكانًا لرأسه المعدنيّ المبسّط، وعبرتُ غرفة السيّارة، فأحسستها تابوتي الذي سرت إليه برجليّ اللّتين لم أعد أشعر بهما، كما لو كانتا تخصّان فيلَ ماموث منقرضًا. لكنّها بعد محاولتين ثنتين قد اشتغلت، وأول ما أنبأتني به كان درجة الحرارة التي هبطت عن الصفر المئوي بثماني عشرة درجةً، ولمّا حاولتُ التفكيرَ، بأن برودةً كهذه، كفيلةٌ بإثارة الفزع في روح دبٍّ ماكرٍ، يتصيّد الأسماك والكلاب في ألاسكا، لفّني الحياد.
لم تكن المسافة بيني وبين جسر فيرازانو العملاق تتعدّى خمس دقائق بالسيّارة، وكان هذا الجسر الذي يربط بْروكلين، مدينتي القدريّة، بجزيرة سْتاتِن، حيث يعشعش رجال المافيا، وتجّار الموانىء، وكثيرٌ من الساخطين، وعدد كبيرٌ من العاطلين، كان رفيقي.
جسر فيرازانو صديقي على مدار السنين الثلاث التي كنت قضّيتها في هذه المدينة، حتّى تلك اللّيلة، صديقي كلّما انقبضت روحي: أقف قبالته، وأبثّه ضيقي ونفاد صبري، قترشّني الأمواج المنزلقةُ من تحته، ومن بين قواعده المتينة المنغرزة في أرض الخليج، لتغسل روحي، وأروح أحدّق في أضوائِه العاليةِ، وأقول له أنّنا غريبان، وتدوسنا أقدام الرياضيّين وعجلات الشّاحنات المارقة، فيتمايل طرِبًا للفكرة..جسر فيرازانو كان مطهري في العتمة البيضاء الجامدة، وبروكلين كانت منفاي المحتّم، واللّغة كانت كالحةٌ ومالحة.
-مساءُ الخير يا صديق !
ولم يرشّني رذاذ ماءٍ، فالخليج شبه متجمّد، وأضواء صديقي غائبة في الضباب، موغلةٌ في الغياب!
2-
(حردان) كان فيرازانو..
ربّما كان يتمنّى لو ينتصب في مدينة أيطاليّة، حيث الرّجل الذي سُمّي باسمه، وربّما كان يشكو قلّةَ وفاء المارّين من فوقه، ومن تحته، أو القاطنين قريبًا منه، وربّما كان يشكو الصقيع أيضًا.
أمّا أنا فلم أشكُ شيئًا: لقد لفّتني البلاهةُ، وشملتني، واستولت على كلّ مدّخراتي الروحيّة، والماديّة، هكذا، ومرّةً واحدة.
كنتُ قد تهتُ في الضبابِ الذي يلفّ الخليج والأرض والجسر ببهاءٍ وكِبر، وكنتُ أفكّر في ليالي دوستوفسكي البيضاء، وأنفي عن هذه اللّيلة أيّما شبهٍ بها، وقرَرْتُ على أنّني مخلوقٌ بائسٌ، لا يملك من متاع الأرضِ أكثر من الوقوف في الصقيع، قدّام جسرٍ جامد، تدوسه الشاحنات على مدار الساعة، وتمرّ من بين رجليه السفن العملاقة، دون أن يكون له موقفٌ من أيّ شيء على الإطلاق، وخلال دقائقَ كنتُ أعلنت القطيعة مع الجسر الأبله: إنه مجرّد ألواح معدنيّة رتيبة، وأسلاك سميكة، ذات أقطار مبالغٍ فيها، وهو يعتمد على علاقات هندسيّة لا روح فيها، تُوازن بين الباطون المسلّح والمعادن، وقدرة كلّ بوصة على التحمّل، كما إن المهندسين ذوي الأحذية ذات الرّقاب الطويلة، والقبّعات الصفراء المصنوعة من البلاستيك المقوّى، يكثرون من الحديث عن قدرته على مواجهة الزلازل..إنّ علاقتي بالجسر هي علاقة سخيفة منذ البدء، لا معنى لها، ولا روح فيها.
وقبل أن أشيح بوجهي عنه، سمعت صوت عجلات سيّارة تنزلق من خلفي، ولما التفتُّ لأتبيّن ما إن كان ثمّة من يمكن أن يكون في هذا المكان، في هذه الساعة من اللّيل، وتحت درجة البرودة المتدنّية غيري، كان شابٌّ يافعٌ يدعّ بنتًا من قلب سيّارة رياضيّة، لتسقط على الثلج، ويتابع سيره، وسط سيلٍ من الشتائم التي لا تتناسب وفتاة جميلة لم تتعدّ العشرين.
كانت أيريكا شقراء طويلة وغير جديرة بموقف مهين كالذي حصل للتّو، وقد راحت ترتعش وهي تخبرني أن صاحبها قد بالغ في السّكر، وتدخين الممنوعات، قبل أن يثور بينهما نقاش، ويلقي بها من السيّارة وينسحب.
إن الحديث إلى إيريكا المنكوبة، التي راحت تشكو البرد، وعدم وجود مأوى يلمّها، بعد أن ألقى بها صديقها الذي تعيش معه منذ أربعة شهور، من سيّارته، مثل أيّ خرقةٍ بالية، مختلف كلّ الإختلاف عن الحديث إلى جسر فيرازنو.
لم يستغرق هذا الحوار المقتضب أكثر من دقيقتين، لأجدني أدعوها للركوب في سيّارتي، وهو ما لم تتردّد فيه.
-أنا إيريكا.
-أنا رفيق.
-سعدت بلقائك يا رفيك، وقبل أن أعبّر عن سعادتي بلقائها أيضًا، راحت تدسُّ أصابعَها في فتحات التدفئة، وتغنّي.
-أنا جائعة.
وتذكّرت أنّي لم أتناول طعامًا منذ ليلة أمس، فتوجهت من هناك إلى مطعم Diner القريب من بيتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى