محمد إبراهيم الصومالي - هذيان علي قارب

يتأرجح بك القارب الذي تجلس عليه لأول مرة ، خائف من السقوط، عقلك يخبرك بأنه نهر وليس بحرا ، وإن سقطت فلن تتضرر ، ولن تغرق!
لكنك ما زلت خائفا من السقوط ، وممن يعيش في النهر ، من المياه ذاتها ، التي تحمل لون السماء المشربّة بالحمرة ، والأشجار الخريفية التي تعرّت من أوراقها طلبا للبرودة.
خائف من كل شيء حولك، إنها رحلتك الأولى بعيدا عن حضن والديك، أو حضنك الذي لم تتركه أبدا، عيناك ترغبان بالتأمل وأنت ترجف .. ولا يمكنك بلوغ النشوة.
الشمس تطلُّ عليك من خلف النهر، تلوِّح مودعة لك، تسلِّمك لليل ، تتعلق عيناك بها، يزداد خوفك ، والدلّال الذي يحرك القارب جعل من يديه مجدافا يوجهك به..
تحدق إليه بمشاعر متضاربة ، مرتعب من إظهار خوفك له ، وغاضب من تصرفه الشنيع، ومتعجب في الوقت ذاته.
لست قادرًا على الوثوق به ؛ غريبٌ هو ، يقتات على بعض أوراق نقدية ستدفعها له ، وتأتمن حياتك عليه إذا ما واجهتكما معضلة، بل إنه بقانون خوفك هو مجبرٌ على حمايتك لأجل الأوراق النقدية الثلاث التي دفعتها له ، مع أنك لم تفصِح له عن كونه ليس يساعدك على التنقل وحسب ، بل هو مخوَّلٌ بالدفاع عنك!..
يتلاشى ضوء النهار ويخفُت ، يأتي الليل بخيلاء ، يزداد خوفك ، تنسى مُتعَتك، تتساءلُ عن كل المخلوقات الليلية التي قد تظهر لك ، أنت في النهار آمن لأن عينيك تبصران جيدا ، وإن كنت غير قادر على الدفاع عن نفسك.. أما ضعفك الآن فمُضاعف، أنت أعمى .. وعاجز !
تلتقط عينُك ذبابة تطير، فتلاحقها ببصرك، لوهلة تظنها فيلاً.
تشعر ببعوضة فتهز ذراعك ، ورفيقك لا يراك، لا أن خوفك يترجَم على الواقع ليظهر جليّا لمن ليس معك..
تهرب للذاكرة ، تبحثُ عن مواساتك هناك ، تتدفقُ خطاياك، لا تدري أتستغفر، أم تكتفي بالندم الذي بدأ يتآكلُك الآن..
ما سبب كلِّ هذا.؟
أليس يفترض بالمغامرة أن تكون مبهرة ، خاطفة للأنفاس ، ذكريات تبقى وحكاياتٍ تروى..؟
مغامراتُك مع الطبيعة بلا طعم وبلا لون، تدرك فجأة كم أنت ضعيف ، وجبان، وقد تصورت نفسك أسدًا..
كلُّ شيء يخشاك، وفي الواقع تخشاه ؛ لأن مفهوم الخشية أكبر من أن تدركه بعقلكَ القاصر.
تحاول أن تجد جوابا لكل سؤال ، حكمةً خلف كلِّ شيء.
كيف يمكن لهذا الزاحف أن يكون ذا فائدة لي، وأنت تخشى حركته البسيطة
لطالما كان القانون -الأقوى ينتصر- ولستَ كذلك
الحياة العصرية التي تعيشها أصابتكَ بالعطب ، نصبت جدارًا عملاقا بينكَ وبين ما خُلِق لكَ، وأنتَ هجرتها حتى باتت تلاحقُك في كوابيسك التكنولوجية!
ثم وفي لحظة تجلٍّ ، وما أكثر لحظاتِ التجلي خلال الخوف ، تدرك كم كنتَ بعيدًا عن الواقع - ليس الذي صُنع - إنما المفترض أن يكون واقعا.
تبحثُ عن شجاعةٍ فقدتهَا ، بل فقدها أجدادُك قبلكَ ، لتُولد دونها ..
لو أني لستُ خائفا لسِرتُ عبر هذه الغابة ! تقول لنفسك
تشيحُ بنظرك، تذكِّرُها أنك افترضت بـ لَو..
ويقول لك عقلك: لا تجعل من نفسك أضحوكة!
يصلُ القارب لوجهتك ، تتَرَاءى لكَ من بعيد أضواءُ الطريق المزعجة ، أبواق السيارات المزدحمة والتي تعبر عن استياءٍ عام اتفق أهل المدينة أن يكون سمتهم الليلة، صفارات سيارات الشرطة، وشاشات عملاقة تعلن كل واحدة عن منتجٍ يبدو أنه سيُشترى بدماء قلبك.. لو أنك عملتَ طيلة حياتك لما استطاع قُوتُكَ أن يكفيك لأجلها.
تتراقص فراشاتٌ داخل معدتك الجائعة .
- سأذهبُ الآن لأفضل مطعم يحضرُ لي شطائر البرغر، وزجاجة شراب غازي - تقول مجددا..
هنا ينسى عقلك أنك مازلت تفترضُ واقعا موازيا لأحدهم، ليس واقِعك بعدُ..
هنا تقع حادثة !
وهنا تجد نفسك ضائعا في المنتصف ، واقفٌ في الحياد ..
أينَ المفرّ ؟



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى