أحمد رزيق - حالات صحو

الخامسة مساء برد خريبكة قارس جدا، لا يمكن أن تعود من حيث أتيت، لقد ودعته وانتهت الزيارة، تتأفف من هؤلاء الغلاظ الذين يترقبون مثل هذه الفرص للانتشاء بسلطتهم الخاصة، هم يعرفون بالتجربة أنك مهما فاوضت في الثمن، فإنك ستقبل في النهاية بما اقترحوه، لذلك لم يكونوا يساومون،، فلكل مجال ابتزازه، ولكل طريقته في التسلط...

صوت بَّا العربي الذي ألفته يجلجل في أركان هذه المحطة الفوضوية المعزولة غاب فجأة :

-"زيد الأربعاء" بْلاصَة للأربعاء، والأربعاء، الأربعاء..."

كثيرات جئن للتبضع، لم تعد تدري أيهما الشيء وأيهما الكائن، شبقية اللحظة تنسي الأذهان الكليلة مرارة تقصم الظهور، وتدفع بالعباد إلى المدى الحالم الذي تتلاشى فيه حدود الأشياء والكائنات.. غاض النبع يا علال، ولم يبق من مجدك الشامخ إلا صورة تتراءى لناظريك كسراب بقيعة، كلما لاح لك من بعيد شبح أحدهم،، تيبست البسمة فوق الشفاه، وانكسر الحلم الذي كان يشع بالأمس في العيون وقادا سنيا، ولم يبق إلا إحساس عميق بمرارة الاستغفال، وهذه الحوارات والمسامرات التي تولد ميتة لم تعد تثير إلا الشفقة حينا والاشمئزاز أحيانا كثيرة... تموت، مت، إذن، أو اسقط، أوقف إذا شئت وارقب في بلادة كيف وزعوا وطنا عشقته منذ الميلاد، بل ربما قبل ذلك بكثير، ارقب كيف بددوا أشلاءك، وانتعلوك وساما...

تنتظر إذن،، حروب الأمس علمتك كيف تنقض على غريمك دون خوف أو تردد، علمتك كيف تحكم الطوق على العدو، مازلت تنتشي بتلك اللحظات، وتنتشي أكثر بحكاياتك التي هرمت مثلك وتآكلت،، لقد تعلمت أيضا كيف تصبر وتنتظر،، الإحساس بالمرارة يفتت كيانك كلما تمكن أحدهم من كسب الجولة في (الضامة)، يفجر ذلك الإحساس، ما تم التغاضي عنه منذ مدة، وما تم نسيانه، ولكنك لا تملك في النهاية إلا أن تستسلم وتصبر وتنتظر.

وفي لحظة الانتظار تتملكك الرغبة في الانطلاق إلى فضاءاتك الخاصة،، لا تكل أبدا ولا تتعب،، فلم يبق في حوزتك شيء إلا الذاكرة الحبلى بالحكايات، وبضع وريقات متآكلة.. تداخل الروايات والأحاديث والصور، يعلو صوتك حينا، وينخفض حينا آخر،، تنتفض لسخرية من هزمك منذ قليل، ترفض الإهانة، تحتج،، ثم تعود من جديد إلى ذاكرتك؛ حكاية الكومندار الذي عثر عليه مشنوقا قرب السوق، الخونة المتواطئون... تذكر الأسماء وكيف تمت تصفيتهم، يومها كانت الرياحين تطلع من كل السواعد،، تتشابك في (الخوادرية) أو المحطة القديمة أو في (البيوت)، لتشكل في إصرار ومكابرة أفقا رصاصيا، ومدى أحمر، يسلب الغفوة من عيون المستعمر، وفي سخاء المجاهد،، ينثر في رحم المستقبل بذرة الفرح الأخضر...

يكمل من هزمك بقية القصة في سخرية قاتلة... مرارة تقطع أحشاءك، تود لو تصمت إلى الأبد، حتى لا يفسد عليك أمثال هؤلاء التافهين، الذين لا يحسنون إلا (الضامة) والضامة ثم الضامة، احتفالك بالحكاية...

كنت تود كذلك لو أنك سطوت على ذاكرات كل من رافقتهم هناك، لتحكي وتحكي،، وتحكي دون أن تكرر حكاية واحدة... كم هو خبيث وقاتل، هذا الذي يميت فيك الذاكرة، ويئدفيك موئلك بسخريته وتنذره.. تحس ذاكرتك معينا ينضب كلما تلاحقت السخرية وعلا الضحك، تشعر أنك مسؤول بشكل ما عن هذا التدمير، ولكن من أين لك أن تحد من تدفق سيل الرداءة والغبن، وأنت على ما أنت عليه، محاصر بين (الضامة). والذاكرة والنكتة المرة السوداء... من أين لك أن تتوثب وتنتفض في وجه من يقتل فيك ذاكرتك بضحكه أو باستدراجه، وهذه الدنيا على ما هي عليه...

لذلك كان لابد أن تنوع حكاياتك... أن تمنح لمخيلتك حرية أكثر، حتى تتمكن من مغازلة الذاكرة ليصنعا معا صورا وحكايات جديدة أجمل وأبهى، تحقق لك الامتداد الذي ما فتئت تحلم به. لكن هل تستطيع ذلك؟؟ هل تملك القدرة على اغتيال صور كاذبة تجدد بها حضورك وانتسابك لهذا الذي أحببته منذ الميلاد،، كلهم قفزوا إلى الواجهة، لما أباحوا لمخيلاتهم أن تغازل الذاكرة، كلهم فجروا... وشاركوا... واعتقلوا... وقادوا...و... تعرفهم واحدا واحدا، كان الجبن يسكن عظامهم ويشل أطرافهم وأدمغتهم؛ نعاج تنتظر الذبح وأخرى تتفرج، وهاهم اليوم يقتاتون من صمتك، ويوزعون ثمار جرأتك بينهم وحدهم بالتساوي.. أخبارهم تثير فيك شبقية الكلام والتنذر، ومرارة تجتاح الذات وتلهب المواجد،، تجتر آلام حاضرك.. وماضيك، ماضيك التليد، المجيد ال... الذي شيده المجهولون من أبناء هذا الشعب بدمائهم،، لا وجود له، لا امتداد له إلا فيك،، وأنت، أنت الآن عار إلا من ذاكرة لا يمكن أن تقيك زمهريرهم،، ذاكرة ترفض أن تغازلها مخيلتك.. أنت الآن عار إلا من هامش وردي تمد فيك رجليك، وتسرح فيه بعيدا، بعيدا عنهم، تؤسس عالمك النقي الشقي، تشكله حسب درجة اهتمام من تخاطب...

-"رحمة الله عليك يا ابن عبد الكريم، رحمة الله عليك يا ابن عبد الكريم" ما كان للمجاهد أن يستريح" ما كان له قط أن يستريح..."

مرارة لا تستساغ، بالأمس كانت قرطبة في أوج فرحها؛ عروس تتثنى في انتشاء مزهوة بلحظة الظفر، والطارق يكبر فاتحا زمن المواجهة والامتداد،، حضارة تولد والأمة الشاهدة تنبثق، هي لحظة الامتداد باتجاه القمر، لحظة الصعود،، تذكرها جيدا.. نعم.. تذكرها جيدا.. كانت تغامر في الليل أو في النهار، لا وقت للانتظار ولحظة الإشراق تبدد كل الجيوب الداجية المظلمة.. ما زلت تذكر (حيكها) الداكن، وهي تذرع الشارع تحت أعين الجند.. كان الاستقلال أنشودة شعبية تتدفق كلماتها نارا ولهيبا من حركتها الخشنة،، زغرودة فرح غامر تختبئ وراء نظرة ملأى بالحزن والأسى،، صورتها كابية العنين ما تزال عالقة بذاكرتك.. تلك لحظة الامتداد فمن يقدر الآن أن يتنكب شعبها الوعر الشامخ فينا،، من يقدر،، من يقدر وزمن الردة عوسج يمتد ليكتسح في فجاجة كل الأشياء الجميلة،، لكن هل تستطيع أن تمنح لمخيتلك حرية كي تعازل ذاكرتك الطيبة في جرأة الجبناء أن أقدموا؟؟ هل تستطيع أن تقتات ممن أحببت؟؟

أيها الصاعد المجاهر بامتداده في كل مكان رغم أنوفنا وأنوفهم، صباحاتك الندية تبدلت، لم يعد لها طعم الندى تلامسه أصابعنا الهاربة من النعال ونحن نزحف في صبيحة من صبيحاتك باتجاه طريق الجبل، لنهاجم دورية من دوريات العدو، أو لنختفي ونتوارى عن العيون حتى تهدأ الزوبعة التي فجرناها ليلا وتمحي آثارها.. لم يعد لها طعم رحيق الأزهار البرية تقتحم بعنف خياشيمنا في يوم ربيعي مشمس ونحن نتحفز لنزيل أخدودا من أخاديدك الدامية أيها الوطن، أو لنمحو عن جبينك غيمة الأسى والحزن،، فهل تصمد أيها العلال كدأبك قديما، أم أنك ستتهاوى أنت الآخر وتنحني؟؟

-"لم تعودنا الانحناء أبدا للعواصف والأنواء،، لم تعودنا، يا من أحببناه منذ الأزل، أن تقتات منك أو أن نفصل من جلدك أوسمة،، علمتنا فقط، يا سيدي، أن نعطي، ونعطي، ثم نعطي... وأن لا نفكر في الثواب إلا يوم يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب..."

تصبح في وجه من استفزك،، تعانق (الضامة) بعينيك من جديد.. المسالك تختلف وتتنوع، منها ما يوصل إلى المبتغى، ومنها القصير الذي قد تتسرب منه في الغالب خيول عزيمك، لكنك بحكم سنوات الممارسة صرت تحذق التنقل من مسلك إلى آخر دون أن تكلفك النقلة خسارات كبيرة، تلتفت باتجاه المحطة عل سيارة أجرة تأتي من الأربعاء لتوصلنا جميعا إلى بيوتنا.. كلما مالت الشمس نحو المغيب أكثر، كلما زادت رغبة الابتزاز لدى أصحاب سيارات الأجرة،، قد يزيد الثمن بالثلث أو قد يتضاعف، هل تنتفض؟ هل تصرخ؟ وهل... لكل مجال ابتزازه، ولكل طريقته في التسلط إلا أنت يا علال.. تحني رأسك وتقبل بالابتزاز...ألف هاتف خبيث يصفق في أعماقك لانحناءتك.. لقد ودعتهم ولا يمكن أن تعود، ثم إنهم.. بل ربما.. وقد.. كل الاحتمالات تتوارد في هذه اللحظة. : جلسة (الضامة) وأحاديث الاستغفال و... تتكوم في زاوية السيارة كسائر عباد الله البسطاء الذي ما زالوا يمهرون زمان السحق بعرقهم الطاهر، وبمزيد من اللامبالاة والفكاهة... وتعود من حيث أتيت...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى