حاميد اليوسفي - زيدان.. قصة قصيرة

وقف أمام باب الدرب يحمل بقجة* جمع فيها حاجياته . أحس بغربة باردة تلفح العرق الذي بدأ يتصبب من جبينه . هنا ترعرع وكبر . كل البيوت تعرفه . الآن هو حر . يمكنه الذهاب حيت يشاء . يستيقظ وينام في الوقت الذي يختاره . لن يسأله أحد بعد اليوم لماذا تأخر ، أو أين كان . لم يخطر جحيم كهذا بباله . سقطت دمعة من عينه . حجبت ظلمة خفيفة نور الشمس . سأل نفسه إلى أين سيتجه ؟
زيدان رجل شديد السمرة ، رأسه صغير ، شعره أكرد ، عيناه ضيقتان إلى حد يجعلك تعتقد بأنه أعمى ، قصير القامة ، نحيف الجسم . خرج من الرياض الذي عمل وعاش فيه خادما حتى أواسط الستينات .
بعد كل هذه السنين قدموا له قليلا من المال يكفي لشراء تذكرة سفر وطعام الطريق ، وقالوا له أنت الآن حر .
تذكر أن له أما وأبا وإخوة ، وربما أعماما وأخوالا لا يعرف عددهم إلا الله . لكن انقطعت بينه وبينهم السبل منذ كان طفلا صغيرا . كل ما استطاعت ذاكرته الاحتفاظ به هو صور بدون ملامح ، لهجوم على قرية نائية ، وسلب نسائها وأطفالها ، ونهب خيراتها واستعباد رجالها . وبعد ذلك قطع طريقا طويلا ، وانتقل بين أيدي كثيرة ، حتى انتهى به المطاف هنا في الرياض .
الجدران صامتة وحزينة مثله . ربما تعرف أكثر مما يعرف عن نفسه .
مال زيدان ـ رحمة الله عليه ـ على اليمين ، وجلس بالقرب من (الفرناتشي) . سمح له صاحب الحمام بالنوم في الداخل بالقرب من الموقد . في الصيف ينام بالممر القريب من الباب .
أشفق عليه سكان الدرب . سمحوا له أن يقوم ببعض الأعمال المتقطعة مقابل ضمان لقمة عيشه .
وهو يمر داخل الدرب تنادي عليه امرأة من خلف الباب :
ـ تعال يا زيدان خذ معك وصلة الخبز إلى الفران .
وتنفحه ببعض الفرنكات أو الثياب القديمة .
يلتقي بأحد السكان أمام الدرب ويطلب منه :
ـ إذا أوصلت الخبز إلى الفران خذ من دكان الحاج عمر قنينة الغاز إلى البيت .
هكذا بدأ ينسى مأساته في النهار بقضاء حاجيات الناس مقابل لقمة العيش . أما في المساء فلا بد أن يدخن بعض (غليونات) القنب الهندي ، لتجعله يسبح في أحلام لذيذة ، وتبعد عنه كل الآلام والكوابيس التي تغزوه في الليل ، وتطرد النوم من جفنيه .
في رمضان ، بعد انتهائه من العمل ، يجلس بين باب (الفرناتشي) ومتجر البقالة . يفترش (الكارطون) ، ويضع صينية الفطور الذي تصدقت به إحدى الأسر أمامه . الحريرة والقهوة والحليب والبيض والتمر والحلوى الشباكية والرغيف المدهون بالزبدة .
لا يُؤذن لصلاة المغرب في فصل الصيف إلا بعد اقتراب الساعة الثامنة . زيدان يتعجل الفطور ساعة قبل الوقت المحدد . يخرج المطوي والسبسي* . يملأ الشقف* بالكيف . يشعل عود ثقاب ، ربما ليتأكد من وجود ظلام يوحي بان الفطور قد حان وقته . ينظر إلي النار بعينيه الضيقتين حتى تحترق أصابعه . يشعل عود ثقاب آخر . وهكذا دواليك . ربع ساعة تقريبا تفصله عن الآذان . يشعل السبسي بحركة عصبية ، يدخن ، يتذوق القهوة والحليب ، تنفرج أساريره كمن أزال عن كتفه حملا ثقيلا .
كل يوم يصوم حتى يقترب الآذان ثم يشعل (السبسي) . أبناء الحي يراقبونه من بعيد . يضحكون وهم ينتظرون الآذان قبل الدخول إلى منازلهم لتناول وجبة الفطور .
عندما تنام المدينة في فصل الخريف ، يجلس وحيدا . ينفخ في دخان الغليون كرات صغيرة تتبدد أمامه وتتحلل ثم تختفي . تارة يتخيل نفسه طفلا صغيرا يلعب رفقة إخوته في فناء البيت . وتارة يتصور أمه وهي تداعب بأناملها الرقيقة شعره الأكرد ، وتارة يرى نفسه عريسا يجلس بجانب فتاة سمراء مثله ، اختارتها أمه بعناية فائقة ، ويلبسان ثيابا بيضاء مثل نور القمر .
كل ليلة يخترع قصة جديدة ، وكأنه يتناول مسكنا يأخذه إلى نوم عميق . نوم قد يخترقه في بعض الأحيان ، صراخ أهل القرية ، وهم يفرون في كل الاتجاهات عزلا وحفاة . تداهمهم الخيل وتمزق العصي أجسامهم ، وتقيد الحبال أياديهم وأرجلهم ، وتعزل الذكور عن الإناث ، والصغار عن الكبار ، فيختلط العرق بالدم والدمع .
صور يعتقد أنها تشبه يوم الحشر ، توقظه فزعا ، وتفسد عليه خيالاته اللذيذة ، وتعيده سنوات طويلة إلى الوراء .
........................
[ بقجة : قطعة قماش يجمع فيها حاجياته / (الفرناتشي)* : الموقد الخاص بتسخين ماء وأرضية الحمام التقليدي / (المطوي)* : كيس صغير من الجلد يخصص للقنب الهندي / (السبسي)* : غليون من قصب يدخن فيه القنب الهندي / (الشقف)* : قطعة صغيرة من الطين لها منفذ يشدها إلى القصب ومنفذ آخر يوضع فيه قليل من القنب الهندي ] .

مراكش 18 / 09 / 2020


L’image contient peut-être : 1 personne, lunettes

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى