ناصر سالم الجاسم - حواجب شيطانية.. قصة قصيرة

في البدء: الرجال بسبب طاعتهم المطلقة للنساء يسيئُون لأنفسهم ويضرون بعضهم بعضاً من حيث لا يشعرون..

بدا حاجباها وهما يحجبان عينيها الجميلتين السوداوين عن غرةِ شعرها المفرطة في الغواية ملفتين للنظر لحسن يسكنهما ربما لدرجة سوادهما المتوسطة ولكن شكلهما الشبيه بحاجبي الشيطان هو السبب الأكيد الذي دفع بالمصور الرسمي الخاص للبرلمان أن يفتتن بتصوير وجهها والتقاط صور متتابعة لها وهي تقدم مقترحها على الأعضاء لمناقشته ومن ثم التصويت عليه وذلك عند قولها: سيادة الرئيس.

لم ير أحد من البشر الشيطان على هيئته الحقيقية، وقد تخيله المؤمنون ومن تأذوا منه ذا وجهٍ قبيح بشع بسنّين كبيرين ينقطان دمًا وحاجبين دقيقين شعرهما قليل جدا آخذين شكل نصف الدائرة ورأس أصلع، وربما كان الشيطان في الأصل وسيمًا وأنيقًا وله وجه جذاب ليغوي به الكثير من البشر ولكن لم يشأ أحد أن يقول ذلك أو يتخيله، بينما شاءت النسوة أن يسمّين شكلاً جميلاً من الحواجب يتم رسمه لهن وتحديده في صالونات التجميل النسائية بحواجب شيطانية.

هذا المصور ذو الثوب الأبيض اللامع الهفهاف والمتشح رأسه الصغير بشماغ إنجليزي أحمر يثبته بعقال ملكي أسود ثخين بدون شعور منه تدرج قدماه نحو المكان المخصص لجلوس عضوات البرلمان، تشدّه عطورهن المنتقاة بعنايةٍ فائقة فيسكر بروائحها ويظنّ وهو في سكره أن العطر المنتشر كائن يناديه ويدعوه بإلحاح ليصوره، تتقدمه كاميرته الاحترافية المحمولة على يده ويمشي بها على إيقاع حركة العطر في المكان، ويراهنّ كلهن بعينه الشاخصة الفاحصة وهن متأهّبات جاهزات لأخذ الصور، وربما نادته إحداهن بعينيها بعدما دسّتْ مرآتها في جوف حقيبة يدها مباشرة، فيقف أمامها كجندي ويغمض عينه اليسرى، ويراها في مربع كاميرته بعينه اليمنى ويعزف لها صوت الفلاش المتتابع كتحية لأميرة، ثم يغمز لها بعينه اليمنى ويرفع إبهام يده اليمنى أيضا كإشارة لجمال الصورة ونقائها من العيوب فتبتسم علامة للرضا، بينما أعضاء البرلمان الذكور غير مكترثين لأي صورة لأي واحد منهم بدا فيها مغمض العينين أو فاتحًا فمه من التثاؤب أو انزلق بشته المذهب من على كتفه، فهم مطمئنون جدًا بأن المصور سيحذف الصورة الخطأ من أرشيفه، وأنها لن تنشر أبدًا في الصحف الرسمية.
لم يكن المصور مهتمًا بانقسام الناس في البرلمان إلى ثلاثة أقسام، محافظون متشددون، ومعتدلون وسطيون، وليبراليون أحرار، وكل الذي يهمه أن تكون الصورة الملتقطة جميلة خالية من العيوب، ومع ذلك كان يهاب من الاقتراب بكاميرته من الأعضاء أصحاب اللحى الكبيرة، وقد كانت تريد أن تؤرخ لحريتها وانتقالها من المحافظين والمتشددين إلى اللبراليين بكشف وجهها الجميل للعالم أجمع وأخذ صورة لها بحاجبين شيطانيين فاتنين وشفتين شاميتين حمراوين تقطران توتاً و بكحل مغربي أسود سائل يزيد من جمال عينيها ومن اتساعهما، وقد حدث ذلك، فالتقط لها المصور صورتها الحلم والهواء البارد لأجهزة التكييف يملأ القاعة الفخمة بمقاعدها الارستقراطية الوثيرة وطاولاتها الناعمة المجهزة بكل شيء، ولاقطات البثّ التلفزيوني حساسة جدًا و تنقل كل شيء للمشاهدين خلف الشاشات حتى أصوات فلاشات الكاميرا ت المتتابعة، ونشرت صورتها في الصحف اليومية كلها تحت عنوان عريض عن مقترحها الذي حظي بتصويت أغلبية الأعضاء.

وكان هو في آخر الليل- قبل سنوات عديدة، وقبل أن تكون عضوًا في البرلمان، بعدما خطبها ورآها لأول مرة- يحضن الجدار الذي يحدّ بيتها من جهة الغرب شوقاً إليها، يحضن الجدار وهماً منه أنها نائمة خلفه وهو ساكن في مكة وهي تسكن في جدة، وبينهما صحراء وجبال سود ومسافة تستغرق ساعة بالسيارة، ويوماً إذا قرر المشي إليها على رجليه، لقد عشقها وتعلق قلبه بها منذ أن جلسا متقابلَين في نظرة شرعية لما تقدم لها من أبيها خاطباً، وقد أحسّ حينها أنه ينقلها من مكان جلوسها على الكنبة المقابلة لمكان جلوسه في المجلس إلى الجلوس في قلبه، لقد حملها كاملة كملف حاسوب وخزنها في نفسه، ونسخها كما تنسخ صورة في هاتف ذكي وألصقها بوجدانه، وصارت معه بينما هي في الحقيقة مع غيره، إذ جاء رجل آخر وحيّرها له، خطب على خطبته وأفسدها، أفسدها بقوة سحر وحال بينه وبينها للأبد، وكانت آنذاك محافظةً تعوج لسانها إذا تحدثت معه في الهاتف كي لا تخضع في القول فيطمع بها إن كان في قلبه مرض، كانت تخفي صوتها الأنثوي العذب عن سمعه، مرتْ عليه ساعتان وهو يتحدث معها في الهاتف مقتعدًا صخرةً بيضاء ملقاةً على الطريق ولسانها المعوج عمدًا لم يخنها أو يفضح فكرها المحافظ المتشدد، ولَم ينزعج من صوتها آنذاك بل سمّى الصخرة باسمها، صخرة علياء، وكلما مرّ بها سلّم عليها ظناً منه أنه يسلم على علياء، ولما يئس من أن تكون علياء مهرة ليلهِ توهّم أنها نبات أخضر، وأنه سيسقيه الماء وسيحضنه، فراح يحفر في بستانه حفرة لها ليزرعها فيها، وانتقى أجمل فسائل النخل وأطيبها، وفسلها في الحفرة، فسيلة من نوع الخلاص، وسمّى النخلة اليافعة نخلة علياء، سقاها الماء وتعهدها بالرعاية، كبرت النخلة وصار يلفّ ساعديه حول جذعها ويحضنها ظناً منه أنه يحضن علياء، وصار يرقاها كل يوم متوهماً أنه يرقى علياء، وصار يظن أن السعفات شعرها الجميل، وأن كل عذقين متجاورين من عذوق الرطب نهداها الجميلان !!

بعدما خُطفت منه بقوة ساحر أردني سجلت لياليه هذه الأقوال له:
⁃ قومي يا علياء حضري لنا العشاء فقد اشتريت لك طاولة المطبخ بكراسيها!
⁃ لقد قلتِ لي يا علياء بأنك سترقصين لي الرقص المصري الذي تجيدينه، وها أنت لم ترقصي لي بعد، وبذلة رقصك لا زالت جديدة في دولاب ملابسك لم يفض غلافها!
⁃ علياء.. علياء علبة ألوانك الزانية لا زالت تنتظر أصابعك المبدعة لترسمي بها جداريتك، وما تعبتْ يدي من تنظيف جدارِ منزلنا الشمالي الذي اخترته مكاناً لجداريتك.
⁃ علياء.. علياء تعالي نسبح معا، فالماء في صنابير منزلي ينتظر وقوف جسدينا تحته منذ ثمان عشرة سنة.
⁃ علياء أريد أن أوقظك من النوم، أريد أن أوصلك إلى الجامعة حيث تعملين أستاذة هناك.
⁃ علياء لا زال هندامي ينتظر لمساتك الفنية الجمالية، لقد قلت لي: (راح أخليك كشخه).

وسجلت أيامه سعيه الحثيث لرؤية وجهها ثانية، حاول كثيرًا لعله يجتمع معها في مؤتمر علمي أو أدبي، أو أنهما سيكونان عضوين في مناقشة رسالة علمية معاً، ولكنه لم ينجح، وظل إحساسه وحدسه يحدثانه بأنها ستصبح يوماً ما عضوًا في البرلمان، وقد أصبحتْ، ولما رأى صورتها في الصحف فرح بها فرحاً شديدًا كطفل، واحتفظ بها وحرص في حفظه لها، وصار ينظر لوجهها الجميل كل يوم ويزداد شوقاً إليها وهياماً بها، ينظر لحاجبيها الشيطانيين ولفمها الشامي ويتذكر لسانها المعوج معه في الهاتف، ويتذكر حديثها عن حرمة مصافحتها للرجال، ويبتسم طويلاً، ومن ثم يحتضن جذع نخلة الخلاص علياء، ويرقاها بحنو بالغ ، وفِي الأعلى تتلمس يداه عذوقَ رطبها بحب كبير!

الجمعة ٢٢ مارس ٢٠١٩ م
١٥ رجب ١٤٤٠ السادسة مساء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى