حاميد اليوسفي - يا مراكش يا وريدة.. أصوات تصعد من أسفل..

كل أيام الأسبوع عادية إلا يوم الأحد ، لأنه يوم عطلة ، ينقضي بسرعة .
في الصباح قبل الساعة العاشرة بقليل ، تتصاعد أصوات قادمة من الدرب إلى الصالة عبر كُوّة مُطلّة على الزقاق . رأسه ما زال فوق الوسادة .
ينام في صالة كبيرة تقع في الطابق الأول ، تمتد على طول المنزل ، مفروشة ومخصصة للضيوف . يُطلُّ بابها ونوافذها على شُرفة توازيها من حيث المساحة ، وتنفتح على السماء إلى داخل المنزل .
في وسط جدارها الأيمن فتحة على شكل كُوّة بعرض خمسة سنتمترات ، مفتوحة على الخارج ، وتتوسع إلى الداخل لتتجاوز ثلاثين سنتمترا بطول نصف متر تقريبا ، يُطل منها على ثلثي الزقاق ، لكن لا يراه أحد من الخارج .
ـ ها الجريدات !
صوت امرأة سمراء نحيفة وطويلة القامة ، يصعد إلى السماء . تظهر وتختفي مثل الطيور المهاجرة . ترتدي (تشطاطت) ، وتضع على رأسها شالا أزرق يميل إلى السواد . سحنتها توحي بأنها من أصول جنوبية . تحمل فوق رأسها كومة من سعف النخيل (الجريد) . لصوتها نغمة خاصة ، لا تُقلّدها أي امرأة أخرى ، وكأنها المرأة الوحيدة في المدينة التي تمتلك هذا الصوت القادم من أعماق الجنوب ، وتختص بتوزيع هذا النوع من المكنسات على المنازل .
ـ ها الجريدات !
تُشذّب سعف النخيل وتُحوّل خشونته إلى نعومة ، تصنع منه مكنسة للعالم القديم . تستخدمها النساء لتنظيف الفضاءات المتربة في المنزل أو أمام بابه . وبقيت تقاوم المعاصرة حتى بعد دخول الزليج إلى البيوت والزفت إلى الازقة والدروب .
يختفي صوت صاحبة الجريد ، ويصعد صوت البدوي بائع أواني البلاستيك :
ـ نواني للبيع ! نواني للبيع !
رجل بدوي قوي البنية ، يحمل على كتفه أو دراجته العادية أغلب أنواع المواد البلاستيكية ، ويطوف بها في الأزقة والدروب . يُمدّد حرف الياء في اللفظ الأخير وكأنه يهبط إلى منحدر طويل . إذا دخل إلى الزقاق قبل العاشرة ، قد يتعرض أحيانا للطرد . أبناء بعض الأسر موظفون ، يسهرون ليلة السبت خارج البيت ، وينامون يوم الأحد إلى وقت متأخر ، ولا يحبون أن يزعجهم أحد . الأطفال الصغار بدل اللعب أمام البيوت ، يفرض عليهم ذووهم الذهاب يوم الأحد إلى (المسيد) حتى لا يزعجوا السادة الموظفين . من يعمل مع المخزن لا بد أن تخاف منه وتحترمه . الولاء للمخزن أقوى من الولاء للدم أو لحق الجوار . ورغم ذلك يحتاج الناس إليهم في الأيام الصعبة ، لإنجاز وثيقة ، أو قضاء مصلحة إدارية . لا يطلبون منهم ذلك مباشرة ، لا بد من توسط آبائهم أو أمهاتهم وأخواتهم.
امرأة من صنف آخر تُردّد بنفس إيقاع صاحبة الجريدات :
ـ ضربوا شي فال!
النساء يمتن في قراءة الطالع عندما يخرج الرجال إلى أعمالهم . البنات كبُرن والخُطّاب لم يأتوا بعد . تُذيب العرّافة قطعة ألدون فوق النار ، ثم تصُبُّها على الأرض ، فترسم شكلا معينا . تجعل يديها ترتعدان ، وتُخرج عينيها ، فترى أشياء بعيدة وغريبة وقادمة لا يراها باقي الناس . تتحدث بصوت خافت عن اقتراب قُدوم عريس يشبه ملاكا إلى البيت . يصعب تحديد الوقت بالذات . ألدون يقول هذا الأسبوع أو هذا الشهر أو هذه السنة . مال كثير سيعرف طريقه إلى المنزل . يظهر عائق يحاول منع تحقّق الرؤيا ، فترفع صوتها قليلا ، وتُرقّص أصابع يديها . يجب وضع مجمر صغير كل يوم خميس ، بعد غروب الشمس وسط البيت ، ورمي بعض البخور في النار ، ثم تأتي صاحبة الشأن التي تنتظر فارسا على صهوة جواد ، وترفع القميص فوق ركبتيها ، وتقول باسم الله ، وتُغمض عينيها ، وتتخطى المجمر بحذر وبطء عشر مرات بعدد أصحاب النبي عليهم الصلاة والسلام ، بلا زيادة ولا نقصان.
وقد تقرأ الكف ، فتحكم خطوط اليد الممدودة على صاحبتها بأن الطريق طويل وسالك ، يضيئه القمر ، ستظهر بعض المتاعب . يجب الحذر من ذئب يتخفّى وراء عتمة ضباب الفجر . حصان بري يرعى بالجوار ، سيمتطيه فارس ولا كل الفرسان ، يرتدي برنوسا أبيض ، ويحمل سيفا في يده اليمنى . يقتل الذئب ، ويأخذ الأميرة إلى بيت فسيح ، تظلله الأشجار ، وتزينه الفاكهة من كل نوع . تغسل بماء الورد ، وتلبس الحرير والديباج ، ويهدي لها اللؤلؤ والمرجان ، ويقيمان عرسا شبيه بأعراس ألف ليلة وليلة ، يحضره الناس من كل الأمصار . ما تبوح به الخطوط كله فأل خير ، خير إنشاء الله.
ويكون الدرب محظوظا إذا دخلته المرأة ذات الصوت العذب الذي يتسرب بدفء إلى قلب كل من تمر بالقرب منه:
ـ لالة طْويبة سكر علْ النبي مولاي محمد.
لهذه المرأة مزاج خاص . لا تَطرَقُ بابا ولا تمدّ يدا . ترتدي لحافا أبيض . تشبه المرأة التي تغزل بها الشعراء في القديم . دمها مسحور . فارعة الطول ، عينان واسعتان يُحيط برموشهما كُحل أسود خفيف . يُغطّي شعرها منديل بلون السماء . ألِفَت أن تمر من وسط الشارع أمام عرصة (البيلك) ، قادمة من طريق عرصة المعاش ، مخترقة موقف حافلات النقل الحضري ، وتردد بصوتها الحزين لازمتها المشهورة:
ـ لالة طْويبة سكر علْ النبي مولاي محمد.
يلتفت إليها الناس من كل جانب ، حتى المقاهي يلفها صمت عميق ، ينتبه إليها كل مجلس ، ويستمتع بجمال صوتها للحظات ، وهي ماضية في طريقها الى شارع محمد الخامس . لا تتوقف عن الإنشاد والنظر إلى الأفق البعيد.
عندما يتناول فطوره ، ويغادر البيت ، تكون الحركة قد عادت إلى الدرب ، بعد خروج الأطفال الصغار من المسيد ، لممارسة ألعابهم المفضلة حسب الفصول ، واختلاط ضجيجهم بضجيج الباعة المتجولين .
يتسابق أصحاب النُّخال وجافيل والخبز يابس وبالي للبيع . من يسبق الأخر يفوز بأكبر قدر من الزبائن.
بعض باعة النُّخال بَدوٌ ، من أولاد الحرام ، يستبدلون لفظ نُخّال ، أثناء صياحهم ، بلفظ ندخل ويضيفون مدا طويلا للخاء مع مضغ الأصوات .
يخرج من البيت ، يمر من الزقاق ، يرى وصلة خبز أمام باب منزل أحد الجيران ، وخلفه سيدة البيت ، يمد يده للوصلة دون ان يطلب منه أحد ذلك ، ويأخذها معه إلى الفرن عند باب الدرب.
في منتصف النهار يأتي المعلم الذي يصلح أدوات الطبخ المثقوبة . يلحم المقراج والبراد والطست و(الكاسرولة) ، ويُقدّم له شيء من طعام الغذاء.
يستمع إلى المذياع بعد الثالثة زوالا . الواصفون الرياضيون يُبالغون في وصف المباريات . من يستمع إلى مباراة في المذياع ويشاهدها في الملعب ، لا يُصدّق ما يجري أمام عينيه . حتى الجمهور يتواطأ مع الصحفي ، ويُشارك في لعبة المبالغة ، فيهتزّ على جنبات الملعب عندما يتم ربط الاتصال بهذا الأخير .
يذهب في المساء الى الحمّام رغم ما يُشكّله ذلك من ضيق على جهازه التنفسي . عندما يعود الى البيت عليه انجاز التمارين والفروض . ينقضي يوم الاحد بسرعة.
لما اشتدّ عوده وأصبح رجلا ، كلما لاحت واحات النخيل من بعيد ، وهو قادم من الدار البيضاء في الحافلة أو القطار ، بعد غياب شهر أو شهرين ، لا يعرف كيف تسقط في ذاكرته بسرعة أغنية إسماعيل احمد (مراكش يا وريدة بين النخيل) ويُردّدها مع نفسه بصوت مكتوم .
اليوم دفعوه إلى الرحيل بعيدا عن المدينة القديمة . لا يكره ولا يحب يوم الأحد . لم يعد يذهب إلى المدرسة أوالعمل . لا يستمع الى المباريات في المذياع . حتى الحمّام منعه عنه الطبيب منذ سنوات .
مرّ زمن طويل ، اختفت كل تلك الأصوات الجميلة ، وحلت محلها أصوات أخرى لباعة العسل والبصل والسردين وزيت الزيتون .
النخيل شاخ وذبل ، ومات واقفا ، ولم يعد يلوح له من بعيد . ما عادت مراكش وريدة بين النخيل .


مراكش 23 غشت 2018





  • Like
التفاعلات: حاميد اليوسفي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى