حاميد اليوسفي - وشم في الذاكرة : كل الطرق تؤدي إلى جامع الفنا

لا أدري من أين جاء اسم (جامع الفنا) الذي أطلق على الساحة . سمعت الكبار في ذلك الوقت يقولون بأن هذا الفضاء كان إلى حدود القرن 19 سوقا كبيرا يمتد من باب فتوح إلى الساحة ، وأضافوا أنه كانت تعلق فيه رؤوس المعارضين أو الخارجين عن القانون آنذاك ، لتردع الناس وتزرع فيهم الخوف من جبروت السلطة . وقريب من هذا المعنى دلالة الفناء والخراب التي تذهب إليها بعض الشهادات ، وتؤكدها بوجود جامع مهجور ، لم يتم بناءه السلطان السعدي يعقوب المنصور بسبب إصابته بداء الطاعون فتوقف البناء وتحول فيما بعد إلى خراب .
البعض أطلق عليها اسم جامع الربح ، على اعتبار أنها سوق تجاري وقلب المدينة النابض . وقد اعتبرها البعض إلى جانب ذلك مسرحا للفرجة ، تتنفس منه مراكش ثقافة ومرحا وفكاهة .
ومن النوادر التي تحكى عن هذه الساحة وأهلها ، أن الزعيم الليبي الراحل عندما حضر اجتماع اتحاد المغرب العربي سنة 1989 بمراكش ، زار ساحة جامع الفنا في الليل ، وقضى بها وقتا طويلا ، أنهك الأمن وحراسته الخاصة ، بسبب إعجابه بما تحتويه من فرجة وأنشطة اقتصادية بسيطة . وقيل والعهدة على الرواة ، أنه أسر لأحد أفراد حاشيته ، بأنه لو كان يتوفر على شعب بهذا الحس الفكاهي ، وبهذه الحركية والنشاط من أجل ضمان لقمة العيش ، لجعل من ليبيا دولة أكثر تطورا وقوة في ظرف وجيز ، وحقق حلمه في نشر الثورة بشكل أسرع .
مراكش في الستينيات من القرن الماضي مدينة صغيرة . كنا نعيش داخل الأسوار باستثناء أحياء قليلة مثل جليز و سيدي يوسف بن علي وعين إيطي ودوار العسكر . لا نخرج إلى بعضها إلا في الأعياد والمناسبات . عندما كبرت اكتشفت أن بعض الناس لم يضعوا أقدامهم خارج الأسوار لمدة تفوق ثلاثين سنة أو أكثر .
جامع الفنا ساحة مفتوحة على كل الطرق المؤدية إلى أحياء المدينة . درب ضباشي ، الرحبة ، القنارية ، رياض الزيتون ، عرصة المعاش ، سيدي ميمون ، القصبة ، شارع محمد الخامس ، فحل الزفريتي ، باب فتوح .
كل الطرق تؤدي الى جامع الفنا . إذا دخلت إليها من القصابين ستمر بصف من المطاعم التقليدية ، تطهو وجبات محلية مثل الكرعين والشواء ورؤوس الغنم المبخرة . وعلى يمينك دكاكين تعرض النعناع ، وكل أصناف المخللات والزيتون والفلفل المصبر بطريقة تقليدية . وعلى بعد أمتار خلف سوق الجديد تقف ننسوة ترتدين الجلباب ، وتضعن على وجوههن نقبا شفافة تمر بشكل أنيق على أرنبة الأنف ، وأقباب تغطي الشعر ولا تظهر غير الحواجب والعيون . يتسابقن على السياح لعرض قفف من دوم أبيض مزركش بالأزرق والأحمر والأخضر . وفي الجهة المقابلة مقهى فرنسا ، وبجانبه متجر السجائر والمارشي ومقر الهلال الاحمر ، ثم الزقاق المؤدي الى رياض الزيتون .
وإذا دخلت إليها من باب فتوح ستمر بأكشاك مقابلة لمقهى أركانة (السوربون سابقا) ، ثم سوق الجديد وعلى يمينك أكشاك أخرى منفتحة على الساحة . متاجر صغرى تعرض منتوجات الصناعة القليدية للسياح . وبجانبها على اليمين واليسار بعض المطاعم الشعبية المتحركة ، ثم أكشاك سوق الكتب التي كانت تحتل أكثر من ربع الساحة .
أما الممر المقابل لبنك المغرب فتنشط به عربات الكاوكاو والزريعة والليمون . وعلى اليسار يقع المركز ، ثم الكوميسارية بجوار سور قديم لفضاء في ملكية عائلة القايد المتوكي ، مقابل لعرصة البيلك ، كانت تبيت فيه العربات اليدوية ، شُيد على أرضه فيما بعد ، فندق فخم حمل اسم نادي البحر الابيض المتوسط .
وبين مدخل شارع مبروكة ( البرانس حاليا ) والهلال الاحمر المغربي محطة طرقية مفتوحة على الساحة ، بها مقاهي ومطاعم شعبية وجراجات ومواقف للحافلات التي تقل المسافرين من مدن المغرب الى مراكش أو العكس . وعلى يمين صيدلية الساحة يجلس الفوتوغراف الشهير قرب كاميرته التقليدية . يطلب منك أن تقف على بعد حوالي متر ونصف إذا كنت طفلا ، وأن تركز نظرك على عدسة تظهر في رأس صندوق مغطى بثوب أسود ، يدخل فيه رأسه وبعد لحظة يخرج دخان يحدث صوتا مثل صوت انفجار كيس صغير من البارود ، يجعلك تقفز من مكانك إذا لم يسبق لك المرور من هذه التجربة ، فيكون قد التقط لك صورة بالأبيض والأسود ، ويطلب منك أن تعود إليها بعد حوالي ساعة أو ساعتين فتجدها جاهزة .
قطعت ساحة جامع الفنا لأول مرة ، وأنا طفل صغير رفقة والدي رحمه الله في أواسط الستينيات من القرن الماضي ، وهو متجه إلى عرصة المعاش قرب مقر حزب الاستقلال ، للاستماع إلى خطاب سيلقيه الزعيم علال الفاسي . لا أتذكر الشيء الكثير عن ذلك اليوم . أحتفظ في الذاكرة بخيالات غامضة تشبه صورا قديمة بالأبيض والأسود ، تتلخص في الحشود البشرية التي كانت تؤثث الساحة ، أو تمر منها . أمسكت بقوة ، ذلك اليوم ، بيد والدي . خفت من الضياع وسط هذا الزحام غير المألوف .
الذهاب الى جامع الفنا مغامرة غير محمودة ، قد تنتهي بعقاب بدني شديد . لم يكن مسموحا للأطفال بالذهاب الى الساحة . في بيئة تقليدية لا بد من التدرج . في العطل كان يُزج بنا في الكتاتيب القرآنية . كل الدروب والأحياء يُدرس بكتاتيبها فقهاء لا يتسامحون مع الاطفال في حالة الغياب ، خاصة يوم الأربعاء (لاربعية) ، اليوم الذي يتقاضون فيه جزءا من أجورهم (4 ريالات) . وهو اليوم الذي قد يتغيب فيه بعض الأطفال ويذهبون إلى جامع الفنا . ويؤدون ثمن ذلك غاليا في المساء عندما يخبر الفقيه آباءهم في صلاة المغرب أو العشاء . بعض الأسر تفضل إرسال أبناءها لتعلم صنعة يدوية كاحتياط في حالة التخلي عن الدراسة .
لم نأت الى جامع الفنا بشكل فردي أو جماعي إلا بعد أن تجاوزنا عشر سنوات تقريبا . بدأنا نسرق بعض اللحظات ونتلصص على الحلقات . الكبار في الاحياء الشعبية داخل الاسر التقليدية رسموا لنا صورا سوداء ومخيفة عن ساحة جامع الفنا . ربما كانوا بحكم تجربتهم آنذاك يخافون علينا من عدوى سحرها التي قد تشغلنا عن الدراسة .
عندما زرت الساحة متلصصا على بعض الحلقات ، ولأوقات وجيزة حتى لا أتعرض للمساءلة ، مستني عدوى الساحة . عدوى تشبه السحر . عندما تذهب إلى جامع الفنا ، وأنت طفل في أواسط الستينيات تحس بجاذبية تشدك الى عالم غرائبي وعجائبي ، خاصة وأن الكهرباء والتلفاز لم يدخلا بعد إلى كل البيوت .
تستمع لجزء من قصة شعبية تشبه حلقة في مسلسل تلفزيوني . يسرح بك الخيال بعيدا . الوصف وطريقة الحكي التي يستعملها الراوي ، تنقلك وأنت طفل الى عالم الاساطير . عالم يتصارع فيه الابطال مع قوى من الجان . ترحل بك بعيدا عن الواقع . أحيانا تنسى نفسك . تتأخر عن موعد العودة . تودع الساحة رغما عنك . ترجع الى الحي وصور الابطال تملأ خيالك ، حتى تكاد تسمع صيحاتها تختلط بصليل السيوف . تحكي لأقرانك ما شاهدته ، وسمعته في الساحة . تحاول تقليد الحكواتي . تنشر العدوى من حيت لا تشعر .

مراكش / أبريل / 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى