محمد جدّي حسن - بحثاً عن الأمل.. قصة قصيرة.

قررتَ الرحيل غير آبهٍ بالعواقب رغم أنك قرأت "Le ventre de l'atlantique" وعرفت الوجه الآخر للحلم الجالس هناك خلف هذه الزرقة الشاسعة، بيد أنك همست لذاتك محمساً: اللجة أرحم من الهاوية، يقينا أن أجدادك اختاروا الفسحة بدل النفق! لم تكن تملك خيارا أيها التائه; هنا كنت طٌعما للحشرات ،والآلام ، تنهشك الميلارياء ويعذبك الصداع ، الصداع الرهيب الذي يصيبك كثيرا ، الصداع الرهيب الذي أبكى قبلك الشعراء والفلاسفة .
- ' رأسي يؤلمني ،والكون بأسره يؤلمني- قالها قبلك الشعراء ' بيسّوا ' ذات صداع رهيب. ها أنت شاعر آخر يترك حبيبته لبعض الوقت أملاً في عودة كبيرة ، دفنتَ شفتها السفلى بشفتيك ومررت يدك على رأسها واستدرت في الوقت الذي تسللت دمعة نحو ركن ركن شفتك ! لم يكن لك خيار سوى الصعود على المجهول أو رمي هذا الجسد من علِ، قررت الرحيل لأنك لم تجد من يقول لك ' امسك يدي' . أخذت حقائبك حين أخبرتك أمّك أنها رأتكَ في المنام تقدم خبزا لمتشرد وسط قمامة هائلة!
لم تتمكن البيداء الواسعة من إبطاء خطواتك ; أنت الصحراوي الذي تركها بحثا عن الوديان ها تعبرها بحثا عن المجهول ،وصلت إلى ليبيا عبر ' مرزق ' ثم أسرجت قدميك نحو شطآنها ،هناك رأيت البحر لأول مرة ، البحر صحراء من الماء كما الصحراء بحر من الرمل! قلت ذلك لتأكد لذاتك أنك راكبٌ لا ريب . ها هو الزورق الذي ستئمنونه حياتكم ، ها هو المهرب الذي ستعطونه أموالكم ، وها هم رفقاك في هذه الرحلة المحفوفة بأخطار جليلة. سودانيون ،وسنغاليون وأرترييون وزنوج من الجنوب وعرب وحبش . بينما انشغل الجميع مع ربه طالبا السلامة انشغلتَ بورقة وقلم ! كتبت وصيتك في سطرين :" أخيرا استوت على الجودي ، إذا نجونا لا شيء، إذا متنا فنأمل أن تصلوا على أرواحنا، وأن لا تذرفوا الدموع " طويتها وحشرتها في جيب بنطالك 'الجينز' بصعوبة بالغة .
هاج البحر تحت زورق صغير مكتظ بجوقة من المجازفين ، المارد الأزرق ، القوي الجبار ، لم يتحمل كل هذه الكلمات المحفورة في رأسك الصغير ، ترنّح الزورق ولامس البحر المالح جسدك المعسّل ، تذوق بعض من الحبر العالق بك وهاج أكثر .
بين ليبيا وإيطاليا ، هنا في وسط المحيط أدركت يقينا أن هذا الموج الغاضب لن ينزل إلا بك ، وصل الموج الذي ارتفع بطول بناية ذات بضع نجوم ثم ضرب الزورق بشدة كيدِ ملاكٍ أُمِرَ بالعقاب. تلاشى كل شيء في لحظة ، أين الزورق ، أين الشرذمة ؟ من بعيد كبعد السماء رأيت أحدهم يسعى للوصول نحو الزورق العاجز كسلحفاة مقلوبة ، كافحت لكن التيار أقوى من ذراعيك ، لنصف ساعة حاولت البقاء على قيد الحياة لكن جسدك بدأ يخونك ، عجزتْ ساقاك ،ذراعاك ، رأسك ، كنت قريبا جدا من السنغالي الذي وصل إلى الزورق حين تركت جسدك حراً ، ها أنت تذوب كالسراب ، تغيب شيئا فشيئا، وحدك عارياً من الأمل والإيمان ، غاب الرأس في هدوء البحر إلا أن يدك اليمنى ظلت تلوّح للسنغالي ، أوداعٌ أم تحية أو طوق نجاة؟ هذا ما لن يفهمه أبدا.
ها أنت تسمع كل شيء، تحوّل الهدوء إلى اللجّة ، نظرات الأسماك ،والحيتان ، أي بطن حوت يتحمل كل ما في رأسك ، هذا الحوت الذي يتلقفك لو يعلم ما في رأسك من حبر وورق لما فعل ، أخيراً بعد شهر إلا قليلا تصل إلى احدى جزر ايطاليا ، ها أنت قد وصلت لكن بلا روح ولا عينين . ولكنهم عثروا على ورقة محفوظة في قطعة بلاستيك داخل جيب بنطالك تقول ' إذا نجونا لا شيء" .

محمّد جدّي .
دقيل. أنجمينا ـ تشاد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى