خالد شاطي - نوفيلا عن مدرسة..

أنظرُ إلى المدرسة فتثير فيّ مشاعر وذكريات مؤسية؛ وأفكر: أمن المعقول أنني الوحيد الذي تفعل فيه المدرسة فعلها هذا!.. ولكنني لا أنساق كثيراً في ندب هذه اللامبالاة البشرية القاسية والموحشة؛ مدركاً أن السر ربما يعود إلى دوافع شخصية، إذ أنني فقدت فيها أصدقاء ومعارف وأنني ربما أشعر بالذنب، على نحو من الأنحاء، كوني لم ألق المصير الذي انتهوا إليه، دون اغفال دور المآسي الأخرى التي تلت في مسح هذه المأساة من الأذهان المتعبة أو طمرها عميقاً على الأقل. بغير هذا التبرير؛ فإن من ينظر لهذه المدرسة- عارفاً بما حدث فيها- دون أن يهتز فيه شيء لا يستحق صفته انساناً. هكذا فكرت.

منذ حدثت المأساة عام 1991؛ وأنا أفكر في كتابة رواية صغيرة عنها. هي اذن كتابة ضد النسيان، ترجو نكأ الجرح وإبقاءه مفتوحاً على أمل أن لا يندمل.

************

تقع المدرسة على الطريق المؤدي إلى كربلاء؛ على ناصية الشارع المؤدي إلى بيت أهلي، تقابلها على ناصية الشارع الأخرى بناية مجلس المحافظة. المدرسة غير ملفتة للانتباه، فهي واطئة عن مستوى الشارع والأشجار المنتصبة على طول سياجها الأمامي تحجبها عن الأنظار. أمام سياجها ينمو عشب ونبتات أزهار. ولها اسم لطيف ما عادوا يطلقون أمثاله على المدارس الآن: المعرفة. لا عجب فقد بُنيت في السبعينات.

أذكر أنني وبعض الطلاب نُقلْنا إلى هذه المدرسة في سنتي المدرسية الأولى عام 1977 وجلست على مقاعدها ليوم واحد فقط.

أعرف إن الحديث عن كتابة عمل ما يفتر الهمة, وهذا يمكن أن يكون أحد أسباب الإرجاء. لكن حماستي كانت تتقد كل جمعة تقريباً حين تلوح المدرسة أمامي في طريقي إلى بيت أهلي.

أقول لسائق التاكسي الشاب:

- في هذه المدرسة حشروا عام 1991 مئات الرجال والشبان وراحوا يرسلونهم إلى المقابر الجماعية.

فيقول السائق:

- قلت لي هذا الكلام عندما أقليتك قبل أشهر، ولقد سَرَتْ في جسدي رعشة خوف لوصفك ما حدث. هل أنت صحفي أو كاتب؟

يقول سائق آخر:

- نعم، نعم. أعرف بعضاً ممن اعتقلوا في هذه المدرسة، وللآن لايعرف لهم مصيراً.

يرمقني آخر بنظرة جادة، ويقول:

- لم لا تكتب عن كارثة العيادة الشعبية أو تفجير شارع المكتبات! أنت بطران، تُقلّب في دفاتر عتيقة.

لم لا؟... ربما لأن بقاء المدرسة شاخصة يؤشر غياباً للتعاطف الانساني؛ استخفافاً مستفزاً بدم الضحايا، كما لو أنني أنظر لمجرم سفّاح مطلق السراح يتخفى في زي مغاير. ولأن دخول التلاميذ الصغار إليها جريمة أخرى فادحة ومستمرة ضد البراءة.

في مقهى الحي أُكرر لأصدقاء طفولتي اقتراحي:

- إما أن تتحول المدرسة إلى متحف أو تُهدم.

يقول زهير:

- من يبالي؟! ثم أن هناك نقص حاد في عدد المدارس.

ويقول عماد الذي فقد فيها أخاه الأصغر:

- لا يفصلهم عنها سوى عشرة أمتار

فأقول:

- لا أدري كيف تسمحون لأطفالكم دخولها!.. هذه جريمة أيضاً.

يقول حيدر:

- ما يحدث الآن أمر وأقسى.

وخلال السنين الماضية وضعت مخططاً بنائياً عاماً لما تجمع لدي من مادة ممتازة وكافية للبدء بكتابة الرواية وانتبهت مؤخراً إلى أنني لم أقم بالإجراء التقليدي المتوقع وشبه الضروري: زيارة المدرسة! أقول لأصدقائي:

- أفكر في كتابة روايتي داخل المدرسة، على مقاعدها وفي حجراتها. تعرفون أنني لا أنام في الليل.

قال حيدر إن حارس المدرسة صديقه. إنني أعرفه أيضاً.. اسمه ناجي وهو كذلك مدرب أشبال النادي لكرة القدم.

في المرة الأخيرة؛ ران الفتور على أصدقائي حين تطرقت إلى موضوع المدرسة. قال زهير:

- من الأفضل أن تنسى الموضوع، لقد أصبح في طي الماضي. وقال عماد:

- هل ترى فائدة من نبش الماضي؟! وقال حيدر:

- كلّمتُ ناجي بخصوص موضوعك فرحب بالفكرة. هو ينتظرك في أي وقت- وأضاف – إن كنت لاتزال ترى الأمر ضرورياً.

- بالطبع أراه ضروريا. ما الذي دهاكم؟.. سأذهب إليه هذا المساء.

بعد العشاء؛ أخرج من بيت أهلي وأسير في الطريق المؤدي إلى المدرسة. أفكر في أن أربعين سنة كافية لأن تلغي من ذاكرتي أي صورة يمكن أن تعلق من زيارتي اليتيمة للمدرسة. أنعطف مع سياج المدرسة لأقف على الرصيف الترابي؛ يفصلني عن بوابة المدرسة ممر ضيق وقصير. من خلال قضبان البوابة أرى باب مدخل المدرسة المضاء مفتوحة؛ وفي الداخل؛ في العتمة تلوح باب القاعة. القاعة التي حشروا ف... ويخيل إليّ أنني أسمع أصداءً لأصوات وصرخات وعويل؛ تنبعث من باب المدخل وتطوف ممرات وفناء وسياج المدرسة. أشعر أن قدميّ تسمرتا وركبتي ترتجفان. ألمح ناجي يتطلع إليّ عند مدخل المدرسة، ثم يقترب من البوابة. يقول كلمات لا أسمعها لأن أذنيّ امتلئتا بالأصداء التي كانت تعلو وتصطخب، فأكتفي بالابتسام ورفعُ يدي محيياً. ربما هو أحد الأرواح الحبيسة هناك منذ ستة وعشرين سنة؛ إذ لا يعقل أنه لا يسمع هذه الأصداء المرعبة!.. أحاول أن أخطو خطوة واحدة نحو البوابة لكن دون جدوى. ما الذي دهاني؟ كدت أضحك من غرابة ما يحدث لي. يغمرني الخجل. أرفع يدي ملوّحاً لناجي بالوداع. أبتعد بضع خطوات فتخفُّ الأصداء. أواصل الابتعاد فتتلاشى وتختفي.

************

ربما يكون أصدقائي على حق. إنها ليست سوى مدرسة حدث أن حصل فيها حادث فظيع كما حدث أن حصلت حوادث أخرى في أماكن أخرى قبلها وبعدها. إن ما يحدث الآن أمرّ وأقسى بالفعل. ثم... ما الذي سيحدث إن كتبت تلك الرواية؟ لقد أنتج البشر روايات لاتعد ولا تحصى عن مواضيع مشابهة. بإمكانك إلقاء نظرة على أي مكتبة لتتأكد من ذلك، وإضافة واحدة أخرى لن تحدث فرقاً، بل أن أحدهم لن ينتبه لوجودها.

أُوقف سيارة تاكسي وأُعطي السائق عنوان بيتي. وحالما تنطلق أقول للسائق:

- في هذه المدرسة؛ حشروا عام 1991 مئات الـ...

فيقاطعني:

- أظنك أخبرتني بهذه القصة قبل أربع أو خمسة سنوات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى