لطفية الدليمي - عن الجماعات الأدبية

تروي الكاتبة الأرجنتينية لويزا فانسويلا المولودة سنة 1938 -وهي ابنة الروائية الشهيرة لويزا مرسيدس ليفنسون- في بعض حواراتها تفاصيل عن الأجواء الثقافية في الأرجنتين خلال القرن الماضي، وتكشف عن تقاربِ الأوضاع الثقافية وتشابهها في بلدان ابتليت بالدكتاتوريات والقمع السياسي في الفترة البيرونية ومرحلة الانقلابات العسكرية التي تتابعت على الأرجنتين، كان بيت والدتها في بوينس أيريس مقرا للقاءات “جماعة الأدب الأرجنتيني” التي تضم بين أعضائها الكثر ألمع الأسماء الأدبية: خورخي لويس بورخيس وخوليو كورتاثار ووالدتها لويزا مرسيدس وأرنستو ساباتو الروائي والفيزيائي، وقد تآلفت الكاتبة منذ صغرها مع أجواء النقاشات الأدبية والمحاضرات والندوات التي كانت الجماعة تعقدها في بيت والدتها ونشأت وسط هذا التجمع الأدبي الذي ضم كبار مبدعي بلادها فنشأت شغوفة بالقراءة والأدب والدفاع عن الحرية. ومقاومة الدكتاتوريات بالعمل الثقافي.

إن تنظيم تجمعات وشبكات للمثقفين في أجواء التعسف السياسي والقمع الأيديولوجي يعد شكلا من أشكال الحياة الاجتماعية أو إعلانا للهوية على حد تعبير جيرار ليكليرك في كتابه “سوسيولوجيا المثقفين” رغم النزعات الفردية لدى كثير من المثقفين. أسوق هذا الاستشهاد الذي ينطبق على حالة بورخيس فهو رافض للنشاط السياسي تماما لكنه انغمس وتعاون وحاضرَ مع (جماعة الأدب الأرجنتيني) بوجود مثقفين عضويين أمثال أرنستو ساباتو يعملون في الأنشطة السياسية العامة علانية ويوظف فكره في الدفاع عن الحرية.

تذكر فالنسويلا أن عددا من الكتاب وفي مقدمتهم بورخيس كانوا يصرحون باحتقارهم لمفردة “سياسة” ويتجنب بورخس أيّ ملمح سياسي في قصصه بينما كان أرنستو ساباتو يعارضه في هذا ويرى أن السياسة عنصر أساسي في الأنشطة الثقافية والاجتماعية فهو مثقف عضوي بامتياز حسب معيار غرامشي، تقول فالنسويلا عن بورخيس “يتبع بورخيس نسقا ذهنيا معينا وله نزواته الغريبة وأسئلته المباغتة وكان يعرض فكرته أمام الجميع بأريحية بالغة إنما بطريقة نرجسية متمركزة حول الذات، ولم يكن بورخيس معنيا بالإصغاء للآخرين، كان شخصية مونولوجية ساخرة رغم صرامته وجديته وهو يشع فطنة وظرفا ماجنا لكنه كان خجولا أمام جمهور محاضراته فيحدث أن يلوذ بالصمت برهة فيخيّل للحضور أنه فقد تسلسل أفكاره لكنه سرعان ما يمسك بالمفردة الملائمة فتنهمر العبارات الدقيقة من فمه أشبه بجواهر ثمينة، وكانت محاضراته في لقاءات جماعة الأدب الأرجنتيني -كما تذكر فالنسويلا- في منزلنا حول الأدب وحده في عهد النظام البيروني.

وكان بيرون يشعر دوما بتهديد الثقافة له ولنظامه، ومع أن بورخيس لم يكن يقارب فكرة السياسة إلاّ أنه وبأوامر من نظام بيرون نقل من عمله المتواضع كموظف في المكتبة وأرغم على العمل مفتشا على بيع الدواجن في سوق بوينس أيريس، وفي تلك الفترة كان معظم المثقفين في ضائقة شديدة لا يجدون ما يسد الرمق”.

تذكر فالنسويلا أن جمعية سرية تأسست باسم “رعاة الفن” من قبل عشاق الثقافة والمثقفين الميسورين، أسهمت في إقامة بعض المعارض الفنية ثم نظمت محاضرات ودورات عن الأدب في البيوت ومن بينها بيت والدتها لتقدم بعض العون المالي للمثقفين وكانت الجمعية فخورة بهذا التحدي رغم الخوف فكانوا يوصدون النوافذ والأبواب بإحكام خلال هذه اللقاءات السرية التي تورط فيها عدد من الكتاب الكبار: ساباتو وبورخيس وكورتاثار وإدواردو ماليا ومانويل بايرو والشعراء إدواردو غونزاليس لانوسا وأميليا بياجيوني وماريا أميليا لاهيتي وبعض الناشرين المعروفين وكان عمل المجموعة رائعا ومثيرا للإعجاب.

لطفية الدليمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى