أمل الكردفاني- يا مريم العذراء- قصة قصيرة

تستيقظ منذ الصباح، فتجد لعابها يسيل من طرف فمها الأيمن. تمسحه بملاءة السرير، وهي تحدق في السقف "صباح جديد، يا مريم العذراء".. وترسم علامة الصليب، بالرغم من أنها ليست مسيحية، لكنها تشعر بمريم العذراء كثيراً، وتراها في المنام كثيراً. كانت بالنسبة لها رمزاً لشيء ما غير محدد، ولكنه شيء جيد. "صباح جديد يا مريم العذراء" ويجثم ذلك الخوف فوق صدرها، الخوف المؤلم وغير المبرر. فتمد أطراف أصابعها المرتعشة وتتناول صندوق السجائر والزناد، ثم تدخن بوجه شاحب. صباح ثقيل، تشعر به كما لو كان استمراراً لموت قديم. فتبقى على سريرها لساعة، ويجتر دماغها ذات الأحاديث والصور كما ظل يفعل منذ خمسة وثلاثين عاماً. ذات كل شيء، كل شيء، بلا استثناء. حياة مفزعة. جسدها محطم تماما، كما لو كانت قد سارت عليه قاطرة فولاذية. مع ذلك عليها أن تنهض، وأن تذهب للعمل. عليها أن تاكل خبزاً لتظل حية ولأنها أجبن من أن تتحمل الإنتحار جوعاً. دفعت بطاقتها إلى الأمام قليلاً ونصبت ظهرها دون أن تترك السرير. ساعة أخرى ستقضيها في تامل جسدها العاري، وتداعبه لتشعر بأنه لا زال منتجاً..أو لتنتشي فتحصل على قدرة النهوض.
....

أصوات أبواق السيارات تشتت انتباها، وكذلك صياح الباعة، وأحاديث الجالسين قربها في مركبة النقل، صوت سقوط ورقة نقدية من طفل، احتكاك الأحذية بالأرض، حادث مروري لم يكتمل، شقشقة عصافير لا تجد لها مأوى، طرقات عمال الورش الميكانيكية، صوت عبور أشعة الشمس من السماء إلى الأرض وبالعكس. العالم كله يصرخ داخل جسدها. "يا مريم العذراء".
وحين تجلس خلف درج مكتبها الصغير، تخرج سجارة وتدخن، أثناء بكائها.
لم يأتِ باقي الموظفين، وكان ذلك مريحاً. فأخذت تستمع لفيروز..لابد من تنعيم هذه الصباحات الغاضبة بشيء من التسامح. وحين وضعت السماعات على اذنيها، رأت الخفير وهو الساعي في نفس الوقت يقف أمامها بوجه مزرق:
- ماذا هناك يا سيدتي؟
تضيق عيناها حين ترمقه بهما مستفسرة، فيخرج الرجل النحيل ذو الأسنان المتسخة هاتفه وينظر إليه ثم يعود ويقول لها:
- نعم..بالفعل..اليوم هو السبت..اليوم عطلة..
تفغر فاهها وترفع حاجبيها بدهشة..ثم تلتقط مفاتيحها وقداحتها وعلبة السجائر والمناديل، وتلقيهم داخل حقيبتها الجلدية الصغيرة في ثانية واحدة، ثم تغادر المبنى. وحين تخرج من بوابته، يلفح وجهها نسيم عليل. وتصدح فيروز: "راجعين يا هوى راجعين..يا زهرة المساكين".. فيتلبسها شعور بالنشوة، وتقرر التسكع في السوق الكبير وهي تهمس، "من ذاك الملعون الذي اخترع نظرية العمل"...وتصدح فيروز "منودع زمان منروح لزمان..ينسانا على أرض النسيان"..وتشاهد الفساتين على أجساد المانيكانات الخشبية في واجهات المحال، وهن يقفن مستعرضات رشاقة نادرة الوجود، فتمد يدها وتمسح قماش فستان احمر جميل، فتلتفت المانيكانة نحوها بدهشة، وتصرخ هي برعب مغطية فمها..ثم تغمغم ووجهها محمر:
- حسبتك مانيكان..
ثم تضحك المرأتان، وتغادر هي عائدة إلى شقتها، وقد تزين صباحها برؤية تلك المرأة الجميلة. وتشبع يومها بتلك الضحكات الحقيقية. ضحكات من القلب كانت كافية تماماً. اشترت علبة سجائر، وجلست على شرفة الشقة تدخن...كان صباحاً مدهشاً حقا..
قالت وهي تبتسم "يا مريم العذراء".

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى