أمل الكردفاني- إنسان على الضفة الأخرى

أولئك الذين يلتقون في وسائل التواصل، ويتبادلون الحب، أولئك يذكرونني ببعض الأطفال، فهناك نوعان من الأطفال، طفل حذر يخاف الأجانب، وطفل شغوف بالإلتصاق بالجميع، طفل يحب الجميع، حتى ولو كانوا في حقيقة الأمر مجرمين، ثم يتعلم بعد أن يكبر أنه كان عليه أن يكون حذراً، كما يعتقد الطفل الأول بعد أن يكبر أن حذره كان سبب تعاسته ووحدته ووحشته.
على الضفة الأخرى إنسان آخر دائماً، فتاة تبحث عن حب، وفتى يبحث عن حب. ويقبلون بتلك الكتابة الضوئية التي تنبثق في نافذة، ليشعرا بأن هناك كائن آخر على الضفة الأخرى. إنسان من لحم ودم وروح. ومثلهما تماماً تنشأ العداوات بين تلك الحروف الضوئية، الحرب الكلامية، الشتائم، الغضب. إستطاعت الشركات التقنية منذ وقت طويل إختراع متحدث إلكتروني. كان ماسنجر الياهو مترعاً بالعاهرات الرقميات، يرسلن لك رسائل حب وجنس، وحينما ترد، يأتي الرد فوراً عبر عملية توقعات حاسوبية،حيث يقوم البرنامج بجمع الكلمات وتحليلها والبحث عن إجابات جاهزة، ثم يرسلها. لقد فشلت تلك التقنية فشلاً ذريعاً، لأن البشر يريدون بشراً آخرين على الضفة الأخرى، بشراً يستطيعون شتمهم ومغازلتهم والإحساس بهم وممارسة الحب معهم بعاطفة حقيقية. فرغم أنه لا اختلاف حقيقي بين ما إذا كان من يجيبك إنسان على الضفة الأخرى، أو برنامج الكتروني، إلا أن الإنسان يفضل الإنسان بكل نواقصه وأحقاده وتفاهته وسذاجته على آلة ذكية تمنحه إجابات مثالية، وتحاوره حواراً عبقرياً. ومهما كان النصر الذي يحققه لاعب شطرنج على برنامج يلاعبه، فلن يماثل ذلك إنتصاره على إنسان من لحم ودم وروح وعقل.
يستطيع الجنود أن يتقاتلوا في الصحراء، لكنهم يتعمدون القتال في المناطق المأهولة بالبشر، لأن هناك فقط سيشعرون بحقيقة نصرهم أو هزيمتهم. يمكن للدكتاتور أن يحكم أرضاً خالية من البشر ويعذب الحيوانات والحشرات فيها، لكنه لن يكون سعيداً بجبروته كما لو حكم بشراً وقمعهم وأذلهم. ويقول بعض الكتاب المثاليين، بأنهم لا يكترثون برأي الآخرين لأنهم لا يكتبون للآخرين، وهم يعرفون أنه لا أحد يكتب لنفسه..وإلا لما احتاج لكتابة ما يعرفه مسبقاً. فحتى من يكتب مذكراته يكتبها من أجل الآخرين يوماً ما رغم انه لا يعرف إن كان ذلك سيحدث أم لا، ولولا ذلك لامتلأت السير الذاتية بالفضائح ولما كان كاتبها حذراً كل ذلك الحذر.
إن الإنسان على الضفة الأخرى ليس مهماً بذاته، بل بكونه حقيقة مجردة. من هو؟ ما شكله؟ ما جنسه؟ كل ذلك لا يهم، فالمهم أنه إنسان.
والعالم الإفتراضي ليس إفتراضياً أبداً في نظر البشر، بل هو أكثر حقيقية من العالم الخارجي. العالم الإفتراضي مؤسسٌ على مليارات البشر على مليارات الضفاف الأخرى، ولو لم يكونوا بشراً لهجره الجميع. وإذا كان الآخرون هم الجحيم كما قال سارتر، فإن الجنة من غير ناس ما بتنداس. إن كلا القولين صادق، فجحيم الآخر هو معنى الحياة، لأن هذا الجحيم هو الذي لا يمكننا أن نهجره، ولكننا نستطيع أن نهجر جنة خالية بلا أسف عليها. ولذلك قال الشاعر:
وكنا ألفناها ولم تك مألفاً
كما يؤلف الوجه الذي ليس بالحسن..
وكما تؤلف الأرض التي لم يطب بها
هواء ولا ماء ولكنها وطن..
إن بؤسنا الممزوج بالغبطة نتيجة تلك العلاقات المتشابكة والمتناقضة، هو ما يخلق رغبتنا في البقاء أحياء..إن البشر الحقودين هم زُبدة الحياة كالبشر المحبين، إذ أن كليهما يتخالطان ويتخاللان ويتقاطعان ليتشكل معنى التفاعل الإنساني.
وبغير إنسان على الضفة الأخرى، تصبح الحياة على جزيرة معزولة مفضية إلى الجنون، حتى لو كان بتلك الجزيرة كل أسباب الرفاهية والجمال.
إننا نخرج من كهوفنا مساء لنتجمع مع البشر الآخرين في المقاهي والمطاعم، والنوادي، وفي الشوارع والحدائق العامة والأسواق، رغم أننا نستطيع توفير كل مطالبنا بتطبيق على الهاتف الجوال. لأننا هناك في الخارج، نبحث في الضفاف عن إنسان آخر. ليس لنحبه أو لنكرهه، ولكن لكي نتأكد من أننا لم نُلفظ في كوكب بعيد غير مأهول. لذلك يكفي لدحر الكآبة أن نخرج ونسير في الشوارع ذات الإضاءة الخافتة الكئيبة ونرى بشراً آخرين. أو نشعر بأنهم يمرقون قربنا.
تصور لنا بعض الأفلام ذلك الوضع المخيف، حينما يخرج البطل إلى الخارج ليجد مدينته خالية بلا بشر. ولكي ينقل المخرج ذلك الشعور بالوحشة للمشاهد، فإنه يرفع الكاميرا بحركة بطيئة إلى اعلى فيتسع نطاق المشهد في الأسفل، ولا يرى المشاهد سوى شوارع خالية وأوراق تهب الريح عليها فتحركها، ويشعر المشاهد بالجزع، حيث لا إنسان.
صحيح، مهما فعلنا فسنظل في حالة توحد مع الذات، غير قادرين على الإندماج بالآخر، لكن تلك العزلة الإجبارية، هي التي تدفعنا دوما للبحث والمحاولة والإجتهاد، نكتب على وسائل التواصل، نعمل ونتسوق ونرتدي ملابس، ونتسلح ونقاتل، ونفعل كل شيء، لأن داخل أدمغتنا هناك دوماً إنسان على الضفة الأخرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى