خالد شاطي - .موت عبد الهادي.. قصة قصيرة

حين رأينا (عبسي) عائداً من عمله، بهيئته المضحكة، كعادته عصر كل يوم، تمكّنا من كبح جماح الشيطنة والعبث التي كانت تصول وتجول وتصهل في دمائنا، وامتنعنا عن مضايقته ومطاردته؛ امتثالاً لأوامر إمام الجامع التي أطلقها مساء أمس أثناء خطبته الطويلة المتشعبة. وبدل أن نزعق بالعبارة التي تثير جنونه ونحن نحوم حوله : (عبسي أبو العكاريك)، والتي استقاها أحدهم من شخصية مسلسل كارتوني، راح كل واحد ــ وقد أدار وجهه بعيداً عن عبد الهادي ـ يقول في سره، وقد أغمض عينية: (أنا ولد صالح، أنا ولد صالح أنا....). تماماً كما أوصانا الإمام.
وما خفف من ألم وحزن فقداننا طقس يومي محبب أن معاناة رهيبة ـ اعتنى الإمام بتصويرها وتجسيدها لدرجة أن معظم الحاضرين لم يتمالكوا أنفسهم من ذرف دموع الندم والشفقة ـ ستنزاح عن (عبسي)، وأن أجراً عظيما سيكتب لنا في السماء، حتى أننا تزاحمنا للوصول إلى يد الإمام لتقبيلها والقسم على الإقلاع عن التعرض لـ (عبسي) وإزعاجه، بل والكف عن تداول هذا الاسم حتى بيننا واستعمال اسمه الحقيقي ( عبد الهادي). أما آباؤنا وإخواننا الكبار الذين خصهم الإمام بتوبيخ وتقريع فقد اكتفوا بتنكيس رؤوسهم، إذ كانوا يشاركوننا أحياناً العبث بـ (عبسي) أو يضحكون مكتفين بالتفرج، الأمر الذي عدّه الإمام عملاً طالحاً يفوق في شره عملنا نحن الأولاد، وفق تبريرات لم أفهمها جيداً.
واصل (عبسي) طريقه إلى بيته وهو يتلفت صوبنا. بدت لي نظراته مندهشة، متوجسة، إنما لا أثر فيها لفرحة أو ارتياح.
**********
تظاهرنا باللعب، حالما رأينا (عبسي) في اليوم التالي، غير أنني كنت أختلس النظر إليه. بدت هيئة (عبسي) وحركاته مبالغ فيها هذه المرة. فظهره محني أكثر، ولا تظهر من رأسه الملفوفة بيشماغه سوى عينيه. وبنسق إيقاعي منتظم؛ كان يضع قدماً أمام قدم، ويتمايل جذعه جيئة وذهاباً كبندول ساعة. يتلفت حواليه كأنه يتوقع مفاجأة. وحتى لا تعيقه في المطاردة، وضع أطراف دشداشته في حزامه؛ فبانت ركبتاه العجفاوتين، أما الحجارة التي كان يذود بها عن نفسه فكان يسندها بكلتا يديه أسفل صدره.
أحقاً سنفقد هذا المنظر؟!... سنفقده إلى الأبد؟!
وجال في خاطري أن (عبسي) يبدو واحداً منا، أنه يستمتع بأداء هذا المشهد أو هذه اللعبة مثلما نستمتع نحن وأهلونا وربما أكثر منا. لا أدري إن كان الآخرون يستشعرون ذلك أيضاً، فعندما كنا نتعرض له، كان يدب فيه النشاط والحيوية، فيزعق في وجه هذا ويجري في إثر ذاك، وقد انتفخ وجهه وتورّد. لم يحدث أن آذيناه جسدياً أو معنوياً، ولم يحدث أن فعل هو ذلك، كان يكتفي بالزعيق: ( أنا عبد الهادي.. ولكم عبد الهادي.. عبد الهادي بأمر من السيد المحافظ) أو يطرق باباً اختفى خلفها أحدنا، أو يلوّح مهدداً بالحجارة، كما لو كان بيننا اتفاق ضمني، أو هكذا بدا لي الأمر.
كان منظره مضحكاً جداً ومغرياً جداً؛ لكننا، كما الأمس، التزمنا توجيهات إمام الجامع، فاكتفينا باختلاس النظر إليه وهو يبتعد، وكان يرمقنا بنظرات مندهشة أكثر من الأمس. توقف فجأة كما لو أنه تذكر شيئاً. ترك الحجارة تسقط، وعاد أدراجه إلى بداية الزقاق الذي ظهر منه لنا. وعاد يسير في خط سيره السابق ماراً بنا مرة أخرى، بهيئته السابقة نفسها، ولما لم يتعرض له أحد، واصل سيره حتى بيته.
************
في اليوم التالي والأيام التي تلته، لجأ (عبد الهادي) إلى تقديم تنازلات في كل مرة يمر بنا، فمرة يأتي بلا حجارة ليطمئننا، ومرة يميط لثامه ظناً منه أننا ربما لن نتعرفه، وقد أثار إماطة لثامه ضحكنا مثلما كان وضعه اللثام يضحكنا. ومرة يتعمد التباطؤ في مشيته والدنو منا أكثر، بل والسير بيننا، لكن كل تلك التنازلات أبداً أبداً لم تجعلنا نوليه اهتماماً.
وفي كل مرة يتعرض فيها (عبد الهادي) لتجاهلنا، كان يواصل سيره وقد اعتراه الأسى وبان عليه التعب أكثر فأكثر من المرة السابقة. وفي المرة الأخيرة، فوجئنا بعبد الهادي بيننا. كان الليل قد حل وهذه أول مرة يتأخر في العودة. كنا على وشك الذهاب إلى بيوتنا، كان يحدق فينا، في كل واحد منا:
ــ أنا عبسي.. عبسي .. عبسي.. أبو العكاريك..أنا عبسي أبو العكاريك.. كان يقول وهو يثب هنا وهناك. يدور حول نفسه. يصفق بكل قوته. يقهقه. يهزنا من أكتافنا كأنه يوقظنا. لكننا واصلنا تجاهله. أخيراً، كف عبد الهادي عن صخبه اللامجدي، وابتعد بخطواتٍ بطيئة مرهقة صوب بيته. توقف فجأة، واستدار ليصبح بمواجهتنا، ثم مال جذعه باتجاهنا، ورغم العتمة وبعد المسافة، مما لا يتيح رؤية ملامح وجهه، كان واضحاً أنه ينظر إلينا باستنكار ولوم فظيعين، حتى أن يديّ ارتعشتا وتسارعت دقات قلبي. ولم نره بعدها.
سمعنا أنه مرض، ولزم الفراش وأنه كان يردد لاهثاً: (أنا عبسي، أنا عبسي، أنا عبسي....) قبل أن يموت.
اختفى إمام الجامع. قيل أنه لم يستطع تحمل نظرات اللوم التي يرمقه بها الجميع؛ وأن المطاف انتهى به فلاحاً بالأجرة في احدى قرى أعالي الفرات.
وفي جنازة (عبد الهادي) التي سار فيها أغلب أهالي الحي، رحت ورفاقي ندور حول التابوت المحمول على أكتاف الرجال، ونحن نصرخ:
ــ عبسي.. عبسي.. أبو العكاريك..
ولكنه هو من تجاهلنا هذه المرة.
  • Like
التفاعلات: جاسم الحمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى