حاميد اليوسفي - المخالط

"نحن من طين ، يُوجعنا الأذى ، يجرحنا صغير الشوك ، يُجبرنا لطف الله"
(جلال الدين الرومي)
اللوحة 1
بمجرد ما أشعل الهاتف ، تفاجأ برنينه حتى كاد يسقط من يده ! قال لنفسه اللهم اجعله خيرا ، ثم فتحه :
ـ فلان .
ـ نعم .
عرف من خلال الصوت أن المتصل صديقه عمر .
ـ أهلا ، اتصلت بك قبل قليل ، لكن الهاتف لا يرد . أظن أنك نزلت لتوِّكَ من الطائرة (يقصد بأنه نهض من النوم) ! هل فتحت صفحتك على الفايس بوك ؟
ـ لا ، لم أفعل ذلك بعد . خير إنشاء الله !
ـ نشر محمد قبل قليل خبرا مقلقا ، أشار فيه إلى أن الصديق الذي جلس معنا قبل أيام في المقهى ، قد أصيب بكورونا ، وأتمنى له الشفاء العاجل.
ـ محمد اتصل حوالي الساعة الرابعة بعد الزوال قبل أن أخلد للنوم ، وقال لي بأن هذا الصديق يشك بأنه مصاب ، وأجرى فحصا بالصدى ، ولكنه لم يتسلم النتيجة بعد .
الهاتف يرن مرة أخرى . أنهى المكالمة الأولى ، صديق ثان على الخط :
-هل قرأت الخبر ؟
-لا ، لم أفعل بعد ، تلقيت فقط اتصالا هاتفيا حول الموضوع .

اللوحة 2
فتح صفحته على الفايس بوك ، وجد عشرات التعاليق تتمنى الشفاء لصديقه . حاول الاتصال به مباشرة ، لكنه عَدِلَ عن الأمر . افترض أنه قد يكون مُجهدا ، وغير قادر على الكلام ، لذلك قرر كتابة رسالة قصيرة ، يتمنى له الشفاء ، ويحثه على التحلّي بالقوة والصبر ، وبعث بها عبر (الواتساب) ، ليرفع من معنوياته ، فالله والطب والأدوية والأجهزة الصينية والكورية ودعوات الأحبة ستكون في عونه .

اللوحة 3
وضع يده على جبهته ، أحس بحرارة خفيفة . في البداية برر ذلك بأنه استيقظ من النوم ، وجسمه ربما لا يزال ساخنا . لحسن الحظ أنه اشترى منذ حوالي أسبوع ميزانا لفحص الحرارة . كما أنه اعتاد تناول أربع أو خمس حبات من (الماندرين)* ، فهو متوفر بكثرة هذه الأيام عند الباعة المتجولين . ويَستعمل من حين لآخر قرصا من فيتامين (س) . ولقّح لأول مرة ضد (الأنفلونزا الموسمية) ، لتجاوز نزلات البرد في الشتاء القادم ، خوفا من اختلاط أعراضها مع أعراض كورونا .
بعد الفحص وجد حرارة جسمه عادية . لا يشعر بأي صداع ، ولم يفقد الشهية لتناول الطعام ، أو تذوقه . لحد الساعة الأمور تسير بخير . لكن لا بد من الحذر ، فإذا كان مصابا ، فقد ينقل العدوى إلى باقي أفراد أسرته . إذن يجب عليه إخبارهم .

اللوحة 4
لقد أصبح في منزلة بين المنزلتين ، لذلك سيحتاج إلى خمسة أيام أخرى أو ستة لعزل نفسه داخل البيت . عندما يفكر في الخروج من الغرفة إلى المرحاض عليه استعمال الكمامة ، وتجنب لمس أي شيء . لا بد من مسح مقبض الباب بمُعقّم أثناء الدخول وأثناء الخروج ، وتركه مفتوحا للتهوية ، ومسح الكرسي وإغلاقه ، وتناول الطعام بمفرده ، وعدم استعمال نفس الأواني التي يستعملها غيره في البيت ، حسب نصائح وزارة الصحة .
لحسن الحظ أنه يجلس في غرفة خاصة ، تتوفر على نافذتين ، كانت تقيم فيها ابنته قبل سفرها إلى ألمانيا . أضاف إليها فقط حاسوبا مع مكتب وخزانة صغيرة لبعض كتبه .

اللوحة 5
إذا أصيب بالعدوى فقد حدث ذلك منذ أكثر من خمسة أيام . ولا بد أنه نقلها إلى البيت ، وبذلك ستصبح كل الاحترازات داخل المنزل بدون جدوى . الله يستر و(صافي)* .
في المغرب الكل سيتوجس منه ، ويخافه مثل كائن أجرب ، مع كورونا كل شيء جائز . لماذا يلتفت إليه الناس بمجرد أن يسعل بشكل عادي ؟! البعض يعيد كمامته إلى وضعها الطبيعي ، والبعض الآخر يبتعد مسافة الأمان ، فيشعر وكأنه ارتكب ذنبا أو جرما .

اللوحة 6
كورونا ولد الحرام . قد يتسلل من غير أن يشعر به أحد . أنت تضحك ، وتتحدث إلى أصدقائك في المقهى ، وهو يتربص بك ، وقد يستغل أي هفوة صغيرة لم تخطر على البال ، فيصطادك . تُعقِّم الكرسي والطاولة قبل أن تجلس ، يضحك عليك العزيزي . تَحذَر من فنجان القهوة ، وقطعة السكر ، وكوب الماء ، والنادل . تتذمر من الرجل الذي يجلس هناك ، يقرأ الجريدة ويسعل بين طيات صفحاتها ، ولا يستعمل كمامة ، وعندما ينهض يتناولها منه زبون آخر . تحمد الله أنك لم تعد تقرأ الجرائد الورقية . فرض عليك كورونا تعويضها بالجرائد الإلكترونية . تُعقِّم يديك ، ومقود الدراجة ، والهاتف ، والنقود ، وقنينة الماء التي تأتي بها من المنزل . الآن تُدرك بأنك ترتكب بعض الأخطاء التي ترى أنها صغيرة ، وهي ليست كذلك ، مثل إزالة الكمامة أثناء التقاط صورة أو حك أنفك قبل أن تُعقّم يدك .

اللوحة 7
تعتقد أن دخان السجائر من أخطر الوسائط في نقل كورونا حسب دراسات اطلعت عليها في بعض المواقع . تمتعض عندما ترى شخصا يدخن سيجارة بجوارك . تغير المكان حتى لا يصلك الدخان ، أو تغادر المقهى منفعلا . ليس من اختصاصك منع الناس من التدخين في المقاهي ، أو الاحتجاج على عدم استعمال الكمامات ، أو احترام التباعد .
أحيانا تشعر بأنك محظوظ لأنك تحمل فصيلة الدم (0) . بعض الأبحاث تجعل أصحاب هذه الفصيلة أقل عرضة للفيروس ، وفي حالة الإصابة لا يشكل عليهم المرض خطورة كبيرة .
تعتقد أيضا ـ لكن هذه المرة بدون دراسة ـ أن مراحيض المقاهي لا تقل خطورة ، فمساحتها جد ضيقة ، وتنقصها التهوية . وتحمد الله أنك لم تدخل مرحاضا في مقهى منذ حل كورونا ضيفا ثقيلا ، يفرض إجراءات وتقاليد جديدة ، على الناس التكيف معها .

اللوحة 8
تخلصت من الإدمان على الجلوس في المقاهي منذ بداية الحجر الصحي . أحببت ذلك وكرهته في نفس الوقت . أحببته لأنك ربحت وقتا إضافيا يمكن أن تقضي جزءا منه مع أهلك في البيت وجزء آخر في القراءة والكتابة وثالث تخصصه للحركة والمشي . لكنك على غير العادة ، جلست في المقهى أربع مرات هذا الأسبوع . أحسست بحاجة إلى الجلوس مع أصدقائك ، والتحدث إليهم ، فأنت لم تر بعضهم منذ مدة . فرق كبير بين أن تتبادل الكلام مع صديق في الهاتف ، وبين أن تجلس وتتحدث إليه وجها لوجه في المقهى .
احذر أن يوقعك كورونا في الفخ مثلما وقع للغراب مع الثعلب عندما مدحه بأن صوته رقيق وعذب ، وطلب منه أن يغني ، فسقطت قطعة الجبن من فمه .

اللوحة 9
تذكرت العديد من المصابين بالوباء اللعين الذين حكوا بعضا من تجربتهم مع كورونا . كأنهم وُلدوا من جديد ، أو عادوا من حافة العالم الآخر . قالوا بأن الوباء في البداية يجعل المريض يفقد شهية الأكل ، ثم يُصيبه بصداع في الرأس ، قبل أن ينقل الحمّى إلى باقي أعضاء الجسد . تتراخى العظام وتثقل ، يُحسّ المصاب بالضعف والوهن يَدِبّ إلى جسمه حتى يعجز عن الكلام ، بعد ذلك يجثم مثل صخرة فوق الصدر، ثم يمنعه من التنفس بطلاقة ، فيتسرب إلى الرئة ، ويبدأ في تخريبها ، ويعطل دخول الأوكسجين ، فيصيبه السعال . وإذا كان مصابا بمرض مزمن مثل القلب أو السكر أو الصدر ، فلا بد له من التنفس الاصطناعي . وقد ينقذه الدواء والطب والعناية الإلهية أو يسقط في هاوية العالم الآخر . كوابيس الوباء ، وقلة الأطباء والممرضين ، وضعف الخبرة ، ووضع المستشفيات المزري ، كل ذلك يجعل الحالة النفسية للمرضى وذويهم تنزل درجات تحت الصفر . ويصبح المصاب كمن يجد نفسه وسط بحر هائج ، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود .

اللوحة 10
ومن كانت حالته أقل خطورة ، يُفضل أن يعتزل رفقة أسرته داخل المنزل ، ويتناول الدواء بانتظام لمدة أسبوع . ويحمد الله ويشكره على أنه لم يمر بحالة مستعصية تستدعي زيارة طبيب المستشفى العمومي ، الذي لن يأتي إلى البيت كما وعدت بذلك الوزارة الوصية ، ولو سقطت السماء على الأرض . أما حلم الحصول على سرير في المستشفى مع جهاز تنفس فدونه سبعة نجوم . يتضامن الأهل مع بعضهم ، ويأتون بالطعام والدواء ، ويضعونه أمام الباب ، ويبتعدون قليلا ، ثم ينادون في الهاتف لأخذه . الناس تقاوم ، وتتجلد بالصبر ، وتتسلح بإرادة الحياة ، لتجتاز حافة الهاوية بنجاح.

اللوحة 11
لا تنس دور المساجد والكنائس والأدعية وجمعة مباركة . كل شيء في هذا الكون له دور ووظيفة . المساجد والكنائس والأدعية وجمعة مباركة وحدها غير كافية ، قد تخفف من الألم ، وتطمئن النفس أمام انهيار المنظومة الصحية ، لكنها لا تعالج الداء . الخوف الذي يسكن الناس يا صديقي نابع من أن البلد لم يستعد للأوبئة والأمراض ، ويُشيّد ما استطاع من المدارس والجامعات والمستشفيات والمختبرات ويجهزها بالآلات والباحثين ، فالوباء لا يخاف المساجد والكنائس والأدعية وجمعة مباركة ، بل يخاف المناعة والأدوية واللقاحات والأبحاث القادمة من وراء البحار ، ويعرف كيف هزمت من قبل ، غيره من الأوبئة ، وأعادت الأمل للبشرية.

اللوحة 12
تذكرتَ في منتصف الليل ، ليل النابغة الذبياني* وليل جميل بن معمر* . لاحظت بأنك لا تستعد لاستقبال ملك هجوته من قبل ، ولا تبك فراق امرأة مثل بُثينة ، رفض أهلها مصاهرتك لأنك تغزلت بها .
ربما ليل كورونا يشبه رقصة مع الموت لم يكتب حزنها شاعر بعد . كم حجم القلق الذي سينتاب الشعراء وهم يرون كيف يمنع الوباء الناس من العناق ، من وضع اليد في اليد ، من تبادل القبل ، من الاقتراب ! كيف يفرق بين الأم وابنها ، بين الزوج وزوجته ، بين الأخ وأخيه ! كيف يسرق الحياة من آلاف الناس ، ومن مختلف الأعمار والبلدان ، وبدون وداع يليق بمن رحل ولن يعود ؟!

اللوحة 13
كورونا وباء يغدر مثل ثعلب ماكر قد يلد أو يبيض ، ويجب أن تنتظر منه أي شيء خطر على بالك ، أو لم يخطر .



المعجم :
*جلال الدين الرومي
- (الماندرين) : فاكهة اليوسفي .
- صافي : كفى باللهجة المحلية .
- النابغة الذبياني : شاعر جاهلي من الطبقة الأولى له قصيدة شهيرة يعتذر فيها للنُّعمان بن المنذر ملك الحيرة ، ويخاطب في مطلعها ابنته أميمة :
كليني لِهَمٍّ يا أُميمة ناصبِ
وليل أقاسيه بطيء الكواكبِ
- جميل بن معمر شاعر عاش في العصر الأموي وتربع على عرش الغزل العذري وصاحبته بُثينة .


مراكش 20 نونبر 2020





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى