حاميد اليوسفي - السقوط من أعلى.. قصة قصيرة

[SIZE=22px]مر حوالي نصف ساعة على طلوع الشمس . لَوّحَ عبّاس بيده لسيارة أُجرة ، فوقفت بجانب الرّصيف أمام باب الإقامة . تقدّم نحوها خطوتين ، وفتح الباب ، ثم التفت خلفه ، فخرجت فتاة في العشرينات من وراء الكشك الصغير الذي يجلس فيه . انحنت قليلا ، وفتّشت حقيبتها اليدوية ثم وضعتها فوق المقعد . اعتقد أنها عادت لتقدّم له بعض البقشيش ، كما يحدث في المسلسلات التلفزيونية ، لكنّها وقفت بجانبه ، وقرّبت خدّها النّحيف من شفتيه ، وأشارت عليه بأصبعها . تردّد قليلا ! وقفت على أصابع رجليها ، ومالت على شفتيه مرّة أخرى ، وأصرّت عليه بأصبعها أن يطبع قُبلة على خدّها الأيمن . احمرّ وجهه . التفتَ يمينا ويسارا ، لم يجرؤ على فِعلها أمام سائق الطاكسي ! جَرَّته من رقبة قميصه ، ومالت بخدّها حتّى لامس شفتيه ، ثمّ ركبت ، واختفت داخل سيارة الأجرة التي انطلقت إلى الوجهة المطلوبة .[/SIZE]
وقف عبّاس مشدوها . لم تفعلها معه فتاة من قبل . أحسّ بنشوة تسري في عروقه ألذّ ممّا يفعله العشاق بعيون مُغمضة في أمكنة مُعتّمة ، جعلته مثل طائر ، يُحلّق في خيال كالسّحر طيلة اليوم . في البداية اختار سيارة فاخرة من نوع (ميرسيديس) تليق بالمقام ، فتساءل بسخرية :
ـ لا تبالغ ! (المرسيديس) دفعة واحدة !؟ كيف ستقودها وأنت لا تتوفر على رخصة . بالكاد تقدر على قيادة درّاجة ناريّة من النوع البسيط . أكيد أنك إذا استطعت إدارة المحرك ستصدمها مع الحائط أو مع عربة أخرى ؟
ليتخلص من هذا الإحراج ، افترض أنه يتوفّر على رُخصة ، ويقود سيارة أقل قيمة ، والفتاة الجميلة تجلس بجانبه . بدت نحيفة أكثر مما يشتهي . تمنى لو كانت بدينة قليلا لبدت أجمل . أمه وعدته إذا دخل سوق رأسه ، ووسعها الله عليهم ، بأن تخطب له فتاة بدينة بعض الشيء ، وبيضاء مثل الحليب . يفتح البوّابة كُلّما طُلِبَ منه ذلك ، ثم يعود إلى حلمه اللّذيذ . يتخيّل نفسه يسكن في إحدى هذه الشقق الفاخرة التي يحرسها ، ويدخل رفقة الفتاة التي أصبحت صديقته في الخيال أفخر المطاعم ، ويتناولان وجبتهما بالفُرشاة والسكّين . تذكّر ما حدث له مرّة ، حين طلبه أحدهم لاقتناء عُلبة سجائر في مُنتصف الليل ، ولما عاد أخرج له بقايا وجبة طعام في (بلاتو)*. ضغط على حبّة الزّيتون بالفُرشاة فطارت من أمامه . ماذا لو طارت في المطعم ولطّخت ثياب فتاة تجلس مع عشيقها قُبالته ؟ نعم هو قويّ البنية ، لكن الزّمن تطوّر ، والناس الذين يرتادون الأمكنة الرّاقية ، لا يتعاركون بالأيدي ، بل يكسبون المعارك بالهاتف فقط . بابا وماما على الخطّ ، والأمن في الخدمة . وفي رمشة عين يجد نفسه في قسم الشرطة ، وفي الصباح يُقدّم للمحاكمة .
لا بد أن يدخل سوق رأسه ، وينسى الأيام التي ساقته إلى أقسام الشرطة والمحاكم ، ثم رأى أنه من العيب أن يعبث ببنات الناس ويستغل فقرهن . أخته أيضا فتاة وسيمة ، لكنه لا يرضى أن يضحك عليها أحد فقط لأنها فقيرة . قال في نفسه مستغربا :
ـ ولكنّ الله تعالى نفسه أباح لنا في الجنّة أن نسهر مع من شئنا من الغلمان والحور العين ! ألم يعدنا كذلك بأنهار من خمر لذّة للشاربين ؟ ولكن لماذا منع عنا ذلك هنا في الحياة الدنيا ؟ ربما وراء ذلك حكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه والراسخون في العلم .
وسوس له الشيطان بأن يدخل سوق رأسه ، وتمنّى عليه أن يترك الجنّة ، فطريقها أصبح وعرا في هذا الزّمن الصّعب .
تخيّل صورة أخرى أبسط وأجمل ، يتمناها كل شاب في سنه ، ويرضى عنها الله والأهل في الحياة الدنيا . رأى الفتاة تجلس بجانبه مثل القمر في حفل زفاف ، ترتدي ثوبا أبيض ، والغالية أمه تقف بين النساء ، تبتسم وتزغرد . أوقف الحلم لحظة ، وتساءل باستغراب :
ـ وأين سنعيش ؟ هل تقبل عروس بأن تتزوج من حارس يقتسم غرفة مع إخوته ؟
تذكر ما تقول له الوالدة من حين لآخر ، وهي تربت على كتفه ، عندما يهم بالخروج من البيت :
ـ بمجرد ما يوسّعها الله علينا ، أخطب لك فتاة أجمل من القمر .
يعلق على وعدها في صمت :
ـ منذ سنوات يا أمّي والأقمار تظهر وتغيب ، والله لم يوسّعها علينا بعد !
تلمس الإحساس بالخيبة في نظراته بحدس الأم ، تتألم في صمت ، لكنها لم تفقد الأمل في أن تدعو الله في كل صلواتها أن يفرجها معهم ، وتفرح بعرسه .
هذا الواقع الذي يزداد تعقيدا كل يوم ، ينغّص عليه أحلامه ، ويمنعه من الطّيران ، ويشدّه إلى الأرض . حاول التهرّب منه ، والعودة إلى تخيّلاته من جديد .
رأى نفسه يُلبسُ العروس الخاتم ، ويطبع قبلة خفيفة على خدّها الأيسر، أصابته رعشة خفيفة ، فكاد يذوب من الخجل . نفس الخجل الذي اعتراه عندما وضعت خدّها على شفتيه في الصّباح . تبادلا شرب الحليب ، وعضّت على نصف التّمرة ، وقدّمت له النّصف الآخر . ارتفعت الأهازيج الشعبية :
ـ ( ادّاها ادّاها والله ما خلاّها )* .
في اللحظة التي وقف فيها معا ، يهُمّان بالذّهاب إلى غرفتهما في البيت الجديد ، قطع عليه مُنبّه السيارة حلمه الجميل . فتح البوّابة ، وناداه وائل بإشارة من يده ، وتبعه بسرعة . طلب منه حمل بعض الحاجيات من حقيبة السيارة إلى الشقة . نزلت فتاة في سن الزهور . وضعت يدها في يد زميلها . ترتدي سروال (دجينز) قصير ، وقميص صيفي يفصل بين النصف الأعلى ، والنصف الأسفل من الجسم ، فبدا جسدها من الخلف ضامرا وجميلا ، مثل عود الخيزران .
وهو يصعد السُلّم ، لاحظ بأن العُلبة ثقيلة شيئا ما . خمّن بأنها مليئة بالطعام والمشروبات الروحية . رأى بأنهما يتمايلان بفعل السكر ، ويتّكئان على بعضهما مثل عاشقين . رُبّما قَدِما من مرقص لقضاء بقيّة السهرة في البيت . كل ليلتي جمعة وسبت يخلق وائل جنّة صغيرة توافق مزاجه.
كاد يستيقظ بداخله حيوان قديم سكن روحه في الماضي ، لولا هذا العمل اللعين الذي لم يعثر عليه إلاّ بشقّ الأنفس ، والقسَم الذي أدّاه لوالدته أمام المصحف الكريم ، بأن يعمل كل ما في وسعه للتخلّص من هذا الجزء الأسود من ماضيه ، حتى لا يجرجرها أمام الأقسام والمحاكم ، وهي في أرذل العمر .
شتم حظّه العاثر ، لم يستطع تخيّل بقية للعرس ، فقد خرج الضيوف ، وتشتّت ذهنه . شكا الفتاة التي قبّلته هذا الصباح إلى الله ، وتمنى لو لم يقابلها .
عندما يدخل سوق رأسه ، يطير عاليا بلا أجنحة ، وسيسقط لا محالة . ما أبشع أن يرتطم الإنسان بالأرض ، عندما يسقط من أعلى .


المعجم :
ـ (بلاتو) : صينية


ـ (ادهاها اداها والله ما خلاها) : فاز بالعروس ولم يتركها لغيره .
مراكش 01 / 12 / 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى