المصطفى كليتي - حمــــام الجمعة

نشق الطريق بين الدروب الأفعوية ، من البيت إلى الحمام في غبش الصبح ، نلحق أنا وأخي بأبي المدثر بجلبابه المؤقلم وهو يحمل رزمة بداخلها ملابسا وعدة الحمام . أخرجنا صوت الوالد غب نداء الفجر من وسن نومة آسرة لمرافقته – كالعادة – للحمام ، الدروب شبه خالية عدا المعلم « هلال الشفناج « الذي يسوي مقلاته الكبيرة ، والأم رحمة التي تعد حساء الحريرة للعمال والحرفيين المتعجلين ورهط من القطط الضالة يخوض حربا ضارية أمام مطعم « البوهالي « متصارعة على رؤوس سمك السردين الملقاة بفوضى في صندوق القمامة .
مطرخفيف يسح بسخاء مع نداوة الصباح ، نمد اللسان لنتذوق ملوحته القارصة ، عجلنا الخطى ، وقد كاد الوالد أن يطأ عتبة باب الحمام ونحن لانزال نتبارى في رشق قطيع كلاب بالحجارة وهم يتبعون كلبة متراخية تدب بخيلاء .
دلفنا إلى الحمام بعجلة ، نزعنا ثيابنا ووضعناها في صندوق خاص تسلم أبي المفتاح المرفوق بمربع خشبي مرقوم بالأحمر.
في بهو الاستقبال ، تسلم كل واحد منا نصيبه من الدلاء بعضها من خشب « قباب « وآخرى من كاوتش ، دلو واحد للصغار ودلوان للكبار ، غافلنا المراقب وأضفنا المزيد حتى لا نحتاج للمزيد من طلب الماء ، اجتزنا الغرفة الأولى ببابها الخشبي الضخم المسنود بحجارة كبيرة تثبته عن التأرجح وتحدث مع قرقرة الباب صدى رفيعايصم الأذان ، بالكاد فتحنا الباب أنا وأخي ، بدأنا نخوض في العتمة والضباب والأبخرة المتصاعدة ، وضوء كشح شمعة ينفذ من مصباح .
اصطففنا أمام الصهريج « البرما « لنملأ الدلاء بدفق الماء الحار ، اجتهد أبي في ايجاد بقعة تسعنا وقد عمد البعض لاحتلال مساحات واسعة من أرضية الحمام كأنه يحتل جزيرة خاصة ، وقد أحاط به عددا من الدلاء تحصينا للمكان حتى لا يزاحمه أحد ، بدأت الحرارة ترتفع واجتهد أبي في ملء الدلاءبما يلزم من ماء ، الأزدحام على أشده وأصوات صاخبة ترتفع هنا وهناك :
ـ اطلق السخون .. شوية ديال البارد عفاك !
صب علي أبي الماء اللاهب ، فقزت من مكاني هاربا ، نفرت من شدة الحميم الذي لسعني ، شدني أبي شدا وطرحني على كرشي ونشب يكشط جلدي بقوة ، وفتائل الأوساخ تتكاثر وتبرم وتتفسخ مع الحر ، تابع أبي دعك أطرافي وصب علي الماء ثانية بعدما مزجه هذه المرة بالماء البارد ، فجاء الماء فاترا محتملا شعرت معه بنشوة تملأني ، انتهى الشوط الأول ، لتبدأ مرحلة طلي الصابون وقد توليت ذلك بنفسي ، حتى عجزت عن الوصول لظهري فأكمل أبي ذلك ، لكي يشرع في عملية تحميم أخي .
كان أخي الذي يكبرني بسنة ، يتبجح بخبرته الزائدة ، لأنه يعرف ما لا أعرف من أسرار الذهاب إلى الحمام فالرجال يذهبون ليلا والنساء نهارا ، ويوم الجمعة يبكر الرجال للحمام لفضل الطهارة وصلاة الجمعة ، ولكنه كان كمعلم التربية الإسلامية يمطط كلمة « لامس « الرجل المرأة ، وشق علي أن أفهم لامس على حقيقتها العارية ، إلاأن صادف مرة وقد شعرت بصقيع برد يلسع ضلوعي المقرورة ،فتلمست الدفء بالبحث عن غطاء إضافي ، فوقعت عينى على مايجب أن لا أراه ، رأيت أبي يفترش أمي في الظلام الدامس ، كان يلهث كحصان التبوردا ويحمحم ، في حين كانت أمي تئن وتنهنه بصوت خافت ، تواريت منكسرا والخجل يتسلقني ويشل أطرافي ، ولامس من « الكلام الكبير « الذي علينا نحن الصغار أن لا نذكره أمام الكبار ، وكان الرجال والنساء ينتدبون مكانا قصيا في عتمات الحمام لينظفوا أعضاءهم الحميمة بعيدا عن الأعين .
في البدايات كنت أصاحب والدتي إلى الحمام ، حيث كنت أنعم بروائح القرنفل والخزامى والحناء والورد وغيرها من العطور المثيرة ، تغسل أمي رأسي بالغاسول وتدهن جسدي بطبقات ناعمة انسيابية من الصابون البلدي اللزج بلونه البني الدبق ، ويحدث أن أغمض عيني وأفتحها وأرى خيالات وسقف الحمام يتقاطر بماء كأنه الندى ، وأتأمل بفضول صدور النساء الرحبة بأثداء كالقلل أو متوسطة الاستدارة كحبات التفاح أو شبه مستطيلة معقوفة قليلا كإجاص مكتمل النضج ، أو صغيرة لينة ناعمة متشققة كحبات التين ، كنت أرهف السمع لأحاديث النساء وهن داخل سعير جهنم الحمام يتبادلنا الأخبار والنميمة عن الأعراس والخطوبات والطلاق والمرض والموت ، لكي ترتفع الأصوات بعد ذلك بالعتاب والعتاب المضاد ، كنت أنصت معجبا بهذه الأجساد الناعمة الطرية الفواحة بروائح نافذة كأني في عطارة بلعيد ، أسركثيرا بجدئل النساء المنسدلة بسخاء على الأكتاف أو البطون ، وقد تلتصق أحيانا بعجيزاتهن المترجرة الفيوض ، ومرة غامرت وقرصت امرأة لحيمة وهي في غمر غسل شعرها الكثيف بالشبوان ، فندت عنها صيحة أفزعت من في المكان ، من غبائي كنت أظن بأنها لن تشعر بفعلتي لشساعة أطرافها ، تواريت خلف رتل الدلاء متناوما ، داهمتني القيمة على الحمام وهي زوجة مقدم الحومة وتستمدنفود وجبروت السلطة منه ، جرتني من أدني فأوجعتني وزادت دعك أدني حتى صرخت وبكيت ، وهي تصيح وتولول بملء الصوت :
ـ رجل بيننا رجل في حمام النساء ياويلي ياويلي!
تحلقت النساء وهن في هرج ومرج ويمعن النظر كما لو أني أرى لأول مرة ولاسيما وشعري الطويل يظن الظان بأني فتاة ولست ولدا ، تحلقن حولي في صخب ومسكت أصبع بطني وقاسته بأصابعها مندهشة وهي تقسم : ـ والله لشيئه أكبر من شيء زوجي المتهدل دوما كجزرة تالفة !
تداخل بعضي في بعضي والنساء يكركرن بالضحك ويتمنين الفرح للمرأة التي ترتبط بي !
ومن تلك اللحظة طردت من الحمام شر طردة .
تولى « العظمة « وهذا اسم « الكسال « أومنظف الأجساد والذي يعمل على تنقيتها وتنظيفها وهو عامل ملازم للحمام ، له أكثر من مهمة فقد يراجع بين الحين والحين مستوى النار في الحمام ويضيف حطبا وأعودا» فرنطشي « وهو في نفس الوقت حريص على أمن ونظافة الحمام ، كان نحيلا نحول مسمار ويكاد جسمه أن يكون هيكلا عظميا متحركا على خلاف الهياكل المصفوفة في قاعة العلوم الطبيعية بالمدرسة .
رغم ضعفه وهزاله البين ، كان نشيطا وحيويا ، لايني عن كشط الأوساخ زلف الليل وبعــض أطراف النهار ، يستعمل محكه الحجري أو محك آخر من دوم ينزع الجلد قبل الأوساخ لشدة حدته وخشونته، مخلفا جراحا وندوبا وهو يستعمل أدواته حسب أوضاع أوساخ زبنائه ، يعمد ويفرك جيدا هذا قبل أن ينتقل لآخر ، وثالث أحيانا وهو يقوم بقوة وعزم شديدين بحركات رياضية بله بهلوانية ، يحرك الزبون من جميع الاتجاهات الذرعان ثم الساقان وبخفة قرد درب يرفع الزبون عاليا وهو يضرب على فخذيه بصوت مسموع ، ويحدث بفمه مايشبه موسيقي مصاحبة : ـ سيت . ســـــيـــت .. سيت ..
وبسرعة يدعك الصابون بوفرة ويدلق سطلا بكامله على جسد الزبون وهو يصرخ خاتما : ـ بالصحــــــة !
في نفس الوقت مر رجل أكرش أصلع يمشي بالكاد ، فانزلق في غمر الصابون الذي تحول إلى بركة صغيرة تتسع بتدفق زخم الماء، ارتطم الرأس الأملس ككرة والمستحمون بين مشفق مادا يد العون حتى يسوي الرجل المرتبك المصدوم وقفته وبين كاظم لضحكة تكاد أن تنفلت ، يأتي دور الأب فيفرغ له « العظمة « ونخرج نحن خارج القاعة ، ونغتم خواء الغرفة الأولى الباردة نسبيا ونمعن في طلي أرضيتها بقطع الصابون المهملة في الجوانب وعليها أثار شعر متلاصق، ونبدأ عملية التزحلق تارة على أرجلنا وطورا على بطوننا غير حافلين بمخاطر الإصابة بجراح خطيرة من جراء أمواس الحلاقة المرمية كما اتفق ، مر بنا» العظمة « وهو بصدد قضاء بعض الأغراض فنهرنا وصدنا عن اللعب ، وقمنا بلف جسميا بالفوطة في انتظار أن نبترد ويخلص الوالدمن طقوس الاسحمام ، كان الزبناء يضعون أرجلهم وسط الدلاء متنعمين بغسل أرجلهم ، وهم يتناولون أصابع البرتقال أو كؤوس شاي منعنع يجيد توضيبه القيم على الحمام ، يشرب منغوما بآهات استحسان واستلذاذ .
بعدالاستراحة ، نلبس ملابسنا ، ويحرص الوالد عل أن نشرب الماءمن خابية الحمام الطينية ، لكي تتكيف أجسادنا مع الجو خارج الحمام ، نلف الرأس بطاقية وفوطة ، ونخرج ودخان الحمام يتصاعد من أفواهنا ويسابقنا ، النهار يتمطى والشمس أضحت وضحكت ، نمر ببائع الأسفنج ونتبضع كيلوغراما نبدأ بقضمه ساخنا فوارا ، كمقدمة لفطور صباحي لذيذ نتناولة بشهية زائدة .

المصطفى كليتي


بتاريخ : 02/10/2020



  • Like
التفاعلات: عبد الأحد بودريقة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى