منور ناهض الخياط - العائد من المستحيل.. قصة قصيرة

كم أنا الآن سعيد في قبري ..

فالأزهار قد نمت عليه وتكاثرت على جداره الخارجي ..ولم تعد هناك حتى ولو بوصة فارغة فيه .. إن قبري يبدو كباقة من الورود ، فقولوا لي هل هنالك أجمل من هذا ؟.. إلا أن هذا الأمر في حقيقته كان مجرد أمنيات ، فقبري ليس غير هيكل حجري ذي لون رمادي قبيح .

يا إلهي ، كيف آل بي هذا المصير؟، لم مت باكرا؟، هل أستحق كل هذا ؟،صحيح جدا أني تمنيت الموت ، بل وكنت أسعى أليه في أحيانا كثيرة ، غير أن هذا حدث في زمن مضى .. فالمرء منا يشهد خلال حياته تجارب وأحداث كثيرة تجعله في كثير من الأحيان يعيد حساباته من جديد .. وربما أيضا قد تتغير قناعاته في كثير من المسائل والأمور .. وهذا ما حدث لي تماما .. فبعد تجارب بائسة وحزينة ، وجدت نفسي من دون موعد على أعتاب تجربة تختلف تماما عن تجاربي الأخرى ، تجربة فتحت بصيرتي عن شيء اسمه الحياة .

يا إلهي ، كم هو أمر مؤسف حقا ، فالواحد منا لا يمكن أن يجد له راحة حتى في القبر.. ها أني أحاول أن استلقي على ظهري قليلا ، ولكني لا استطيع ، يجب أن أجد حلا ، فأنا عادة ما أكون مستلقيا على ظهري حين أقوم بالتفكير في مسالة ما أو التأمل في أمر معين ، إلا أني الآن في القبر ، وكل ما كنت افعله في حياتي مضى وانتهى دون رجعة .

يا الهي ،كم انا متعب وقلبي يعصره الألم .. الأمس دفنوا بقربي شخص تناثر جسده ، كان كومة من اللحم ملفوفة في صرة من القماش الأبيض ، رأس وبعض من الأجزاء ، آه لو تسمعون معي أنينه ، إنه يبكي حتى الحجر..بالطبع له الحق في كل هذا الأنين الذي يصدر منه ،فهو يجهل تماما مصير باقي أجزاء جسده ، فما دفن مع رأسه هي أقل بكثير مما تناثر أو أحترق .

اليوم صباحا ، دفنوا جثة فتاة ذات اثني عشر ربيعا ، وها أني أراها بقلبي ، كيف أنها منكسة الرأس .. ورغبة عارمة في دواخلها على حرق نفسها .. كان علي أن اخفف عنها ولو قليلا .. لذا قمت ومن خلال اللحود صامتا أناديها :

ـــ رفقا بنفسك يا عزيزتي .. رفقا بنفسك .

ـــ لقد اغتصبوني يا عماه .

ـــ آه يا ابنتي المسكينة ، كيف تجرؤ على فعل ذلك ؟.

ـــ كانوا مئة أو أكثر ، كلهم كانوا نسخة واحدة ، القامات ذاتها ، الوجوه ذاتها ، الرائحة ذاتها .. اغتصبوني جميعا حد الثمالة ، وحين تعبوا ناموا ، وما أن استيقظوا حتى عادوا إلي من جديد ، دون أن يدركوا باني قد فارقت الحياة منذ الوهلة الأولى التي شممت فيها رائحتهم .

قبل قليل دفنوا بقربي جثة طفل .. كان المشيعون يتكلمون همسا ، من أن الطفل بعد أن قتلوه زرعوا في جثته العديد من المتفجرات .. وأن خبراء المتفجرات وجدوا صعوبة في انتزاعها من بين أحشائه ، ما أن قال المشيعون ذلك حتى صمتوا سريعا ، وأداروا رؤوسهم صوب الشمس وفي دواخلهم هلعا في أن تلجأ للغروب مبكرا .. كان صمتهم يخبرني بان العالم قد أبتلعه جزارون ، يرون أننا لا حق في أن نحمل رؤوسنا على أكتافنا ألا بأذن منهم .

يا إلهي .. ما هذا الصوت الذي يخاطبني ؟ .. ترى من أي زاوية من زوايا اللحد يأتيني ؟ ، أنه يدمدم في مسامعي وجسدي يرتجف هلعا من لهيب أنفاسه . . أي صوت كان صوته .. أنه كصوت مذيع ضخم الجثة ، أطلق العنان لحنجرته وهو يذيع واحدا من بيانات الحرب الأسطورية .

ـــ كان لك كل الحق في أن تطلب وتتمنى الموت باكرا .. فالكل امرئ قدرة على الاحتمال .

قال لي هذا بسخرية غبية ، وهذا ما استفزني وجعلني أمتطي مخاوفي ، فقلت له :

ـــ لو كنت بمكاني ماذا ستفعل ؟ . . قل لي ، ماذا تفعل ؟ .. كان الأمر مهينا لي ، وأنا أقف أمام زوجتي معلنا فقداني لفحولتي .. عجبا لم الفقراء يحصلون دوما على المصائب؟ .. قل لي ماذا تفعل وأنت تشاهد نفسك تخوض في برك من دماء رفاقك ؟، تحاول أن تسعف هذا أو ذاك ، أو تحاول أن تجد جوابا للسؤال الذي ظل عالقا في عيون رفاقك الذين قتلوا((لأي سبب نحن نموت ؟)) ،لا جواب يا أحبتي ، لا جواب ، الشيء الوحيد الذي أعرفه،إننا جميعا نلعب دون أرادتنا لعبة قذرة أسمها الحرب .

عندها تمنيت الموت سريعا بل سعيت له بطرق شتى ، ألا انه كان غافلا عني أو انه يعتبرني شيئا لا قيمة له .. ليست هذه الأسباب كلها، فثمة هنالك أمور أخرى كثيرة لو بحت بها الآن لتهدمت كل القبور حزنا وبؤسا . أتدري أيها الصوت القادم من حيث لا اعلم ، إن كل الأشياء الموجودة في هذا الكون هي خاضعة للتغيير شاءت أم أبت .. وهذا ما حدث لي ، فبعد أن كنت أسعى للموت سعيا ، بت عاشقا للحياة.. حدث هذا منذ أن التقيت به ، كان كطيف جميل علمني أبجدية الحياة ومضى ، إلا أنه ظل لصيقا بروحي .. ومنذ اللحظة تلك وجدت نفسي باحثا ومستكشفا سر الوجود الحقيقي للبشر.. وكان هذا كافيا في أن يكون سببا بالقضاء علي .

اللحظات الأخيرة من حياتي لم تغب عن ذهني أبدا .. في ليل خريفي ،كنت أسير وحيدا وأنا أغني ، مبتهجا برحيل صيف قائض..الشوارع خلت من روادها وغفت الأرصفة بنوم ثقيل..أقفل الناس همومهم في صدورهم ، وقذفوا بأنفسهم في منامات يتمنون لو أنهم لا يصحون منها أبدا.

من أحد الأفرع الجانبية القريبة مني خرجت عربة تعدو نحوي كالريح ، لحظات حتى وجدت نفسي أحلق بالفضاء ، ثم أهبط سريعا مرتطما بقوة على أرضية رصيف ، بعد لحظات صرت جثة هامدة ،إلا أني بالرغم من ذلك كنت أسمعهم ، بل أشاهدهم .. بداخل العربة وهم في ذروة نشوتهم وفرحهم ، يصفقون فرحا ، يرددون أغنية من كلمة واحدة :

ـــ لقد مات .. لقد مات .. تررا تررا.. تررم تررم .. لقد مات .

لقد كانوا متأكدين من موتي ، ربما يعود ذلك إلى خبرتهم بالقتل ...

يا إلهي ، إني أشم رائحة ( ماء ورد ) ، ثمة من يرشه على قبري ويمسح به صورتي ، كما أشم رائحة البخور التي تزاحمت مع رائحة(ماء الورد) لاحتلال فضاء قبري .. ترى من يفعل هذا ؟.. نعم إنها هي ، هذا هو صوتها .. أعرفه جيدا ، أنها تكلمني بصوت عذب حنون .. يا الهي .. هل يمتلك الإنسان كل تلك القدرة على هذا البكاء الهائل ، والنحيب الموجع ؟ .. هل أستحق منك كل هذا ؟ .. ( أزهار ) لم أعلم انك كنت تحبينني كل هذا الحب ، نعم كنت اشعر بك وأنت تنظرين الي خلسة عبر فتحة صغيرة من باب بيتكم ، غير أني كنت أعتبرك جارة فضولية لا غير.

آه يا ( أزهار ) لو علمت بحبك لي في وقت مبكر لكنت زوجتي ، وستكونين دون شك زوجة وفية لي ، على العكس من زوجتي التي ما أن علمت بضياع فحولتي حتى غادرتني سريعا وذهبت دون أن ادري إلى أين . آه يا ( أزهار ) لو تعلمي كم اعشق الأزهار.. إني أحلم الآن بأننا قد تزوجنا ، وأنجبنا ولدا أسميناه (ورد ) وبنت كالشمس أسميناها ( ورود ) .. آه يا ( أزهار ) لو تمكنت من العودة للحياة لفعلت الكثير ، ولكن هذا من المستحيل ، يا ألهي أرجو أن تعيد النظر في أمري .

إني أستغرق الآن في ضحك عميق ، فلو علم أصدقائي وآخرون ، باني أردد كلمة (( إلهي )) بين الحين والآخر ، لقالوا ساخرين :

ـــ أخيرا قلتها ، يبدو أن القبر قد علمك الكثير.

إلا أني في حياتي لم أكن بعيدا عن الله ، فقد كنت أراه في كل شيء جميل ، غير أني لم أبح بذلك لأي أحد .. ربما لكوني أميل إلى الصمت ، أو لانشغالي في قراءة كتب الفلسفة والروايات ، أو لخوفي من يقولوا عني مجنون .

الآن ينتابني هاجس بأني لست ميتا .. الهاجس لم يعد هاجسا ، بل أشعر بأنه حقيقة .. نعم أنها كذلك ، والدليل بأني أتحدث أليكم الآن ، كاشفا لكم كل ما يجول في دواخلي . يا إلهي ، كيف نسيت ؟! ، أني عاشق كبير ، وأبجدية الحياة علمتني أن العاشقين لا يمكن للموت أن يأخذهم .


( أنتهت )

منور ناهض الخياط


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى