أمير ناظم - ناي القاميل.. قصة قصيرة

بعد أن كان هائمًا بنغمات الناي في منطقة بعيدةٍ غربيّ العراق، حيث السهول الصالحة للرعي وسراحة المواشي؛ افترش "أرسلان" أرضًا مستوية وجلس متربعًا وهو ينفض التراب من على نايه السحري القديم، وبينما كان مستأنسًا بتأمل لون قصبته الصفراء المصنوعة من نبتة القاميل في أراضي القوقاز؛ حاول رفيقه همّام أن يخطفه من بين يديه، ولكنه أخفاه في جلبابه السميك بحركة متقنة وهو يصرخ بهلع:
ـــ لا يا همّام، إنه هدية من جدّي... ليس للعب!
فضحك همّام مستخفًّا به واقترب رافعًا يديه ليعلن عن استسلامه، ثم مدّ رجليه مستلقيًا بجانبه وهو يقول:
ـــ حقًّا؟ هذا الناي أهداك إياه جدُّك؟
ـــ نعم.
وتجنّب أرسلان أن يسترسل بالكلام وأطرق في اخضرار السهول وسعادة المواشي المنتشرة إلى حدّ البصر وهي ترعى.
ـــ لماذا تقدّس الناي أنت وأجدادك؟ أيعقل أن يكون الناي أهمّ من أرض الوطن؟ أنتم الشركس نسيتم أرضكم بسهولة وتحتفلون يوميًّا بتأليف الأغاني والموسيقى الجديدة. يا لكم من شعب بائس!
ـــ حتى لو تحدثتُ، لن تفهم. أفضّل الصمت على أن أعرّض نفسي وتاريخ شعبي للسخرية.
فاعتدل همّام وجلس على ركبتيه:
ـــ يا رجل، أنا رفيقك الوحيد في هذا الفضاء الشاسع، أنا وأنت نرعى معًا منذ شهور ونتقاسم الألم، فكيف أقلل من شأنك يا شريكي وصديقي الذي آمنه على روحي؟
وطأطأ همّام رأسه وأردف:
_ إنه الفراغ والملل، لا أدري كيف أنفق الوقت وأنسى ما حلّ بأسرتي بعد الموت المفرط في عشيرتي عندما تفشى وباء الإرهاب في هذه المناطق الواسعة من غربيّ العراق...
وسرح همّام بخياله قليلًا ثم أكمل:
ـــ أفصح يا صديقي، كلُّنا ضحايا هذا العالم لو انتبهت... أمّا إن شئت السكوت... فَلَكَ ذلك.
واتّكأ على كتف أرسلان بيده اليسرى ونهض ليبتعد كي لا يتفاقم الوجع في سريتيهما، وأمسى وجهُهُ لوحةً تجريدية تعبّر عن شرود في أمكنة ضائعة، غير أنه أُسقِط أرضًا على حين بغتة، فالتفت ليجد وجه أرسلان الذي لا يخلو من الحزن المشوب بابتسامة يائسة يمعن النظر إليه، مادًّا يده المرتعشة لتجرّه من ياقته، محركًا رأسه تعبيرًا عن موافقته على الحديث.
*
نحن شعب يعيش حياته على الموسيقى والغناء، يقول أسلافنا إن الصوت أصل الإنسان، وأصل الروح، وبه يعيش الفرد حرًّا. لقد وقعنا -نحن الشركس- ضحية صفقة مشهورة بين الروس والعثمانيين، فحين حاول رجال أرض القوقاز، وهي وطننا الأم، أن يحققوا استقلالهم؛ أجرى السوفيتيون فينا مجازر لا يمكن وصفها، وفي الوقت الذي كان فيه العثمانيون بحاجة لمحاربين؛ عقدوا صفقةً مع الروس وهُجِّرنا على أساسها إلى الأناضول عابرين البحر، مات حينها آلاف المساكين حين غرقت بعض السفن، إذ حمّلوها ما لا تستطيع، ثم انتشرنا في شبه الجزيرة العربية وهنا في العراق نقاتل في صفوف العثمانيين، واندمجنا مع العرب. بيد أنه لا يُخفى بطش الروسيين وقتلهم للآلاف منّا.
وعلى الرغم من أننا لم نترك عاداتنا و تراثنا وتاريخنا، أمسينا من دون أرض ومن دون وطن، لكن أجدادنا يخبروننا دائمًا عن أرضنا التي هي قطعة من الجنة.
فقد قال لي جدي حينما أهداني هذا الناي: عندما تفرغ الله لتوزيع الأراضي على الأقوام والشعوب المختلفة، تخلّفنا نحن لانشغالنا بالرقص والغناء وتأليف الموسيقى، ولما انتهينا، توجهنا لله لنرى أية بقعة من الأرض خُصِصت لنا، لكنّ تخلّفنا عن التوزيع آل إلى أن نبقى من دون أرض، فظللنا نذرف الدموع محزونين لأمدٍ بعيد، فأشفق علينا الرب، ولأنّه لم يجد بقعة شاغرة في الأرض، اجتزأ لنا قطعة من الجنة لنعيش عليها ويخمد بها أحزاننا.
وها نحن أينما حللنا أقنعنا أنفسنا بأننا في رياض الجنة...
هذا هو تراثنا وتاريخنا تناقلناه من جيل إلى جيل، ولكنني، في كل مرة أنفخ فيها هذا الناي السحري عازفًا (لحن الراعي) أشعر بالضياع.
أحيانًا تخفف عليّ وجعي بعضُ موسيقى الصوفيين، لكنني وعائلتي تائهون حقًّا في الأراضي البعيدة يا همّام، وعندما أتخيّل جدّي وهو يودع أرض القوقاز وجبالها الشاهقة وغاباتها الكثيفة ومياهها الوفيرة، ملوِّحًا بيده للخيم والحيوانات التي أحبّها بجدية؛ أحسّ أنني منبوذ متشرد،فالظلم الذي قاساه أسلافنا شربته أرواحنا وسرى بدمائنا.
منذ تلك الأيام ونحن هائمون في الأراضي الغريبة نقاتل مع الشركاء في الإنسانية، ولكننا لا يمكن أن ننسى وطننا، القوقاز.
وساد الهدوء للحظات بين همّام وأرسلان قبل أن يضحكا بهستيرية على نعاجهم التي تحاول القفز من أعلى صخرة كبيرة، فتقع على وجوهها بغباء، ثم نهَضَا ليعودا بقطيع أغنامهم إلى خيمة قريبة من وطن مبهم الملامح.

أمير ناظم
تموز/٧/ ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى