أمير ناظم - ذاكرة السمكة..

كفراشة تتطاير جاءت تهمس للنسمات، أحبه. لم ترتدِ ثوبا طويلا، بل قصيرا كأيام الشتاء، يشد خصرها خيط بنّيٌّ مخالفا لون حذائها البيضاء، غزالة طرية لا تعرف غير الابتسامة، حتى وقعت بين يدي قاتل مأجور، أول عملية إجرامية ارتكبها هي أن قتل أحلامه و وأد أمنيته البكر "الحب" ثم عمد لصوته فعقد أوتاره.
التقت به بعيدا عن المنزل، حيث الزهور، كان يبحث عن نحلة ليغتصبها، إلا أنه وجدها تحاكي رحيق الأزهار، تضفي عطرا على الورود، لم يصدق نفسه حين رأى النرجس و الياسمين يغار من تسريحة شعرها، رغم بساطتها، لقد تأكد الآن وها هي تكتشف جمال الحياة ورونقها، كشمس تفيض نورا و حبا ودفئا، هكذا يراها، تمايلت مع الغصن، لم يستطع تمييز أيٍّ منهما إنسان وإيهما وطن، فقط عيناها اللامعتان ترصدان براكين قلبه وتطفآن تلك الثورة، فتنتظم الدقات كبندول فضي.
اقترب منها مرارا، تناديه بكلتا يديها الرقيقتين، يصل، فيتقهقر، يقول لها: هذا ملح أجاج، وهذا عذب فرات، ويضحك، وتضحك دون أن تفهم القصد.
لا تحفظ حرفا أو تذكر حادثة، ذاكرتها مستوحاة من الأسماك، تفوح عطور العالم بأجمعه حين تجلس وينتشر فستانها الأحمر في المكان كمِبْخَرة.
كلما أراد أن يقول لها : أنتِ جميلة. لا يجزم أن اللغة تعبر عن جمالها بإنصاف، الحواس هي التي تترجم الجمال، العين، اللمس، الشم. تنكسر اللغة في حضرتها، فينزوي ويتذكر أنه عقد وتري حنجرته واختار أن يصمت، فتناديه وتناديه حتى يقصي جسده في جحر الذكريات، ينأى سواد عينيها رويدا رويدا، يخف عبق نفَسِها، تغيب ملامحها، لا يبقى سوى صدى صوت مبحوح يحتكر أنوثة النساء في مخارج حروفه، تعال، مازلتُ معك...
يصمت ويصمت حتى يحتدم الصخب وتتعالى أصوات الباعة الجوالة، يطأطئ رأسه وينتحى جانبا عن الضجيج. اعتاد أن يتلقى الأخبار العاجلة والمؤجلة بروح درويش.. مرددا أغاني المعدمين، وحيدا أشرب القهوة، وحيدا أصنع القهوة، فأخسر من حياتي أخسر النشوة .

ناظم أمير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى